وكالة أنباء التقريب (تنا) :
عندما أتذكر الحروب وأهوالها والخسائر الفادحة التي تخلفها في الأموال والأنفس والآثار الضارة لها والتي تمتد لعقود من الزمن ، أتأمل أسبابها ، فأجد اغلبها بدوافع اقتصادية بغية السيطرة على الأرض والثروات إلا الحرب الطويلة بين سنة المسلمين وشيعتهم أجد أسبابها تاريخية بحتة منشئها الفهم الخاطئ جدا للتاريخ وكيفية تناوله والاستفادة منه، ولان السبب التاريخي لنشوب الحروب يعتبر عارا على أطرافها وسبة على عقول قادتها، فقد لجأ تجار هذه الحرب التاريخية الى صبغها بصبغة دينية و تجنيد الأقلام ورجال الدين لها لتحويلها الى حرب مقدسة وان كانت تزهق الأرواح وتهلك الحرث والنسل وتستهلك الجهد والمال والوقت معا، والعالم يرى ويشاهد ما يحدث من تفجيرات في باكستان وأفغانستان والعراق مصبوغة بطابع الطائفية البغيضة، علما بان الدول الإسلامية التي تعتبر نفسها بمنأى عن هذه الحوادث سيطالها يد الإرهاب في يوم ما إذا لم يتم القضاء على الفتنة واستئصالها من الجذور ، ألم تكن أفغانستان قبل الانقلاب الداودي دولة آمنة لا يكاد يسمع بها احد، ألم يكن العراق في يوم ما واحة للأمن والسلام وحب الإنسان للإنسان، فتحول الى ارض لا ترتوي من الدماء، بسبب تراكمات تاريخية واهية دخلت عليها عوامل معاصرة فزادتها تعقيدا.
ويبدو أن أحد أهم أسباب الفرقة والخلاف هو أننا نتمسك بالأحداث ولا نتبع القادة ،فقد حذر القران الكريم وهو كلام الله تعالى المُلزم لكل احد من الفرقة والخلاف لأنه مدعاة للفشل، ولعل أكثر من ابتلي في التاريخ الإسلامي بالخصومات هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي حذّر من الخصومة بقول له : إن للخصومة قحما ( أي مهالك) ويدعونا الى عدم استهوان التقريب والصلح والوحدة بقول آخر له( وليس رجل احرص على جماعة امة محمد وألفتها مني، ابتغي بذلك حسن الثواب وكرم المآب)، وهو يتعامل مع المخالفين له بهذا الدعاء العذب: وفقنا أن نراجع من هجرنا وان ننصف من ظلمنا وان نسالم من عادانا)، أي لنهجر الماضي وننظر الى المستقبل، والقران الكريم يقول : وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون –التوبة/١٠٩) وفي آية أخرى(ولتنظر نفس ما قدمت لغد- الحشر/١٨) وأما الأمس فليس أكثر من أن نتأمل فيه الحوادث التاريخية وأخبار الأقوام السالفة للاستفادة والاعتبار فقط .
وقد وجدت أن طائفة الاحمدية أذكى من الطوائف الأخرى في هذا الباب فنأت بنفسها من الدخول كثيرا في متاهات الماضي وأغلقت أبواب الخصومة مع الآخرين وتفرغت للدعوة الى معتقدها فنتج الانتشار الواسع والسريع للقاديانية في العالم .
ولعل قيام علماء الزيدية المتأخرين بإجراء بعض التعديلات على المذهب مما قربه الى المذهب السني، قد جنبهم الكثير من المشاكل والصراعات التي لا طائل منها ، وفي هذا استفادة من تجارب الماضي فتعلموا كيف يكونون مع الآخرين رغما عن وجود روايات التنفير والتكفير والكراهية.
وفيما يخص (وأد التاريخ) كمصطلح أقول باني كنت قد دعوت في محاضرة سابقة في العاصمة البريطانية الى وأد التاريخ معترفا بأنه دعوة خيالية نرجسية مستحيلة الغرض منها الخروج من اسر الماضي الى رحاب المستقبل حرصا على جماعة امة محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن هذه الدعوة الهلامية صارت أكثر نقاط المحاضرة تركيزا من قبل الحاضرين، فتأرجح المصطلح عندها بين الحقيقة والخيال، علما بان أصوات العقلاء أمام الكم الهائل من المتناقضات في سجلات التاريخ تتعالى من آن الى آن، البعض يدعو الى قراءة جديدة للتاريخ فيما يدعو آخرون الى كتابة جديدة له، وما بين القراءة والكتابة دعوت الى شئ بين ذلك عوان، ألا وهو وأد حقيقي لأحداث التاريخ لأنه آخر الدواء وآخر الدواء الكي طالما أن تلك الأحداث تؤدي الى مذابح وإراقة دماء ، وسيكون (وأد التاريخ) عملا إصلاحيا كبيرا بعد الإفساد الذي حصل (و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها- الأعراف/٥٦) وطالما أن الشيعة والسنة لا يعذرون بعضهما في قضايا الماضي ، وهم الأولى والأجدر فدينهم يدعوهم الى ذلك صراحة ، لا سيما بان هناك أحداث في التاريخ الإسلامي يجب تجاوزها ونسيانها وعدم إخبار الأجيال عنها منها السقيفة والجمل وفدك وغيرها لأنها نزاعات كانت بين الطبقات العليا من الصحابة وأقربهم الى عهد الرسالة .
إن هذه الأمة منذ مئات السنين لم تستطع أن تقوم بقراءة هادئة عقلائية مسئولة للتاريخ ولا استطاعت أن تعيد كتابة التاريخ وحذف كل ما من شأنه إثارة العامة والانتقاص من رموز كل طرف وحذف جميع المساوئ والإبقاء على المحاسن فقط بل الزيادة عليها ولو كذبا لان الكذب في إصلاح ذات البين جائز كما هو واضح، وتلقين الأجيال بإتباع سياسة العفو و(الله عفو يحب العفو) وقد عفا الرسول عليه الصلاة والسلام عن من قاتلوه وقتلوا أهله وأصحابه، والإمام علي عليه السلام عفا عن أهل الجمل ، والحسن عفا عما سلف وهكذا نعفو ونترك الحساب الى يوم الحساب اعني الآخرة ، فالدنيا عمل بلا حساب والآخرة حساب بلا عمل .
ألم تنس الدول الغربية حروبها العالمية المدمرة ؟
ألم ينس أكراد العراق خلافاتهم ومشاكلهم التي استمرت لسنين طويلة من اجل الغد الأفضل والمصلحة العامة؟
ألم تنسى الألمانيتان خلافاتهما ؟
ثم ماذا يعني استذكار ما حدث في صفين والجمل ، وما الفائدة إذا كانت تسبب حساسية قاتلة ، فهذه دول الغرب لا تستذكر التاريخ على طريقتنا ولكنهم يقرؤونه للمتعة الذهنية وأما الدروس فقد تم استخلاصها والاستفادة منها ، فنحن لا نستطيع أن نقرا التاريخ للتاريخ ، بل نقرأه للانتقاص من الشخصيات وإذكاء الخلافات.
الأسبان وأدوا التاريخ وهم لا يحتاجون الى وأده بسبب الروح الرياضية التي يتحلون بها ، وقد التقيت مرة احد الأسبان وسألته عن حقده على العرب الذين حكموا بلاده فقال مبتسما : لماذا نحقد على أناس غادرونا بذكر أحداث عفا عليها الزمن بل نحن نذكر وجودهم من خلال آثارهم العمرانية الرائعة.
البابا وأد التاريخ بتبرئة اليهود من صلب المسيح.
الإمام علي وأد التاريخ في مواضع كثيرة ولا سيما في الجمل
الرسول الأكرم فعلها في فتح مكة بقوله: (اذهبوا وانتم الطلقاء)
التوبة النصوح تئد تاريخ المذنبين
الحج يئد ماضي الإنسان ويعيده كما ولدته أمه
السجاد لم يتعقب قتلة أبيه
أطراف الحربين العالميتين وأدوا التاريخ.
إن وأد التاريخ ليس هروبا كما يبدو بل انه شجاعة ، وان كان ولابد من الدوران في متاهات التاريخ والعيش في وهم السنة والشيعة فلنعمل بنصيحة الشيخ الغزالي المعاصر رحمه الله بالالتفات الى بساتين التاريخ وليس مزابله، والتقارب بدلا من اتهام البعض للبعض في أطول نزاع بين الإخوة في العالم ، فهل نزر نحن وازرة الآخرين والله تعالى يقول:ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم الى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون – الأنعام/١٦٤.
ثم أليس تلك امة قد خلت، و ألم يقل عنها الله تعالى (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون- البقرة/١٣٤).
وعندما يقول ( فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون-المائدة /٤٨ ) يعني العمل من اجل المستقبل وترك خلافات الماضي الى الخالق، ألا يعني ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد) العمل للمستقبل؟ ، وهل عملية الإصلاح ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت- هود/٨٨)و(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها- الأعراف/٥٦) إلا عملية مستقبلية يراد منها تقويم الأخطاء ودرء الفساد (ولا تبغ الفساد في الأرض – القصص/٧٧)،(وأصلحوا ذات بينكم )،( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم –الحجرات /١٠ ) ،( وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما- الأنفال/١)
أليست هذه كلها دعوات الى وأد الماضي وتبني المستقبل( ألسنا جميعا امة واحدة؟(إن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدون- الأنبياء/٩٢).
ثم أليس تقديم الاعتذار ثقافة عالية سامية لدرء مفاسد اكبر واخطر ، وهل تقدم الدول الاعتذار للدول الأخرى إلا لحصر الخلاف ومنعه من التفاقم كي لا يصل الى حد إراقة الدماء.
لقد حكم العرب اسبانيا لعدة قرون فما شغل الأسبان أنفسهم بالماضي ونحن ما زلنا نحارب على بستان لا نعرف أين موقعه ونجتر أحداثا ذهب أبطالها الى ربهم فظللنا نراوح في مفاهيم الإمامة وهل هي بالشورى آو النص، وهل ولد المهدي فعلا أم انه سيولد في آخر الزمان، وما شأن العوام إذا ما استمات معاوية بن أبي سفيان على الخلافة وحارب من اجلها أو ثار زيد بن علي ومحمد بن النفس الزكية لطلب الرئاسة وهم أناس قد ماتوا واندثروا وربهم أولى بهم يؤاخذهم أو يغفر لهم أو يفعل شيئا آخر بهم غير هذا أو ذاك، وما يعنيني هو الغد ، هو المستقبل فالأجيال أمانة في الأعناق.
اكرر مرة أخرى وأخيرة بان (وأد التاريخ) مجرد دعوة هشة وان كانت مطلوبة لان القوة الثالثة اعني القوى الظلامية الباطنية التي تريد للأمة أن تعيش في التاريخ وتراهن على الماضي لجعل الأمة تعيش في التاريخ هي أقوى من القوى الأخرى وأكثر سطوة وتمويلا، ونظل نأمل أن تقرر الأمة الإسلامية وتختار ما تريد : الحاضر أم المستقبل ؟.
د. حسين أبو سعود