الحاكم المفتن هو الذي يقتل الناس جميعا من خلال الإذلال والإخضاع والتسخير، وتحويلهم إلى مطايا تدور كيفما دار هواه.
الحكام يخلقون الفتن والتمزيق
18 Apr 2011 ساعة 12:40
الحاكم المفتن هو الذي يقتل الناس جميعا من خلال الإذلال والإخضاع والتسخير، وتحويلهم إلى مطايا تدور كيفما دار هواه.
وكالة أنباء التقريب (تنا) :
اعتمدت الأنظمة العربية عبر سنيّها سياسة "فرق تسد" من أجل إطالة أمد حكمها، وإحكام سيطرتها على الناس ومقدراتهم المختلفة.
لم تنجح هذه الأنظمة منذ استلامها الحكم في تنفيذ وعودها للجماهير والتي تتلخص في إقامة العدالة الاجتماعية وتوفير الأمن والأمان للناس، وتحقيق الازدهار والتقدم؛ وإنما نجحت بتفوق في تحقيق الهزائم والإحباطات والتخلف في مجالات الحياة.
وكان عليها أن تتبع العديد من السياسات التي من شأنها تورية الفشل، وصد الناس عن الثورة، وتخويفهم من التمرد والعصيان، فكانت الأجهزة الأمنية الطاغية، والحرب الاقتصادية على المعارضين، وسياسة التمزيق الاجتماعي وتفتيت النسيج الأخلاقي.
لم تكن الأنظمة وحدها هي التي حرصت على سياسة "فرق تسد"، وإنما ساعدتها في ذلك قيادات طائفية ومذهبية وقومية وحزبية حرصا منها على مصالحها واستمرارها في السيطرة.
كان التمزق الطائفي والقومي والمذهبي خادما جيدا للزعماء الذين لم يكن ليكون لهم شأن لو كان الشعب موحدا متكاتفا ومتضامنا. وقد دفعت الشعوب العربية ثمنا باهظا في النفوس والممتلكات لقاء سياسات التمزيق، وعانت كثيرا من الأحقاد الداخلية والضغائن والثارات.
تمزق الدولة القُطرية
بوجود هذه الأنظمة العربية والقيادات الطائفية والمذهبية، لم يفشل العرب فقط في إقامة الوحدة القومية، وإنما فشلوا أيضا في وحدة الدولة القُطرية. لم تكن الأنظمة العربية معنية بالوحدة العربية لأن في ذلك ما يؤدي إلى زوالها، ولم تكن القيادات الاجتماعية معنية بوحدة الوطن لأن سلطانها سيتهدد.
رفع العرب شعارات الوحدة من المحيط إلى الخليج، وهتفوا من أجلها وتظاهروا، وتفاءلوا بتحقيقها، لكن قسوة الأنظمة كانت أبلغ من الآمال والطموحات، فاندحر الناس إلى حد البحث عن وحدة وطنية تتآكل مع الأيام.
ومع الأيام، وجدوا الوحدة الوطنية تتفكك في العراق والسودان ولبنان وفلسطين ومصر والجزائر والصومال واليمن، وتحول الهمّ من وحدة العرب، إلى وحدة الإقطاعيات.
أثار كل نظام عربي مع كل مأزق سياسي أو اجتماعي مرّ به الثارات القديمة بين القبائل والطوائف والمذاهب، وعملت أجهزة الأمن وعلى رأسها أجهزة المخابرات على بث الفتن والمنازعات والاقتتال من أجل أن يكون النظام السياسي هو المرجعية وهو الحكم، وهو الأب الحاني الساهر على راحة المواطن.
فظهرت في وجوه العرب مسألة السني والشيعي، والسني والعلوي، والسني والزيدي، والمسلم والمسيحي، والماروني والأرثوذوكسي، والعربي والكردي، والعربي والأمازيغي، والمسلم العربي والمسلم غير العربي، والفلسطيني والأردني، والشمالي والشرقي والغربي والجنوبي، والحارة الفوقية والحارة التحتية، والبدوي والمدني، إلخ.
أخذت شعوب الأرض تتخلص من النزعات العنصرية الداخلية، والعرب أمعنوا في تفتيت أنفسهم.
أمراء الفئوية الاجتماعية والسياسية
لم يختلف زعماء الطوائف والقبائل والمذاهب والأحزاب عن الحكام كثيرا. أحاط كل زعيم من هذه المكونات السياسية والاجتماعية والدينية بمجموعته، وأوهمهم بأنه يدافع عن مصالحهم وبقائهم، ويحفظ لهم حقوقهم.
ومن أجل تمكين إحاطته، لم يتورع عن صناعة أوهام العداء مع الفئات الأخرى في المجتمع، ولم يتوقف عن التحريض وزراعة الحقاد والبغضاء والكراهية حتى بات العداء الداخلي بين الفئات المختلفة أشد وأقسى من العداء مع العدو الخارجي.
لقد قسا اللبنانيون بعضهم على بعض في حربهم الأهلية، ولم يجبن الفلسطينيون في قتالهم الداخلي، واستنزف السودانيون من أنفسهم الدماء والأموال ووحدة البلاد، وهكذا فعل الجزائريون واليمنيون والمصريون والعراقيون.
هذه هي عقلية أمراء الطوائف والمذاهب والقبائل التي لا مكان لها في أجواء الحرية والعمل الجماعي والتعاون المتبادل والاحترام المتبادل بين الناس جميعا.
لم تختلف قيادات الأحزاب العربية في تصرفاتها عن القيادات الاجتماعية البائسة. لقد ظهرت الأحزاب العربية من أجل أهداف عظيمة تتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية، أو السير في البلاد نحو النمو الاقتصادي، أو تحقيق الوحدة العربية، أو إقامة الدين السمح وتحقيق العدالة الإلهية، أو تحرير فلسطين، إلخ.
لقد رفعت الشعارات الجذابة، وألهبت الجماهير بخطاباتها الرنانة، لكنها انتهت محنطة مكتفية بمكتب هنا أو هناك، وببعض العناصر النشيطة التي لا تتقن سوى إصدار البيانات الباهتة التي لم تعد الجماهير تثق بها.
حتى أن أغلب قيادات الأحزاب السياسية قد تقربت من الحاكم العظيم لكي تنال رضاه، أو تحظى ببعض نعمه المالية والسياسية.
لقد تحولت الأحزاب مع الزمن إلى مجرد هياكل فارغة من المحتوى، تساهم مباشرة في تمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي. وخير دليل على ذلك هو تخلفها عن الثورات العربية التي انطلقت دون درايتها.
الفتنة أشد من القتل
هناك من يظن أن الفتنة تتعلق بفضح المستور، وأن الفتان أو المفتن هو الذي يبحث عن خطايا النظام أو الحاكم أو السلطان ويفضحها في العلن، ويطالب الناس بالوقوف في وجهها ومحاسبة المسؤول عنها.
هذه ليست الفتنة، وإنما هي أحد واجبات المسلم عندما يرى الظلم والاستعباد ونهب أموال العباد. من واجب المسلم أن يصحح الظالم، وذلك بالقوة إن لم تنفع معه الحسنى، وفي هذا ما يمنع الفتنة التي هي بالفعل أشد من القتل.
قد يقتل شخص شخصا آخر، وهذا ظلم كبير، لكن الظلم الأكبر والأشد هو فتنة الناس أجمعين وذلك بنهب أموالهم، ومنعهم من المشاركة في تقرير مصيرهم، والاستبداد في حكمهم، والحيلولة دون إقامة العدالة فيما بينهم، إلخ.
هذه هي الفتنة، والتي تعني وضع الناس في حالة كارثية تحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق، وإلى ذل لا تطيقه النفوس. الحاكم المفتن هو الذي يقتل الناس جميعا من خلال الإذلال والإخضاع والتسخير، وتحويلهم إلى مطايا تدور كيفما دار هواه.
كنت من الذين واجهوا شعار الفتنة أشد من القتل عندما صدر بيان العشرين في فلسطين والذي انتقد الفساد الذي نشرته السلطة الفلسطينية. لقد أخرجت السلطة جماهيرها المؤيدة لها في مدينة رام الله عام ١٩٩٨ تندد بالفضيحة التي تحدث عنها البيان، وتدعو الناس إلى عدم السير بالفتنة.
لقد استعملوا الدين للكذب على الناس ولإغراقهم بالمزيد من الفتن والفوضى والتيه والضياع، والناس لم يتحركوا دفاعا عن مصالحهم لأن رجل الدين الضال كان قد شرح لهم بأن مواجهة المسؤول الظالم والفاسد عبارة عن فتنة.
أخلاق الثائرين العرب
كانت أخلاق الثائرين العرب بارزة في مختلف الثورات العربية، ومتفوقة حضاريا على أخلاق آخرين يعيشون حالات من الاستقرار والرخاء.
ولا بد أن أداء وسلوك وتصرفات هؤلاء الثائرين قد شدت انتباه المهتمين على المستوى العالمي سواء كانوا من رجالات الفكر أو السياسة أو الإعلام، وأوقفتهم للتفكير في الأسباب التي تكمن وراء رقي الأداء وحكمة التصرف وحسن التدبير على الرغم من غياب قيادات للثورات، وعدم توفر التخطيط المسبق.
لقد انبثقت الثورات بهدوء وتؤدة ووقار وهيبة وعزيمة، وكان لها وقع مؤثر في نفوس العرب جماعات وفرادى، وفي نفوس المتابعين على المستوى العالمي، ولم يملك الآخرون إلا الانحناء أمام هذا الوعي العربي العميق.
(لو) عدنا في التاريخ إلى الوراء لنقارن الثورة الفرنسية بالثورة التونسية أو الثورة المصرية لوجدنا الفارق الهائل في الأداء والإدارة والتوجه.
لقد غيرت الثورة الفرنسية وجه أوروبا، لكن دما كثيرا قد نزف في فرنسا ودول غربية أخرى، واشتعلت حروب حصدت الأخضر واليابس.
وإذا نظرنا إلى إسبانيا وطريقتها في التغيير لوجدنا أن سفك الدماء كان عنوان المختلفين والمتصارعين. أما شباب العرب فتصرفوا بمسؤولية وحرص شديدين يندر أن يكون لذلك مثيل في التاريخ. وإذا كان الدم العربي قد نزف وخاصة في ليبيا فذلك ليس بسبب الشباب الثائرين، وإنما بسبب همجية ووحشية الأنظمة العربية.
وهنا من المهم رصد الرقي الأخلاقي العربي بالملاحظات التالية:
العلو فوق الطائفية والتمزيق
منذ اليوم الأول لمظاهرات تونس، وشباب العرب يصرون على الوحدة الداخلية ورفض التجزئة القبلية والطائفية وما شابه ذلك. لقد خرج الشباب متظاهرين بصوت واحد ينادي بحقوق للجميع بدون استثناء أو تمييز. وقد أكد شباب مصر على هذا عندما أقروا بأنهم جميعا مصريون لا يفرقهم مذهب أو دين. تظاهر المسيحيون والمسلمون، ولم تشكل صلاة أي مجموعة في ميدان التحرير أي تحفظ أو ضغينة، بل كانت الصلوات رمزا للوحدة.
وفي الأردن، تجاوز المتظاهرون ذلك المسلسل العفن الذي يمايز بين فلسطيني وأردني، ولم تتطور النعرة إلا على أيدي المخابرات الأردنية التي أرادت أن تضعف إرادة المتظاهرين من خلال سياسة "فرق تسد". وبالرغم من ذلك، وقف أردنيون ينددون بهذا المنحى التمزيقي الذي يسيء للفلسطينيين والأردنيين على حد سواء.
لكن الأسمى تمثل في العراق إذ اكتشف العراقيون أن جريهم وراء أمراء الطوائف والمذاهب والقبائل والأحزاب قد أذاقهم الويلات والفقر والذل والهوان، واكتشفوا أن ثرواتهم قد تبخرت، ووحدتهم قد تفككت، وزعماءهم ما زالوا يحرضون على الفساد والفتن.
ومن الوارد جدا أن يستعيد العراق وحدته ووئام أبنائه بفضل إصرار الشباب على طرد الاحتلال وإزاحة الفاسدين الذين لا ينتعشون إلا بسفك الدماء وبث بذور الفرقة والاقتتال.
لم يكن اليمن مختلفا على الرغم من أن الشعب اليمني مسلح بأسلحة خفيفة ومتوسطة، لكن السلاح بقي في البيوت ولم يظهر في الشارع إلا سلاح الطاغية.
التفوق على الزعماء
من الواضح أن الشعب العربي متفوق على قياداته في كل نواحي الحياة وبخاصة الناحية الأخلاقية. الحاكم العربي منحط وفاسد ومقترف للموبقات، بينما العربي مهذب وقور محافظ على المصلحة العامة، ويتصرف بمسؤولية.
الحاكم العربي يفتح النار على المتظاهرين المسالمين من أجل كرسي الحكم، والعربي يواجه الرصاص بصدر عار دفاعا عن الأمة. هذا زعيم عربي يبيع أمته وشعبه في سوق النخاسة، وهذا شاب عربي يصر على كرامة أمته وعزتها وتقدمها.
لقد حرص زعماء العرب على إفساد الشعوب، وتحويلها إلى مجرد حيوانات مستهلكة يبحث كل منها عن مصالحه الخاصة. وقد اتبع الحاكم العربي مختلف أنواع السياسات ليجعل من العربي انتهازيا وأنانيا وجشعا وشهوانيا لا تهمه عزة أو كرامة أو مصلحة عامة، لكن الصدور كما يبدو قد ضمت في داخلها عكس ما أراد الحكام، فما أن انطلقت المظاهرات في الشوارع العربية حتى رأينا العربي الحقيقي الذي زورته سنين القمع والطغيان.
الإصرار على المبدأ والموقف
لم تشهد الساحة العربية إصرارا على مبدأ أو موقف على مدى سنوات طويلة، ولم يكن العربي يأخذ المبادئ المنطوقة مأخذ الجد لأنه كان يعي تماما أن المنطوق شيء والمفعول شيء آخر تماما.
لقد شبع العرب شعارات رنانة، ووعودا كاذبة، وتزيينا للقبح، وتشريفا للعهر. لكن الثورات أثبتت أن الشعوب إن قالت فعلت، وإن وعدت أوفت. لقد ثابر الشباب العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وغيرها على نشاطهم، وأصروا على مواقفهم، وعاهدوا الأمة على الاستمرار حتى تحقيق جميع مطالبهم.
لم يشهد التاريخ صبرا جماهيريا ومثابرة وإصرارا كما هو الحال في البلدان العربية. تمر الأشهر الطوال، وفي فصل الشتاء البارد، والشباب لا يبرحون أماكنهم، ولا يغادرون مطالبهم. وتضطر في النهاية الحكومات المؤقتة أن تلبي المطالب، وتكرر تأكيد حرصها على السير تدريجيا في تحقيق المطالب.
ويلاحظ هنا أن شباب العرب لم يبيعوا أنفسهم لنظام. لقد اعتدنا في الساحة العربية على قادة أحزاب وقبائل وطوائف يبيعون أنفسهم للنظام لقاء مال أو جاه أو منصب، وعلى حكام يبيعون أنفسهم لدول أخرى مثل أميركا وإسرائيل، لكن الثورات العربية لم تشهد شبابا يبيعون قضاياهم ومبادئهم للأنظمة العربية. لقد أنِفوا كل الإغراءات والمغريات، واستمروا ثابتين لا يهابون الانتقام والتنكيل.
الشجاعة تتقدم على الخوف
لا يوجد في الأرض من لا يخاف، لكن العرب كانوا متهمين من قبل شعوب أخرى بالجبن بسبب الهزائم العسكرية التي منيت بها الأمة في ميادين الحرب، وبسبب سطوة الحكام واستبدادهم.
ظنت شعوب، ومعها نسبة لا بأس بها من العرب أن العرب أموات ولا خير فيهم، وسيبقون مستعبدين ومنهزمين إلى الأبد. لكن الثورات العربية قلبت كل الانطباعات والتصورات، وأكد العربي شجاعته وحكمته أمام الرصاص والدبابات.
لقد شاهد العالم بأم عينه إقبال العربي على المواجهة يقينا منه أن الحياة تتطلب التضحيات، وأن الحرية لا تستجدى وإنما تنتزع. لقد غلبت الشجاعة الخوف، وثبت أن هذه الفضيلة العظيمة لم تغادر قلوب العرب.
صناعة التاريخ
طالما قال المنهزمون إن الأعداء أقوياء والطامعين بالأمة أشداء، وإنه لا أمل للعرب في النجاة أو النهوض، وهم بالتأكيد سيبقون مطايا لأهل الغرب وإسرائيل.
لقد افترض هؤلاء انقراض العرب لأنهم قرروا البقاء في الماضي الذي يدوسه المستقبل. لكن شباب العرب أيقنوا أن التاريخ تصنعه السواعد القوية، ومن يقرر صناعة الحدث لا تعوقه قوى الأرض مهما عظمت. قرر شباب العرب أن يعيشوا حاضرهم، وأن يصنعوا مستقبلهم، فصنعوا للأمة تاريخا نراه الآن ينبثق تدريجيا على رؤوس الأشهاد.
عبد الستار قاسم
رقم: 46407