أ.د. أسعد السحمراني أستاذ العقائد والأديان في جامعة الامام الأوزاعي - بيروت
لقد قام المجتمع الإسلامي الأول على التآخي الذي أصلّت له السنة النبوية في إطار تفصيل ما جاء في القرآن الكريم تأصيلاً في قوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ (سورة الحجرات، الآية: ١٠). والأخوة هي أكثر الصلات رسوخاً وديمومة، ولا تدانيها أية رابطة أخرى، وهذا الأخوة التي جاءت تقيم نسيج المجتمع الإسلامي على ركائز متينة لا تهدف إلى التمكين الاقتصادي فقط، كما ذهب بعضهم في تفسير العلاقة عندما فسروا الواقعة على أنها قادت إلى اقتسام الإمكانات المادية من قبل أنصاري مع واحد من المهاجرين ممن كان نصيبه التآخي معه، وما يعطي الواقعة تفسيراً مختلفاً التآخي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والإمام علي كرم الله تعالى وجهه وهما مهاجران، والتآخي بين حمزة وزيد بن حارثة رضي الله عنهما، وهما مهاجران كذلك.
تأسيساً على ما تقدم تكون الأخوة أساساً في مجتمع تشكل فيه وحدة العقيدة والشريعة الأصل في الروابط كلها، وعليها تنبني رابطة لا انفصام لها، فالمتآخون والمتحاربون في الله تعالى معاً في الدنيا والآخرة. والأمر الثاني هو ما سيكون أثناء مسار العلاقة الأخوية التي قامت بالاختيار وأخوة النسب تقوم بالاضطرار، رابط متين وتبادل للأفكار والأفاهيم يجعل المجتمع مستقراً، ويطرد كل نزعة شيطانية لأنه مع الأخوة لا يكون مكان لشياطين الأنس أو الجن ليعيثوا فساداً في الأرض، ولينفثوا سموم الفتنة بين الصفوف التي التزم أهلها خط الإيمان، فالشيطانيون بعضهم ظهير بعض كما أن المؤمنين إخوة متحابون في الله تعالى.
٢- صحيفة المدينة: أما الاتجاه الآخر للوحدة على مستوى مجتمع المدينة وفيه غير مسلمين وأغلبهم من أتباع اليهودية، ويوجد مشركون ومسيحيون ومجوس فقد كان دستور المدينة المعروف باسم "الصحيفة"، وقد كانت الصحيفة أشبه ما تكون بميثاق وطني ودستور حدّد ثوابت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وانطلقت مسيرة المجتمع المستقر لولا أن يهود المدينة مارسوا الخيانة والغدر مما أفسد هذا الميثاق: "الصحيفة".
إن الصحيفة جاءت تقول: إن وحدة المسلمين في المجتمع التأسيسي في المدينة المنورة ليست موجهة ضد من يعيش مع المسلمين من أتباع العقائد الأخرى، فالإسلام يقرّ التعددية والتنوع، وإذا قامت العلاقات والمواثيق على أساس من الثوابت والمرتكزات المتوافق عليها، فإن سيرورة المجتمع تنطلق وتدوم بالاتجاه السليم ما لم يفسد ذلك الاستقرار في العلاقات خائن أو من ينقص هذه المواثيق.
٣- غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع: ثم كانت محطة مهمة في أساليب معالجة الفتن، وقد حدثت الواقعة في ماجريات غزوة بني المصطلق، وتسمى غزوة المريسيع، وكانت في شهر شعبان من العام السادس للهجرة. سرد الواقعة ابن اسحاق فقال: "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: (سمّن كلبك يأكلك)، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. ثمّ أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم اموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن آذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس."
ويكمل ابن اسحاق قائلاً: "حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله[٤] أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فمُرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافرٍ، فأدخل النار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل تترفّق به، وتحسن صحبته ما بقي معنا.
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنّفونه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف نرى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف، لو أمرتُها اليوم بقتله؛ قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري."
إن غزوة بني المصطلق أو المريسيع تحمل معاني كثيرة في إطار إثارة الفتن، وفي كيفية المعالجة، وتستحق أن يتوقف عند وقائعها الغيارى على الأمة، وعلى وحدة الصف والكلمة ليستفيدوا منها الأساليب السليمة في وأد الفتن وحفظ الوحدة.
إن أحداث ووقائع الغزوة تفيد ما يلي: أ-إن المطالب الدنيوية تكون –غالباً- السبب في تنازع الناس، وفي غزوة المريسيع كان الازدحام على الماء مادة لإثارة الفتنة.
ب-لقد شكلت العصبية والنزعة الفئوية عود الثقاب الذي أوقد نار الفتنة، وكان ذلك حين أثار كلّ من المتنازعين عصبية، فكان الخطاب: "يا معشر الأنصار"؛ و"يا معشر المهاجرين".
ج-إن طلاب المناصب يستغلّون عصبياتهم، ويسخرونها من أجل مطالبهم الشخصية، وهذا ما كان من عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان قومه يصنعون له تاج الزعامة فيهم قبل الإسلام، وباستجابتهم للدعوة الإسلامية أدرك أنه قد خسر المنصب والمكاسب، وقد أضمر شراً للإسلام والمسلمين فجّره لحظة وجد الفرصة، وهذا يوجب على أهل الرأي والمتقدمين في مؤسسات المجتمع أن ينتبهوا لمثل هؤلاء الأشخاص، وأن يعملوا على معالجة ما في صدورههم من أحقاد ونزعات عدوانية إما بالاقناع والاستمالة، وإن لم يكن ذلك فبمحاصرتهم وتخفيف تأثيرهم على الآخرين، وبتفكيك العصبيات التي يزكونها ليستقووا بها عندما تكون الفرصة سانحة.
د-إن الإنسان المؤمن لا تكون عنده مواقف شخصية ولا حسابات تتعلق بمصالح شخصية عند الاقتضاء، وإنما يقدم انتماءه لدين الله تعالى، ويكون انحيازه على أساسٍ من ذلك، ولا مكان عنده لموقف بسبب عصبية أو قرابة أو غير ذلك، وهذا ما كان من الصحابي عبد الله تجاه والده الذي هدّد وتوعّد مستعيناً بعصبيته من الأنصار وأهل المدينة، وقد طلب الصحابي المؤمن عبد الله أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل والده كي لا يثير قتله على يدي سواه عصبية عنده فيقوم بالثأر، ويكون قد عصى الله تعالى.
هـ-تحتاج معالجة المواقف الانفعالية إلى حكمة وحلم من قبل القائد، وإن الموقف يوم هذه الغزوة يعطي دروساً مستفادة من الهدي النبوي. فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم أن يرتحلوا قبل الوقت المعتاد، ثم تباطأ بهم في السير كي يصلوا إلى المدينة، وقد هدأت حدّة الغضب عندهم مما يسهّل الحلّ. و-الموقف الذي يتخذه القائد لمعالجة مشكلة ما قد لا يكون محل قبول تام عند الأصحاب، وبعد أن تظهر صوابيته يسلّم به الجميع، وهذا ما ختم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحوار حين قال: "قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري".
خاتمة وتوصيات: تشكل الوحدة الإسلامية مقصداً رئيساً من مقاصد المؤمنين الذين التزموا أمر الله تعالى: ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ (سورة الأنفال، الآية: ٤٦). وإذا كان البحث قد جعل موضوعه مسألة صناعة الوحدة ووأد الفتنة من مرجعية السنة النبوية الشريفة، فإن المراجع يجد أحاديث نبوية شريفة كثيرة توجه إلى الوحدة والتآخي، منها: - "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات بوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة." - "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث."
- وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع جاء الآتي: "لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض". تأسيساً على ما تقدم يخلص البحث إلى التوصيات الآتية: ١- إن الوحدة الإسلامية بعيداً من التعصبات الرديئة، وكل أشكال الفتنة والشقاق، أمر إلهي، وهدي نبوي، ومصلحة للأمة تتحقق من خلالها سعادة الدارين: الدنيا والآخرة، ومن سعى في فتنة أو عصبية يكون شيطانياً، ومن التزم الوحدة وسعى لها سعيها يكون رحمانياً.
٢- إن الصهيوأمريكان يرون في الإسلام سدًّا منيعاً أمام مشروعهم الاستعماري، وقد تطابقت رؤاهم في مشروع أطلقوا عليه اسم: "الشرق الأوسط الجديد"، ويعملون من خلاله لتفتيت الأمة العربية مع عدد من الدول الإسلامية هي: إيران وتركيا وباكستان وسواها، إلى دويلات مذهبية وعرقية وطائفية، ولوأد هذا المشروع الاستعماري لا سبيل سوى تمسك أبناء الأمة العربية والعالم الإسلامي بالوحدة.
٣- وحدة المسلمين ليست شعاراً، ولا عنواناً للمزايدة، وإنما هي فعل إيمان وممارسة، وهي فضاءات تنطلق في أرجائها حركات اجتهاد وفقه من الشريعة، وهذا الفقه يتبلور في مذاهب ومدارس، وهو مختلف ومتنوع وهذه سنّة الله تعالى في خلقه لقوله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾ (سورة هود، الآية: ١١٨). لكن هذا الاختلاف هو غير الخلاف لأن الخلاف لدد وخصام، بينما الاختلاف تنوع وتعددية تحت سقف الوحدة.
٤- ليست وحدة المسلمين حالة عصبية موجهة ضد الآخرين غير المسلمين، ونموذج صحيفة المدينة المنورة زمن النبوة جاء يؤسس للمجتمع التعددي على مستوى العيش الوطني، ووحدة المسلمين واستقرار اجتماعهم البشري على أسس الأخوة والمودة والألفة يفتح الطريق للعيش مع غير المسلمين في مجتمع مستقر على أساس العدل والحق وحفظ كرامة الإنسان.
٥- تشكل المرجعية الشرعية قرآناً وسنة مصدراً للوحدة، ويليها في المرجعية المأثور الإيجابي، وما وصل من طريق السلف الصالح، وهناك مرجعيات معاصرة أبرزها المشروع المعنون: "استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية" التي أصدرتها "منظمة المؤتمر الإسلامي" من خلال "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (isesco) في العام ٢٠٠٤، واعتماد هذه الاستراتيجية مع الانتاج الفكري الإيجابي للمفكرين المعاصرين يؤمن السبيل للسير بالأمة بالاتجاه الوحدوي. وبمقابل ذلك نحتاج إلى مراجعة نقدية للموروثات الميتة التي ينبشها بعضهم رغم نتنها وشيطانيتها، أو أن أعداء الامة يسخرون بعض المرتزقة للقيام بهذه الوظيفة التآمرية، وتراهم يثيرون نيران الفتن باسم محاكمة التاريخ وأشخاصه، أو من خلال طرح أفاهيم مغلوطة لبعض الأمور في الفكر الديني، حيث يعمدون إلى ليّ أعناق النصوص، وتحميلها ما لا تحتمل كي تكون المفاهيم الشوهاء خادمة لمقاصدهم الفتنوية.
ختاماً: الدعوة للجميع بأن الواجب الشرعي يقضي بالتزام خط الوحدة، ورابطة الأخوة، والسلوك القائم على الحب في الله تعالى. وفي الحديث القدسي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله (تعالى) يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلا ظلّي." وفي الحديث القدسي أيضاً: "عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزّ وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء."