وهذا الطلب أو قيل هذا الإكراه من المأمون يعود إلى أن الخليفة العباسي أدرك ما للإمام من قاعدة شعبية واسعة فأراد بهذا الإقدام أن تستتب أمور خلافته، وأن يسترضي الأمة التي كانت تنظر إلى أئمة آل بيت رسول الله (ص) بعين الرضا والتقدير، وترى أنهم أولى من غيرهم في قيادة أمور المسلمين، لما تلمسته منهم من علم وتقوى واستيعاب للرسالة الإسلامية.
ولم يقتصر ذلك على مذهب دون مذهب، ولذلك حين رحل الإمام إلى خراسان تلقته جماهير الأمة في البلدان التي مرّ بها بالألتفاف وطلب الحديث والاصغاء الى مايقول. ودوّنت بذلك مما أفاض به الإمام، من ذلك حديث سلسلة الذهب المشهور الذي حدّث به في نيسابور من مدن خراسان.
أراد المأمون العباسي لأسباب تُذكر في كتب السِيرَ والتاريخ أن يكون للإمام الرضا حوار مع أصحاب الملل والنحل، وهذا القسم من سيرة الإمام مع المتحاورين أبرز ما وصلنا عنه عليه السلام.
والحوار من أهم عوامل الحراك الحضاري في الثقافة الإسلامية، وهو يعني اصغاء الطرف الأول إلى كلام الآخر، فإن كان صحيحًا قبله، وإن لم يكن في رأي هذا الطرف الأول صحيحًا أبدى له رأيه وذكر أدلة عدم القبول وهكذا يستمر تبادل الرأي والرأي الآخر، دون أن يتعصّب طرف إلى رأيه، ودون أن يكون له رأي مسيق في الرفض أو القبول.
وهذا نابع من التوجيه القرآني الذي يقول فيه النبي (ص) لمن يعارضه من المشركين ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ مع أن الرسول (ص) كان واثقًا كل الثقة بصحة ما يقول وخطأ وضلال من يعارضه، لكن الله سبحانه علّمه أن لا يواجه خصمه بالجزم على أنه خاطئ وضال، بل أن يعامله بأدب في إعطائه الحق على احتمال أن يكون على هدى!!
بهذا الأدب القرآني تعامل الإمام الرضا(ع) في مجالس الحوار التي عقدها مع أمثال الجاثليق ورأس الجالوت وعمران الصابئ، والهربذ الأكبر في التوحيد عند المأمون، ودار الحوار فيها حول مواضيع عقائدية حساسة، وتوصل الحوار إلى النتائج التالية:
1 – اثبات نبوة خاتم الأنبياء (ص) من الكتب السماوية نفسها .
2- ابطال عقيدة التثليث عند النصارى.
3- الردّ على المجوس.
4- الردّ على الصابئة.
5- الرد على الزنادقة.
ونجح الإمام في هذه المناظرات كلها بسبب انتهاجه الأسلوب العقلي المنطقي المستدل في إطار الحوار الهاديء الرصين البعيد عن التعصب والبعيد عن رفض الآخر والاستهانة برأيه.
نحن اليوم بحاجة ماسّة إلى هذا النهج في التعامل بين المذاهب الإسلامية وفي التعامل بين الأديان، وبدون ذلك لا يمكن أن يتحقق الأمن والسلام والتعايش في المجتمع.
والذي يعيق هذا اللون من التعامل مع الآخر هو طاغوت «النفس» الذي هو أفظع ألوان الطاغوت وبدون اجتناب هذا الطاغوت وبدون الإنابة إلى ربّ السماوات والأرض لا يمكن أن ينفتح الإنسان على الآخر، ولا أن يسمع كلام الآخر. ولا يمكن أن تناله بشرى ربّ العالمين.
وهذا كله مذكور بوضوح وتسلسل رائع في القرآن الكريم حيث يقول :
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾.
وسيرة الرضا(ع) في رفض التعصب لا تنحصر في الحوار بين الأديان والمذاهب، بل بين أصحاب المذهب الواحد أيضًا، فهو (ع) ينحو باللائمة على الغلاة في مذهب آل البيت (ع) ويذمهم ويعلن البراءة من أعمالهم. وفي الرواية أن الإمام قال:
«إن من تجاوز بأمير المؤمنين (علي عليه السلام) العبوديّة (أي إنه عبدالله) فهو من المضغوب عليهم ومن الضالين. وقال أمير المؤمنين عليه السلام : لا تتجاوزوا بنا العبودية (أي لا تقولوا أكثر من أننا عبيدٌ من عباد الله).. وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإني بريء من الغالين».
هكذا موقف مدرسة آل بيت رسول الله من الآخر، تنهاه حتى في غلوّه بحبّ آل البيت. إنه الالتزام الصارم بالرسالة الإسلامية وبتوحيد الله سبحانه وتعالى والتعامل مع الآخر بعقلانية ودون تعصّب، ودون أن يكون طاغوت النفس عاملاً في هذا التعامل.
وفي ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع) (11 ذي العقدة من عام 148هـ) نجدّد عهد الالتزام بما أراد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة من تعامل على أساس الحكمة والموعظة الحسنة، وأن نكون زينًا لأهل البيت(ع) لا شينًا عليهم؛ وبالله التوفيق.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية