العلامة والفيلسوف الرحل السيد محمد حسين الطباطبائي
فقال الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( دَعُوْه ، فإنّ الذي يريده الإعرابي هو الذي نريده من القوم)(في يوم الجمل) ! ثمّ قال : يا إعرابي ، إنّ القول في إنّ الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ، ووجهان يَثبتان فيه ، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : ( واحد ) ، يَقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أَمَا ترى أنّه كُفْر مَن قال : إنّه ثالث ثلاثة ؟ وقول القائل : ( هو واحد من الناس ) ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك .
وأمّا الوجهان اللذان يَثبتان فيه فقول القائل : ( هو واحد ليس له في الأشياء شبه ) ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : ( إنّه عزّ وجل أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وَهْم ، كذلك ربّنا عزّ وجل ) .
أقول: ورواه أيضاً في المعاني بسند آخر عن أبى المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه (عليه السلام).
وفي النهج :
( أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاَصُ لَهُ ، وَكَمَالُ الإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ ؛ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ فَقَدْ قَرَنَهُ ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ ) ( الخطبة ) .
أقول :
وهو من أبدع البيان ، ومحصّل الشطر الأوّل من الكلام أنّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه ، ومحصّل الشطر الثاني المتفرّع على الشطر الأوّل ـ أعني قول الامام علي (عليه السلام) : ( فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ فَقَدْ قَرَنَهُ ... إلخ ) ـ أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقّفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى ، وتنتج المقدّمتان أنّ كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العددية منه ، وإثبات الوحدة بمعنى آخر ، وهو مراده (عليه السلام) من سرد الكلام .
أمّا مسألة نفي الصفات عنه ، فقد بيّنه الامام علي (عليه السلام) بقوله : ( أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ) ؛ لظهور أنّ مَن لم يعرف الله سبحانه ـ ولو بوجهٍ ـ لم يحلّ بعد في ساحة الدين والمعرفة ، ربّما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال وترتّب آثار المعروف ، وربّما كانت من غير عمل ، ومِن المعلوم أنّ العلم فيما يتعلّق نوع تعلّق بالأعمال إنّما يثبت ويستقرّ في النفس إذا ترتّب عليه آثاره العملية ، وإلاّ فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالِفة حتى يبطل أو يصير سُدىً لا أثر له ، ومِن كلامه (عليه السلام) في هذا الباب ـ وقد رواه في النهج ـ : ( الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ ) .
فالعلم والمعرفة بالشيء إنّما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صِدْقاً ، وأظهر ذلك في باطنه وظاهره ، وجِنانه وأركانه بأنْ يخضع له روحاً وجسماً ، وهو الإيمان المنبسط على سِرّه وعلانيته ، وهو قوله : ( وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ) .
ثمّ هذا الخضوع المسمّى بالتصديق به وإنْ جاز تحقّقه مع إثبات الشريك للربّ المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله ولسائر آلهتهم جميعاً ، لكنّ الخضوع بشيء لا يتمّ من غير انصراف عن غيره بالبداهة ، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره والاستكبار في الجملة عنه ، فلا يكمل التصديق بالله والخضوع لمقامه إلاّ بالإعراض عن عبادة الشركاء ، والانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة ، وهو قوله : ( وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ) .
ثمّ إنّ للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض ، ولا يكمل حتى يُعطَى الإله الواحد حقّه من الإلوهية المنحصرة ، ولا يقتصر على مجرّد تسميته إلهاً واحداً ، بل يَنسب إليه كلّ ما له نصيب من الوجود والكمال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وأنْ يخصّ الخضوع والعبادة به ، فلا يُتذلّل لغيره بوجهٍ من الوجوه ، بل لا يُرجَى إلاّ رحمته ، ولا يُخاف إلاّ سخطه ، ولا يُطمع إلاّ فيما عنده ، ولا يُعكَف إلاّ على بابه .
وبعبارة أُخرى : أنْ يخلص له عِلْماً وعملاً ، وهو قول الامام علي (عليه السلام) : ( وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاَصُ لَهُ ) .
وإذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص ، وضمّتْه العناية الإلهيّة إلى أولياء الله المقرّبين ، لاحتْ على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحقّ المعرفة ، وتوصيفه بما يليق بساحة كبريائه وعظمته ، فإنّه ربّما شاهد أنّ الذي يصفه تعالى به معانٍ مدركة ممّا بين يديه من الأشياء المصنوعة ، وأُمور ألِفَهَا من مشهوداته الممكنة ، وهى صور محدودة مقيّدة يدفع بعضها بعضاً ، ولا تقبل الائتلاف والامتزاج ، انظر إلى مفاهيم الوجود والعلم والقدرة والحياة والرزق والعزة والغنى وغيره .
والمعاني المحدودة يدفع بعضها بعضاً ؛ لظهور كون كل مفهوم خلوّاً عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة ، فإنّا حينما نتصوّر العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم ، وإذا تصوّرنا معنى العلم ـ وهو وصف من الأوصاف ـ ننعزل عن معنى الذات وهو الموصوف .
فهذه المفاهيم والعلوم والإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جلّ شأنه حقّ الانطباق ، وعن حكاية ما هو عليه حقّ الحكاية ، فتمسّ حاجة المخلص في وصفه ربّه إلى أنْ يعترف بنقصٍ لا علاج له ، وعجزٍ لا جابر دونه ، فيعود فينفي ما أثبته ، ويَتِيْه في حيرة لا مخلص منها ، وهو قوله (عليه السلام): (وَكَمَالُ الإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ؛ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ).
وهذا الذي فسّرنا به هذا العقد من كلامه (عليه السلام) هو الذي يؤيّده أوّل الخطبة حيث يقول : ( الَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ ، وَلاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ ) على ما يظهر للمتأمّل الفطن .
وأمّا قوله (عليه السلام) : ( فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ فَقَدْ قَرَنَهُ ... الخ ) ، فهو توصّل منه إلى المطلوب ـ وهو أنّ الله سبحانه لا حدّ له ولا عدّ ـ من طريق تحليل إثبات الوصف ، كما كان البيان الأوّل توصّلاً منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف .
فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ فَقَدْ قَرَنَهُ ؛ لِمَا عرفتَ من المغايرة بين الموصوف والصفة ، والجمع بين المتغايرين قَرْنٌ ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ؛ لأخْذه إيّاه موصوفاً وصفة وهما اثنان ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ إلى جزأين ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ بالإشارة إليه إشارة عقلية ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ؛ لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المُشار إليه عن المُشِيْر حتّى تتوسّط بينهما الإشارة التي هي إيجاد بعد ما بين المُشِيْر والمُشَار إليه ـ يبتدئ من الأوّل وينتهي إلى الثاني ـ وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وجعله واحداً عدديّاً ، لأنّ العدد لازم الانقسام والانعزال الوجودي ، تعالى الله عن ذلك .
وفي النهج : من خطبة له (عليه السلام) :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً ، وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً ، كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ ، وَكُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ ، وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ ، وَكُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ ، وَكُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ ، وَكُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ ، وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الأَصْوَاتِ وَيُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا ، وَكُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الأَلْوَانِ وَلَطِيفِ الأَجْسَامِ ، وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ بَاطِنٌ ، وَكُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ ) .
أقول : بناء البيان على كونه تعالى غير محدود وكون غيره محدوداً ، فإنّ هذه المعاني والنعوت وكل ما كان من قبيلها إذا طرا عليها الحدّ كانت لها إضافة ما إلى غيرها ، ويستوجب التحدّد حينئذ أنْ تنقطع وتزول عمّا أضيفتْ إليه ، وتتبدّل إلى ما يقابلها من المعنى .
فالظهور إذا فُرض محدوداً كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شيء دون جهة أخرى وشيء آخر ، وصار الأمر الظاهر باطناً خفيّاً بالنسبة إلى تلك الجهة الأخرى والشيء الأخر ، والعزّة إذا أخذتْ بحدٍّ بطلتْ فيما وراء حدّها فكانت ذلّة بالنسبة إليه ، والقوّة إذا كانت مقيّدة تبدّلتْ بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفاً ، والظهور بطون في غير محلّه ، والبطون ظهور في الخارج عن مستواه .
والملك إذا كان محدوداً كان مَن يحدّه مُهيمِناً على هذا المالك ، فهو وملْكه تحت ملك غيره ، والعلم إذا كان محدوداً لم يكن من صاحبه ؛ لأنّ الشيء لا يحدّ نفسه ، فكان بإفاضة الغير وتعليمه ، وهكذا .
والدليل على أنّه (عليه السلام) بنى بيانه على معنى الحدّ قولُهُ : ( وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الأَصْوَاتِ ... الخ ) ، فإنّه وما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدوديّة المخلوقات ، والسياق واحد .
وأمّا قوله (عليه السلام) : ( كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ ) ـ والجملة هي المقصودة من نقل الخطبة ـ فبناؤه على معنى الحدّ ظاهر ، فإنّ الوحدة العددية المتفرّعة على محدودية المسمّى بالواحد لازمه تقسّم المعنى وتكثّره ، وكلّما زاد التقسّم والتكثّر أمعن الواحد في القلّة والضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة ، فكلّ واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي بإزائه ولو بالفرض .
وأمّا الواحد الذي لا حدّ لمعناه ولا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة ؛ لعدم احتماله طروّ الحدّ وعروض التميّز ولا يشذّ عن وجوده شيء من معناه حتى يكثّره ويَقوى بضمّه ، ويقلّ ويضعف بعزله ، بل كلّما فُرض له ثان في معناه فإذا هو هو .