نشرت جریدة الحیاة البیروتیة بتاریخ اول رمضان ۱۳۹۱ الموافق ۲۱ اکتوبر ۱۹۷۱ رسالة الإمام موسى الصدر بمناسبة بدء شهر رمضان المبارك والذي ذكر فيها: إن صيام شهر رمضان وسائر العبادات والشعائر الدينية ليست نشاطًا جسديًا فحسب، إنها حركات تنبع من العقل والقلب وتنصب في القالب الحسي وتقترن معه.ولذلك، فعندما تصدر بمعزل عن مشاركة القلب أو العقل فهي جامدة باهتة تقليدية تشغل ولا تعمل.
نص الرسالة:
أيها الإخوة المؤمنون
ومرة أخرى أقبل علينا شهر رمضان المبارك بلياليه الملهمة، وبأيامه المعلِّمة وبأجوائه العابقة بالذكريات والعِبر والدافعة إلى الحزم والانضباط.
ومرة أخرى نصوم، نحيي الليالي، نعظّم الشعائر ونحتفل بالعيد فرحين راضين ثم نعود إلى حياتنا العادية، وهكذا تتكرر السنون وينمو حجم الذكريات. ويخشى أن يكون الصيام قد أصبح عادة جامدة وتصبح شعائره تقاليد مسلّية ويكون قد تفرّغ شهر رمضان عن جميع معانيه الأصلية....
تُرى هل فقدنا فاعلية الدين وتأثير تعاليمه في حياتنا؟ وهل انتهى دوره القيادي في توجيه الإنسان وتحول إلى طقوس وذكريات وترف! أو كان دور تعاليم الدين في الأساس دور تعزية وكان شاملًا لأطراف حياة الإنسان حيث كانت المصائب شاملة، أما الآن فقد تمكن الإنسان من التغلب على كثير من مشاكله ومصائبه، فهل تقلّص دور الدين؟ أم ماذا؟
أيها الإخوة المؤمنون
فلنطرح هذه الأسئلة المحرجة على أنفسنا قبل أن تُطرح علينا. والحقيقة أن هذه الأسئلة وأجوبتها طُرحت، ولكننا تجاهلناها وغضضنا الطرف عنها وتخطينا رهبة التحدث عنها لكي نواجه رهبة الواقع المرير.
أيها المؤمنون
هل نجد في صومنا آثاره وفي صلاتنا معراجها؟ هل تعيشون في فطركم وأضحاكم معاني الأعياد وفعاليتها؟ هل نتفاعل جميعًا مع الشعائر ونتأثر بالأماكن؟ وهل وجدنا في الأقصى والقيامة معانٍ كانت تتوفر لأمتنا حتى إذا طُعنّا فيهما نعيش خسارتهما ومحنتهما؟
هذه تجاربنا المرة المؤلمة خلال واقعنا المر المؤلم، فلنُعِد تقييم تعاليم الدين في نظرة موضوعية شاملة بجرأة وتبصر، لعلنا ننطلق من جديد ونبعث فيها الحياة. ولنعطِ من وجودنا للدين ولتعاليمه السامية مكانها المترفع الشامل ولنسمح له بأن يُحدد أبعاد وجودنا ويُوحد كثرتنا ويجمع تفرقنا.
أيها المؤمنون
عندما نعيش الفكر الديني وتعاليمه في حياتنا كلها، في بيتنا، في سوقنا، في مكاتبنا، في ساحاتنا، عندما نفك الحصار عن الإحساس الديني المسجون في معابدنا ونسمح له بأن يخرج إلى حياتنا العامة لكي يرفع ويمنع، يؤثر ويوجه. عندما نعطيه المجال، ولا نحاول بعزله تقليصه والقضاء عليه، عند ذلك فقط نجد آثار هذه الثروة الهائلة في حياتنا وفي بناء حضارتنا.
أيها الإخوة
إن صيام شهر رمضان وسائر العبادات والشعائر الدينية ليست نشاطًا جسديًا فحسب، إنها حركات تنبع من العقل والقلب وتنصب في القالب الحسي وتقترن معه. ولذلك، فعندما تصدر بمعزل عن مشاركة القلب أو العقل فهي جامدة باهتة تقليدية تشغل ولا تعمل.
علينا في تجربتنا الجديدة في هذا الشهر المبارك وفي صيامه، أن نشغل عقولنا وقلوبنا إلى جانب أجسادنا. علينا أن نفكر ونتأمل، وعلينا أن نحب ونتحسس وعلينا أن نصب هذا الحب وذلك التأمل في صيامنا. إن تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة قالها النبي الكريم (ص). وهل الدين إلا الحبّ؟ قالها الإمام الصادق (ع). هذا الصيام الحي هو الجُنة من النار وهو أحد أركان الإسلام، وهو ضيافة الله للإنسان وتكريمه له، وهو قدر الإنسان وقدره. رمضان بهذه الصورة فقط، مناخ يتكون فيه الإنسان العزيز فاتح مكة والمنتصر في بدر وصانع التاريخ. رمضان هذا، شهر الألفة والتحسس بآلام الآخرين وموسم تناسي الأحقاد وجمع الصفوف وتوحيد الكلمة والقلوب وبعث الأمة من جديد.
صيام الشهر المبارك بهذا الوضع هو الخطوة الأولى في بناء الأمة وصناعة التاريخ، وهو تدريب للجهاد وتحضير للمعركة وبداية العودة إلى الله، إلى بلاد الله المقدسة، إلى القدس.
إنه وعد الله الحق ولن يُخلف الله وعده فهو القائل عز وجل: ﴿ولينصرنَ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ (الحج، 40-41). /110
کتاب اخلاق الصوم من منشورات مرکز الامام السید موسی الصدر للابحاث و الدراسات- بیروت