ليسمح لي سماحة الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (١٨٧٦ ــ ١٩٥٥) ان استعير جزء من عنوان رسالته الجوابية التي بعثها الى نائب رئيس جمعية اصدقاء الشرق الاوسط في الولايات المتحدة الاميركية، كارلند ايفانز هوبكنز، والمعنونة (المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون) عندما دعاه لحضور مؤتمر لرجال الدين من المسلمين والمسيحيين يعقد في لبنان، في بلدة بحمدون، لبحث القيم الروحية في الديانتين والاهداف المشتركة بينها.
اراني مضطرا لان اقتبس بعض العنوان، وانا ارى بلدنا العراق قد تقطعت اوصاله وتوزعت على عواصم عدة، يحملها السياسيون وهم يجولون عليها بحثا عن مخرج لازمة تشكيل الحكومة المرتقبة، فالحال ذات الحال وان اختلفت الاشياء والعناوين والمسميات، فاذا كان (المسلمون والمسيحيون) آنئذ قد ضاعوا في التيه وهم يبحثون عن المثل العليا، كضمآن يبحث عن ماء وهو واقف بجنب عين زلال، كذا اليوم العراقيون ضاعوا في التيه بحثا عن حل لمشاكلهم، والحل عندهم وبين ايديهم وفي عاصمتهم.
انهم يبحثون عند الانظمة الديكتاتورية الشمولية حلا لديمقراطيتهم الناشئة، وقد نسوا ان فاقد الشئ لا يعطيه، وان الطيور على اشكالها تقع.
اذا كنتم تعتقدون باهمية دور ما وراء الحدود في تشكيل الحكومة المرتقبة، الى هذه الدرجة، فلماذا لا تستضيفوا زعماء هذه الدول الى بغداد، ليتحلقوا حول دائرة مستديرة خلف الابواب الموصدة ثم تمهلونهم بعض الوقت، اياما مثلا، وتهددونهم بانكم سوف لن تطلقوا سراحهم ليعودوا الى بلدانهم قبل ان يتفقوا على حل يناسبهم ينهي ماراثون تشكيل الحكومة المرتقبة.
فمثل ذلك يختزل الزمن ويقلل من الجهود ويسرع في اتفاق (اولي الشان) على تشكيل حكومتنا العتيدة، كما انه يوفر الاموال التي تصرفونها على جولاتكم المكوكية لصالح الشعب.
ولكن...مهلا مهلا:
فاذا لم تجدوا حلا للمعضلة في الدستور، ولا في صندوق الاقتراع، ولا في الشارع العراقي، ولا عند المرجعية، فهل تتوقعون بانكم ستجدون الحل خارج الحدود؟
واذا افترضنا انكم ستعثرون على ضالتكم هناك، فاي نوع من الحكومات هذه التي ستشكلونها بهذه الطريقة؟
قد تخجلون من الافصاح عن ذلك، وتسمية حكومتكم المرتقبة، حسنا، دعوني اقل لكم اي نوع هي هذه الحكومة، انها حكومة تدار من خلف الحدود بجهاز (السيطرة عن بعد).
ان عليكم، بدلا من البحث عن الحقيقة خلف الحدود، ان تتصفوا بالشجاعة والغيرة فيواجه بعضكم بعضا فتجلسوا متقابلين لتتحدثوا وتناقشوا وتتصارحوا وتتلاوموا، الى ان تتفقوا على صيغة معقولة ومقبولة من قبل الاغلبية ان لم تكن من قبل الجميع، وتنهوا المشكلة.
لقد اضاع السياسيون، وهم يدورون في عواصم المنطقة، فرصة تاسيس نظام سياسي ديمقراطي في العراق يمكن ان يكون مثالا يحتذى.
كما انهم عبثوا بصوت الناخب، واهانوا العملية الانتخابية، ولم يحترموا ارادة الشعب، عندما قفزوا على نتائج الانتخابات واطلقوا العنان لخلافاتهم الحزبية والفئوية الضيقة لتسيطر على المشهد السياسي، والانتخابي تحديدا، بشكل مرعب.
انهم سحقوا الدستور باقدامهم، واهانوا دماء العراقيين التي اريقت يوم ان هب الشعب بقضه وقضيضه ليصوت لصالح الدستور.
انهم يبيعون العراق وديمقراطيته الوليدة الى انظمة لقيطة غير شرعية، وراثية بعضها وعسكرية بعضها الاخر، كما انهم فتحوا شهية انظمة لم يدر في خلدها يوما انها ربما تتدخل يوما في الشان العراقي، فلم يبق الا الصومال ان تدلي بدلوها، فتخبرنا ماذا تريد بالتحديد.
ان المضحك المبكي في السيناريو هو ان كل القادة الذين يدورون على عواصم دول الاقليم وغيرها، نسمع منهم عبارة واخرى من المضيف، زعيم تلك الدولة، فاما التي نسمعها من الضيف، السياسي العراقي، فهو قوله بانه يرفض تدخل احد في ازمة تشكيل الحكومة المرتقبة لان ذلك شان عراقي بحت، فلماذا اذن تذهب الى هذه العاصمة او تلك مستجديا موقف ايجابي على حد وصفك؟ واما التي نسمعها من المضيف فقوله، انه يامل في ان تتشكل حكومة شراكة وطنية لا تستثني احدا من القوى السياسية والشرائح الاجتماعية، ويقصد بذلك على طريقة النموذج الممتاز الذي يجري العمل به في بلاده منذ عشرات السنين، ثم يردف بالقول: وان كنا نرى بان موضوعة تشكيل الحكومة هو شان عراقي داخلي لا نريد، ولا نقبل، ان يتدخل به احد غير العراقيين.
وهكذا يتحدث الجميع في حلقة مفرغة، ظنا منهم انهم بذلك يضحكون على ذقون العراقيين، وما يضحكون الا على لحاهم وهم يشعرون.
بعضهم يخرج علينا يوميا ببشرياته التي يزفها الى العراقيين، كون الحكومة ستتشكل خلال الاسبوع القادم، او ازيد من ذلك بقليل، وانا اجرم وبالفم المليان، وانا به زعيم، ان كل من يبشرنا بمثل هذه الطريقة يعرف، قبل غيره، انه يكذب في بشارته هذه، وهي طريقة لامتصاص نقمة الشارع العراقي الذي بدا يتململ من كل هذا التاخير في تشكيل الحكومة المرتقبة، والا بالله عليكم، هل يعقل ان بلدا يمر بكل هذه الازمات والتحديات، يظل بلا حكومة وبلا رئاسة جمهورية وبلا سلطة تشريعية كل هذه المدة من الزمن؟ المدة التي اضاعت لحد الان الكثير من حقوق العراقيين، والتي تقف على راسها ميزانية العام ٢٠١١؟
انني انصح كل السياسيين بان يحذروا من صولة العراقيين، فاذا هم صبروا مدة على كل هذه الازمة التي بدات تؤثر على حياته بشكل مباشر، فانهم سوف لن يسكتوا كل المدة.
في نفس الوقت، انا ادعو منظمات المجتمع المدني تحديدا الى الاستعداد واتخاذ اللازم، للبدء بتنفيذ الخطوات اللازمة من اجل الضغط على السياسيين لوضع حد لهذه الازمة، ان بالعصيان المدني او الاعتصامات السلمية او التظاهرات الشعبية، فلقد خرق السياسيون سفينة الشعب، واذا ما تعرضت للغرق فسوف لن يسلم منها احد، واولهم الشعب العراقي المسكين الذي يبقى هو الضحية الاول بسبب خلافات القادة وفساد السياسيين.
الاعلاميون وكتاب الانترنيت واصحاب الاقلام النزيهة والوطنية الحريصة، عليهم جميعا كذلك الاستعداد لشن حملة اعلامية تفرض اجندات الشعب قبل ان تفرض العواصم اجنداتها على حكومتنا المرتقبة.
ان اية عاصمة ستساهم في قضية تشكيل الحكومة المرتقبة، ستتدخل في شؤونها حتما، اذ ليس هناك من عاصمة تقدم خدماتها ونصائحها الى العراقيين (قربة الى الله تعالى) او لسواد عيونهم، فلكل منها اجنداتها ومصالحها، فما بالك اذا كانت هذه المصالح متناقضة الى حد التقاطع والتخاصم في اغلب الاحيان؟ الا يعني ذلك ان حكومتنا العتيدة المرتقبة ستكون حلبة الصراع المفتوح بين هذه العواصم، او ساحة مفتوحة لتصفية حساباتها؟.
احذركم ان تكرروا النسخة اللبنانية، فكلنا يعرف جيدا بان الحكومة اللبنانية لا تتشكل في بيروت وانما في اية عاصمة يمكن ان يسميها اللبنانيون الا عاصمة بلادهم، ولذلك نراهم متورطون باجندات الخارج التي تفجر الوضع بين الفينة والاخرى كلما اقتضت مصالح هذه العاصمة او تلك ذلك.
لا ادري لماذا يصر الساسة على ان يتحاوروا عبر الفضائيات رافضين في الوقت نفسه الجلوس الى بعض للحوار وجها لوجه للمكاشفة التي تختزل الزمن، وتساهم في التقدم بالمفاوضات الى الامام، اما الحوارات عن طريق ثالث، الاعلام مثلا، او اجهزة مخابرات هذه العاصمة او تلك، فانه لا يزيد الحرب الكلامية الا اشتعالا، كما انه يباعد بين الفرقاء لانه يزيد من نسبة عدم الثقة فيما بينهم، وهو بالتالي يعيد الامور بعد كل جولة الى المربع الاول، لانه في كل جولة يبدا الحديث من نقطة الصفر وليس من النقطة التي انتهى عندها الحديث في المرة السابقة، وهكذا بلا نتيجة حاسمة.
اتمنى ان يتحلى السياسيون، ولو لمرة، بالشجاعة الكافية ليصارحوا شعبهم، او على الاقل ناخبيهم، فيقولوا مثلا بان جولاتهم على عواصم المنطقة الغرض منها تلقي الدعم لاجنداتهم الخاصة وليس كما يدعون لتقوية العلاقات الثنائية.
الغريب، ان تصريحات مختلف المسؤولين في مختلف العواصم نسخة واحدة طبق الاصل، تتكرر بمضمونها وفحواها وان اختلف المتحدث في كل مرة.
واقول مرة اخرى:
ان الحكومة المرتقبة يجب ان تتشكل في بغداد لا في بحمدون، والحل بين ايديكم ايها السياسيون، فلا تستجدوه من وراء الحدود، فان ذلك لعب بالنار، ستحترقون بها اذا عاندتم.
٢١ تشرين الاول ٢٠١٠