إنّ أوّل ما نلتقي به من نصوص الحج هو النداء الأوّل الذي وجّهه الله للنبي إبراهيم عليه السَّلام في دعوة الناس إلى الحج.. وذلك في قوله تعا لى {وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍ عميقٍ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}[الحج:٢٧ ـ ٢٨ ] .
فإننا نجد في هذا النداء دعوةً إلى أن يشهدوا منافع لهم من دون تحديد لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بالانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كل المجالات النافعة التي يمكن لهم أن يحققوها من خلال الحج في حياتهم الفردية والاجتماعية إلى جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله في أيّام معدوداتٍ، شكراً لنعمه وتعظيماً لآلائه وتطبيقاً لتعليماته في توجيه هذه النعمة إلى ما أراده من الإنفاق على الفئات المحرومة البائسة.
١ـ ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السَّلام فيما حدّث به هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت ؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق.. (إلى أن قال)وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجار من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال ولتعرف آثار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وتعرّف أخباره، ويذكر ولا ينسى. ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج..
٢ـ عن الفضل بن شاذان عن الإمام علي الرضا عليه السَّلام قال: إنما أُمروا بالحج لعلّة الوفادة إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من اخراج الأموال وتعب الأبدان والأشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس [الانفس] عن اللذات، شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممّن يحج وممّن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع مشترٍ وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقُّه ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقعٍ وناحية كما قال الله عزَّ وجلَّ :{فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}[التوبة ١٢٢]، و{ليشهدوا منافع لهم...}[الحج:٢٨] .
الحجّ ملتَقى المسلمين
إننا نستوحي من هذين الحديثين، أن الإسلام أراد للحج أن يكون ملتقىً للمسلمين جميعاً في شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التعارف والتواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصادية والاجتماعية لمن حجّ ولمن لم يحج، وتبادل التجارب والخبرات المتنّوعة، التي يملكها كل فريق من خلال أوضاعه العامة والخاصة.. وتسهيل حركة الدعوة إلى الله بالانطلاق من موسم الحج للاتصال بكل المناطق الإسلاميّة التي تتمثّل بأفرادها، الذين يقصدون بيت الله الحرام؛ لأداء الفريضة فيما يتعلمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمالٍ وخططٍ على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا.. لينطلق العمل الإسلامي من قاعدة مركزّيةٍ واسعة.. في أجواء الإسلام التاريخية التي شهدت مولد الدعوة وعاشت حركيتها، وحقّقتْ أهدافها الكبيرة في جهادها المرير الصعب، فيكون التحرك في الخط من موقع الفكرة والجوّ والخبرة المتبادلة والمعاناة الحاضرة.
وهكذا يعيش الناس فيما يقصدونه من مزارات أجواء الإسلام الأولى، التي يعيشون معها الإحساس بالانتماء الروحي والعملي لهذا التاريخ، مما يوحي لهم بأن الإسلام الذي ينتمون إليه يمتدّ إلى تلك الجذور العميقة في أعماق الزمن، وبأن عليهم أن يعطوا هذا التاريخ امتداداً من خلال جهادهم ومعاناتهم. كما استطاع المسلمون أن يحققوا لهم هذا الامتداد الذي يتصل بمسيرتنا الحاضرة.. وبذلك لن تكون الزيارات تقليداً يفقد معناه، وعبادة تتجمد أمام المزار؛ لتنفصل عن معنى التوحيد العميق؛ الذي يخلص العبادة لله دون غيره، ولا يتحرك نحو جهةٍ أو شخصٍ أو عمل إلا من خلال تعاليم الله التي أنزلها على رسوله.. الأمر الذي يعطي كل تحرّك معناه الروحي، فيما تعطيه حركة التاريخ من مضمون انسانيّ اسلاميّ، يغني التجربة، ويعمّق الإيمان.
الحج لقاء اسلاميّ يستهدف إلغاء كل الفوارق الطبقية واللونية والعرقية والإقليمية.. من خلال التفاعل الإنساني الروحي الذي تحققه هذه اللقاءات التي تتمّ في أجواء روحية خالصة .
المصدر : بينات