القضية التى يعالجها هذا المقال بالغة الخطر، وهى تناقش منطق المجرمين عبر الدول والتاريخ. فقد تذرع كل المجرمين القادة بأنهم ارتكبوا جرائمهم دفاعاً عن الوطن وأمنه وحتى دفاعاً عن نظامهم مادام الوطن هو هذا النظام فى رأيهم، ولذلك صار أمن الدولة هو أمن النظام وصار رمزاً لكل هذه المعانى. فى النظم الديمقراطية يكون أمن الوطن هو أمن النظام لأن النظام يحتمى بالقانون ويحترم القانون الذى وضعه ممثلو الوطن، ولايستطيع حاكم فى دولة ديمقراطية أن يبرر جرائمه مهما ساق من مبررات. وقد حفل التاريخ بهذه النماذج الشاذة، وأحدثها نماذج فى دولة ديمقراطية على اختلاف فى معنى الديمقراطية ومغزاها فى كليهما ونعنى بها أمريكا وإسرائيل.
ففى واشنطن، صدرت مذكرات الرئيس بوش مؤخرا وأخطر ما تضمنته حول الإرهاب أن الرئيس كان يشجع على سبل تعذيب المتهمين بكل السبل ومنها الإيهام بالغرق، وبرر الرئيس ذلك بأنه كان يريد أن ينتزع الاعتراف من الإرهابيين وتعذيبهم حماية لوطنه وردعا لهم بقطع النظر عن الجوانب الأخلاقية والقانونية لهذا العمل وإدانة منظمات حقوق الإنسان له. وبنفس المنطق برر بوش المحاكم العسكرية ومعتقل جوانتانامو والسجون السرية المنتشرة فى كل مكان ومنها أوروبا الغربية الديمقراطية.
ولهذا الاعتراف وجهان: الأول يتعلق ببوش ورؤيته للمصلحة الوطنية للولايات المتحدة، وهو أمر لاخلاف على أن كل وطنى يود أن يحمى بلاده من المخاطر. أما الوجه الثانى فهو الجانب الأخلاقى والجنائى، إذ لا شبهة فى أن هذا الاعتراف يتيح مقاضاة الرئيس بوش أمام المحاكم الجنائية الدولية والوطنية، لأنه لا يقبل من الناحية القانونية الدفع بحالة الضرورة الملجئة التى دفعت بوش إلى الأمر بالتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان حتى لو ثبت بعد ذلك أنه مذنب، ولأنه تجاهل المبدأ الأساسى للمشروعية القانونية وبموجبه يظل الإنسان بريئاً حتى تثبت إدانته فى محاكمة عادلة ويبطل كل دليل يتم انتزاعه عن طريق التعذيب مهما كانت فداحة الجرم المطلوب نسبته إلى المتهم.
فقد سبق أن برر الرئيس بينوشيه رئيس شيلى الأسبق جرائمه ضد شعبه والأجانب بأنه يهدف إلى المحافظة على مصالح البلاد، كما برر ميلوسوفيتش رئيس يوغوسلافيا السابق جرائمه ضد المسلمين بأنه حرص على وحدة البلاد ودفع للمخاطر الأمنية. والمعلوم أن جرائم النازى ضد اليهود وغيرهم قد بررت بالدفاع عن المصالح العليا لألمانيا فى زمن الحرب حسبما دفع المتهمون الذين تمت محاكمتهم فى محاكم نورمبرج.
يقابل بوش فى الولايات المتحدة، نتانياهو فى إسرائيل، الذى يعتز علناً بمذبحة شهداء أسطول الحرية، كما يعتبر قتلهم جزاءاً وفاقاً لعدوانهم على إسرائيل، لأن إسرائيل تعتبر السعى لانقاذ سكان غزة من آثار الحصار الظالم المفروض عليهم تحدياً لإسرائيل وتآمر على أمنها يتطلب فرض الحصار على افتراض أن غزة كلها من الإرهابيين، وأن الحصار من الاجراءات الأمنية لمناهضة الإرهاب الذى وقف العالم إزاءه موقفاً منافقاً، فهو من ناحية يدينه ويطالب برفعه، وهو من ناحية أخرى يغمض الطرف عنه كما أغمض الطرف عن جريمة إسرائيل ضد نشطاء أسطول الحرية من المدنيين المتطوعين الأبرياء. وقد توسعت إسرائيل وتجاوبت معها دول غربية وواشنطن باعتبار كل نقد لإسرائيل وسياساتها الاجرامية معاداة للسامية، بل اتهمت عضو مجلس الشيوخ الفرنسى بمعاداة السامية لأنها أنكرت جريمة الإبادة فى غزة. فما هو موقف القانون الدولى من هذه الجرائم؟
لاشك أن القانون الدولى يجرم أفعال التعذيب والعدوان والقتل العمد والحصار المؤدى إلى الإبادة والمس بالمدنيين بأى شكل ومن أى فصيل، ولذلك فإن اعترافات نتانياهو واعتزازه بهذه الجرائم دليل أكيد على ارتكابه الجرائم.
تماماً مثل اعترافات بوش فى مذكراته، ولايدفع هذا الجرم عنهما أن كليهما فى نظم ديمقراطية حيث قواعد المحاسبة والعقاب، وأن كليهما ساق عذرا أسوأ وأقبح من الذنب نفسه.
ولذلك طالبت منظمات حقوق الإنسان بتقديم الرئيس بوش للمحاكمة أمام المحاكم الأمريكية، كما نطالب بتقديم نتانياهو وغيره أمام القضاء الدولى لأن القضاء الإسرائيلى هو جزء من حزمة المشروع الصهيونى.
هذه الأمثلة تقدم دروساً هامة فى مقدمتها أن الجرائم لا يمكن تبريرها وأن الدافع الوطنى لا يمكن أن تطغى قدسيته على بشاعة هذه الجرائم.
والدرس الثانى هو أن النظم الديمقراطية ليست كافية لمنع ارتكاب هذه الجرائم ولكنها تتمتع بنظام قضائى يمكن أن يحاسب عليها.
وفى هذه الحالة تنفرد إسرائيل دون سائر الدول العادية حيث انضم القضاء إلى تبرير جرائم إسرائيل بينما لا يتصور أن يقبل القاضى الأمريكى تبرير جرائم التعذيب التى ارتكبها بوش لمجرد حماسته وغيرته الوطنية.