QR codeQR code

أوغلى :

مؤتمر "دار الكتب المصرية، مائة وأربعون عاما من التنوير"

وكالة أنباء التقريب (تنا)

منظمة المؤتمر الإسلامي , 4 Dec 2010 ساعة 23:50

دار الكتب المصرية ثلاثة كلمات لها صدى شجيّ في النفس، ورنين جميل في الأذن، وحنين دافئ في النفس، شعور لا يعدله شيء آخر ... ربما كان هذا الشعور تعلق شخصي بذكريات عزيزة ولكنه في نفس الوقت تعبير عن تميز موضوعي لمؤسسة فريدة في مسيرة ثقافتنا الإسلامية المتجددة.


ذلك المبنى الجميل الذي يزيِّن ميدان باب الخلق منذ بداية القرن العشرين .. باب الخلق حلقة تصل قاهرة ما قبل القرن التاسع عشر بقاهرة القرن التاسع عشر ويومنا.. ذلك المبنى ذو الشخصية المعمارية يرمز إلى مرحلة تميزت فيها مصر بريادة في حفظ التراث الإسلامي وخدمته باسلوب حديث أقامته على تقاليد علمية راسخة وتراكمات القرون. ذلك المبنى الذي أمَّه العلماء وطالبي العلم من كل أنحاء العالم ووجد فيه كل قاصد بغيته من مصادر العلم وأصوله، وراجع فيه علماء فطاحل ومكتبيين رواد ومحققين ثقاة.

إنني ما زلت أذكر بكل سعادة تلك الأيام في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي التي صحبت فيها أبي وقد انتسب إلى خدمة جانب من التراث الإسلامي هو التراث العثماني الهائل الذي تحفل به دار الكتب ويشكل أكبر مجموعة للمخطوطات والمطبوعات العثمانية خارج مكتبات استانبول. صعدت تلك السلالم الرخامية الشامخة وسرت في ردهاتها الآمنة ... وبدأت استعير منها ما كنت أشغف به آنذاك من كتب الأدب العربي والعالمي وخاصة الروايات... كم كنت أشعر بالفخر بين أقراني تلاميذ المدرسة الخديوية حيث كنت أمتلك ناصية كتب لم تكن في متناولهم رغم مكتبة مدرستنا العامرة. ثم شاءت الأقدار وفجأة بعد وفاة أبي وأنا ما زلت طالبا في كلية العلوم بجامعة عين شمس تحولت دار الكتب إلى مرفأ آمن لي، وجدت نفسي أعمل في نفس المكان الذي كان فيه أبي. إنني أذكر بكل خير تلك الرعاية الأبوية التي حباني بها اثنان من المدراء العامين هم المرحوم عبد المنعم عمر والمرحوم صلاح الدين الحفني..

وجدت نفسي أعمل في أكاديمية رفيعة تعلمت فيها ما لم أتعلمه في أي مكان آخر من معاهد العلم التي انخرطت في سلكها طالبا أو باحثاً أو عضواً في هيئات تدريسها على اتساع ذلك بين بلدان الشرق والغرب. لقد تعلمت في قسم الفهارس الشرقية من أستاذنا المرحوم نصر الله مبشر الطرازي الشئ الكثير... لقد نهلت من ينابيع دار الكتب معلومات لا تدرس في أي جامعة ... ولكن تتعلمها بالممارسة بمزاملة الخبراء والتعامل مع مجموعات المخطوطات والمطبوعات النادرة وأوائل الدوريات ونوادر الكتب والخرائط.

ذلك الرصيد الذي جمعه علي باشا مبارك على أيام الخديوي اسماعيل وحفظه سراي الأمير مصطفى فاضل باشا قبل إنشاء مبنى باب الخلق أيام الخديوي عباس حلمي الثاني. تلك المجاميع الثمينة التي كانت موزعة بين معاهد العلم والمساجد والقصور وكذلك المجاميع الخاصة التي كانت في ملكية الأمير مصطفى فاضل باشا باستانبول وما أهداه كبار العلماء أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي وهواة جمع الكتب أمثال أحمد طلعت والأمير ابراهيم حليم.

كان كل قسم من أقسام دار الكتب وكل غرفة من غرفها تتميز برجال وقفوا أنفسهم لخدمة العلم والعلماء... إنني أرى أمامي الآن القسم الأدبي حيث كان المحقق الكبير محمد أبو الفضل ابراهيم يشرف على إصدار كتاب الخصائص لابن جنى وإنباه الرواة على انباء النحاة للقفطي والمنهل الصافي لابن تغري بردي وغير ذلك من امهات كتب التراث.

ثم هناك قسم الفهارس العربية في منتصف الجانب الأيسر للممر الفخم الذي يقود إلى قاعة المطالعة حيث الأستاذ محمود إسماعيل الذي كان يحفظ عن ظهر قلب أسماء آلاف الكتب والدوريات ولا يبخل على أحد بعلمه والذي طبَع أول فهرس للدوريات العربية الموجودة بالدار.

ثم هناك الأستاذ جمال الدين الشوربجي الذي أعد فهرس أوائل المطبوعات العربية. هل هناك أحد من علماء التراث أو دارسيه لا يذكر الأستاذ فؤاد سيد أمين المخطوطات العربية في مكتبه المتواضع عند مدخل قسم المخطوطات ... وما أصدره من فهارس ونشرات علمية.

كل هؤلاء الرجال وغيرهم كانوا من العصاميين الذين تعلموا فن الفهرسة وخدمة القراء ونشر التراث من أساتذتهم السابقين .. وقدموا لنا مفاتيح ذلك التراث الذي لا غنى لأحد عنها حتى يومنا هذا.

مَنْ مِن محبي فن الخط لا يذكر تلك القاعة الرائعة التي كانت تذخر بنفائس لوحات الخط العربي، حيث كانت النماذج النادرة للبرديات الرقوق من القرون الهجرية الأولى وروائع فن الخط من العهود المملوكية والعثمانية وتركات السلاطين التي وجدت طريقها إلى ذلك المكان الآمن في دار الكتب المصرية.

هل هناك مكتبة في أي معهد للعلم في أي مكان في العالم لا توجد بها تلك المراجع العلمية الأساسية التي بدأت الكتبخانة الخديوية تعنى بها لإحياء الآداب والعلوم العربية منذ عام ١٩١٠... مَنْ من علماء أو دارسي الثقافة الإسلامية يستغنى عن ما نشرته دار الكتب منذ ذلك اليوم من مراجع مثل الأغاني للأصفهاني، صبحي الأعشى للقلقشندي، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، عيون الأخبار لابن قتيبة وما إلى ذلك من امهات الكتب ونفائس الموسوعات. تلك النشرات العلمية الرائدة في فن تحقيق التراث التي تميزت بالدقة البالغة في توثيقها العلمي والمستوى الفني العالي لطباعتها وحروفها الجميلة وإخراجها الأنيق... وبذا تميزت مطبعة دار الكتب المصرية وصارت علما ثانياً في مجال الطباعة بعد مطبعة بولاق التاريخية.

هذه خواطر عن سنوات أربع تشرفت فيها بالانتساب إلى دار الكتب في بداية الستينيات وهي بِضْعَةٌ عزيزة من نفسي.

أما اليوم ونحن في هذه المرحلة الجديدة ونحن نحتفل بمرور ١٤٠عاماً من التنوير، فإنني أنظر إلى مستقبل دار الكتب المصرية في ثوبها الجديد الذي عملتم من أجل إنجازه بكل ما أوتيتم من إمكانات، والذي لم تدخروا فيه مالاً أو جهداً وبذلتم بسخاء؛ أنظر إلى المستقبل الذي نتطلع إليه جميعا حيث يستكمل جيلنا مرحلة الرواد العظام الذين حفلت بهم دار الكتب وأولئك العلماء الذين قصدوها من كل أنحاء العالم..

إنني في موقعي اليوم كأمين عام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وأحد أبناء هذه الدار، أدعو الجميع من علماء وحماة للعلم أن يسارعوا إلى مد يد العون وإلى الحرص على التعاون وأن يكونوا أوفياء لرسالتها وأني يردوا بعض الدين لها...

إن كانت مصر "أم الدنيا" حقاً، فدار الكتب المصرية هي قلب تلك الأم الحنونة وهي ذاكرتها الحية وحاوية تراث دنياها الواسعة التي شملت الشرق والغرب. 


رقم: 33028

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/note/33028/مؤتمر-دار-الكتب-المصرية-مائة-وأربعون-عاما-التنوير

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com