زين العابدين .. رائد الحركة الاصلاحية
لحکمة الهية بالغة ، بقي الامام علي بن الحسين عليهما السلام حيا بعد المجزرة الدموية الاموية التي حلت ببيت الرسالة في کربلاء ، في وضع مأساوي وصفه الامام السجاد (ع) ذاته في جوابه ل(المنهال بن عمر) حين ساله ، کيف امسيت يا ابن رسول الله ؟ قال (ع) :( أمسينا کمثل بني اسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ) .
لقد نجا بقدر الله تعالى ، في حين کان عمره يومها ثلاثا وعشرين سنة ، فقد کان المرض الذي استبدَ به اثناء المعرکة المبرر المنظور لاسقاط واجب الجهاد بالسيف عنه .
وبعد حوادث الطف مباشرة بدأ السجاد(ع) يقود الحرکة الاصلاحية وبمقدور المتتبع ان يلمح في قيادة الامام السجاد (ع) ظاهرتين اثنتين :
الاولى : استکمال الشوط الرسالي الذي بدأه الحسين عليه السلام .
کان بنو أمية والسائرون على خطاهم مدرکين تماما ما للحسين عليه السلام وآل البيت من مکانة لاتضاهيها مکانة في نفوس المسلمين وکانوا يعلمون ان قتل الحسين (ع) واصحابه في کربلاء سيثير سخط المسلمين عليهم، ومن اجل ذلک خططوا للتغطية على هذه الحادثة وبذلوا کل ما بوسعهم لاثارة الضباب ، لکي يمتصوا ايَ ردَ فعل متوقع ، لاسيما في بلاد الشام حصنهم القوي .
وهکذا سخروا اجهزة اعلامهم المتاحة يومذاک حتى اوصلوا الناس الى حد القناعة بان الحسين عليه السلام وصحبه انما هم من الخوارج .
وقد کان مقدرا لتلک الدعاية ان تنجح في الشام الى اقصى حدَ ممکن ، مما کان يفرض القيام بما من شانه ان يفشل الدعاية الاموية واهدافها المسعورة ويکشف بحزم عن اهداف ثورة الحسين عليه السلام وعن مکانته بالذات في دنيا المسلمين وهکذا کان .
تبنى الامام السجاد عليه السلام وحرائر اهل البيت کزينب وام کلثوم وغيرهما ، سياسة اسقاط الاقنعة التي يغطي الامويون وجوه سياستهم الکالحة الخطيرة بها وتحميل الامة کذلک مسؤوليتها التاريخية امام الله والرسالة .
ففي الشام وعند دخول سبايا آل الرسول عليه السلام دنا شيخ من الامام السجاد عليه السلام وقال له : الحمد لله الذي اهلککم وامکن الامير منکم . فاجابه الامام عليه السلام : ياشيخ اقرأت القرآن ؟ قال الرجل : بلى .
قال الامام عليه السلام : اقرأت : (قل لا أسالکم عليه اجرا إلا المودة في القربي)؟ وقرأت قوله تعالى ( وآت ذا القربي حقه ) وقوله تعالى ( واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) . قال الشيخ : نعم قرأت ذلک . قال عليه السلام : نحن والله القربى في هذه الآيات .
ثم قال الامام عليه السلام : اقرأت قوله تعالى ( انما يريد الله ليذهب عنکم الرجس اهل البيت ويطهرکم تطهيرا ).
قال الشيخ : بلى .
فقال الامام عليه السلام : نحن اهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير .
قال الشيخ : بالله عليک انتم هم ؟ .
قال عليه السلام : انا لنحن هم من غير شک .
فأسف الشيخ على ما مضى من قوله وتبرأ الى الله من آل امية وحزبهم . //مقتل الحسين للمقرم// .
ومن اجل کسر التعتيم الاعلامي الاموي وفضح جرائم يزيد وقف الامام السجاد عليه السلام في الحکم الاموي وبحضور يزيد بن معاوية وکل معاونيه من رؤوس التحريف والضلال والقى بيانه الخالد معريا سياسة الامويين الضالة الدموية ومبينا من هم السبايا واي مقام رفيع يمثلون في دنيا الاسلام وقد جاء في بيانه :
( ايها الناس :اعطينا ستا وفضلنا بسبع ، اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين .وفضلنا : بأن منا النبي المختار والصديق والطيار واسد الله واسد رسوله ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول وسبطا هذه الامة) .
(ايها الناس : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي .
ايها الناس : أنا ابن مکة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الرکن باطراف الرداء ،أنا ابن خير من ائتزر وارتدى وخير من طاف وسعى وحج ولَبى ،أنا ابن من حمل على البراق وبلغ به جبريل سدرة المنتهى ، فکان قاب قوسين او ادنى ، أنا من صلى بملائکة السماء ، أنا ابن من أوحى اليه الجليل ما أوحى . أنا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، وابن خديجة الکبرى، انا ابن المرمل بالدماء أنا ابن ذبيح کربلاء) .
وحين بلغ هذا الموضع من خطابه استولى الذعر على الحاضرين وضجّ اغلبهم بالبکاء حين فوجئوا بالحقيقة مما اضطر يزيد ان يأمر المؤذن للصلاة ليقطع على الامام عليه السلام خطبته ، غير ان الامام عليه السلام سکت حتى قال المؤذن (اشهد ان محمدا رسول لله ) التفت الامام السجاد عليه السلام الى يزيد قائلا :(هذا الرسول العزيز الکريم جدک ام جدَي ؟ ) فان قلت جدَک، علم الحاضرون والناس کلهم انک کاذب،وان قلت جدي ، فلم قتلت ولده ظلما وعدوانا وانتهبت ماله وسبيت نساءه ؟ فويل لک يوم القيامة إذا کان جدَي خصمک ) .
اما عقيلات آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد مرَغن أنوف بني أمية في الوحل واسقطن کبرياءهم عمليا امام الامة التي يحکمونها ، تجد ذلک في خطبة زينب الکبرى التي القتها في مجلس يزيد في دمشق وفي المناقشات الحادة التي دارت هناک .
الثانية : تبني منعطف جديد للحرکة الاصلاحية في الامة .
ان المتتبع لطبيعة دور الامام السجاد عليه السلام في الحياة الاسلامية بعد عودته يلمح انه عليه السلام قد رسم منهجه العملي بناء على دراسة الاوضاع العامة للامة بعد ثورة الامام الحسين عليه السلام وتشخيص نقاط ضعفها ومقومات نهوضها .
مارس الامام عليه السلام دوره العلمي في انماء التيار الاسلامي الرسالي الاصيل في الامة وتوسيع دائرته في الساحة وقد ساعد في انجاح عمله ، عاملان اساسيان هما الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي تفجر في اکثر مراکز العالم الاسلامي اهمية وتاثيرا بعد مأساة الطف مباشرة والثاني التجاوب مع اهل البيت عليهم السلام من قبل قطاعات واسعة من الامة وذلک نتيجة لشعور اسلامي بمظلومية اهل البيت عليهم السلام خصوصا بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام .
هذا وقد التزم الامام عليه السلام منهجا محدد المعالم والغايات في دوره القيادي وکان من ابرز حقوله :
١- المهمة التعليمية : اتخذ الامام السجاد عليه السلام من المسجد النبوي الشريف وداره المبارکة مجالا خصبا لنشر المعرفة الاسلامية فشهد طوال خمسة وثلاثين عاما - وهي فترة امامته - نشاطا فکريا من الطراز الاول .
استقطب عليه السلام خلال تلک الفترة طلاب المعرفة الاسلامية في جميع حقولها واستطاع ان يخلق نواة مدرسة فکرية لها طابعها ومعالمها المميزة وتخرج منها قمم فکرية وقادة رأي ورواة محدثون وفقهاء .
٢- تبني مشاکل الجماهير : ابدى الامام السجاد عليه السلام کباقي ائمة اهل البيت عليهم السلام اهتماما متزايدا بالامة ، فرسخ علاقته بها وعمق تعامله مع اوسع قطاعاتها فکان الاب الرحيم والقائد الحکيم الحريص على علاج ادواتها طوال ايام امامته .
٣- احياء ذکرى الحسين عليه السلام : اقام الامام السجاد عليه السلام مأتما دائما في داره لاعطاء الذکرى حرارة دائمة ولتبقى حيَة في ضمير الامة وتاريخها وهي تذکر بالمباديء والقيم الاسلامية التي ثار الامام من اجلها وضحى باهل بيته واصحابه في سبيلها .
٤- الدعاء:حفظت لنا سيرة الامام السجاد عليه السلام نمطا من الادعية بلغ الذروة في الکمال والنضج والشموخ فقد کانت ذات وجهين غاية في الارتباط والتکامل وجها عباديا وآخر اجتماعيا يتسق مع مسار الحرکة الاصلاحية التي يقودها عليه السلام .
وقد جمع ذلک التراث السجادي الخالد ، فحمل عنوان ( الصحيفة السجادية ) المتداولة اليوم بين ايدي المؤمنين وکان هذا التراث يحظى باهتمام متزايد من ائمة اهل البيت عليهم السلام .
من ناحية اخرى وکردّ فعل سياسي اموي تبنى الحکم الاموي بقيادة عبد الملک شعار التصفية للوجود الرسالي ونفذت تلک الخطة من خلال تعيين الجزَار الرهيب الحجاج بن يوسف الثقفي واليا على الکوفة - عاصمة اهل البيت عليهم السلام - .
نشر الحجاج في ربوع الکوفة الدمار واشاع الرعب والموت، فقتل المؤمنين على التهمة والظنة وحسبنا وصفا لتلک المأساة الرهيبة تحديد الامام الباقر عليه السلام لحجمها الدامي بقوله :( ثم جاء الحجاج فقتلهم - يعني اتباع اهل البيت - کل قتلة واخذهم بکل ظنَة وتهمة حتى ان الرجل ليقال له زنديق او کافر احب اليه من أن يقال له : شيعة علي ) - شرح نهج البلاغة .
لقد اشار بعض المؤرخين الى ان عدد الذين قتلهم الحجاج خلال عشرين سنة کان فيها واليا وصل الى عشرات الالوف وقد مات الجزارالرهيب وفي سجنه خمسون الف رجل وثلاثون الف امراة - //الشيعة والحاکمون لمحمد جواد مغنية// - مما يجسد حجم الماساة التي عانى منها اتباع اهل البيت .
ان الموقف قد تأزم بعد موت عبد الملک حيث تسلم الوليد ابنه الامر بعده ، في وقت صفيت فيه المعارضة او کادت ان تصفى ولم يبق غير الامام السجاد عليه السلام متابعا خطواته الاصلاحية في الامة تثقيفا وارشادا وامرا بمعروف ونهيا عن منکر .
کان الامر يؤرق قادة الحکم الاموي ذي الاهداف التحريفية للرسالة الالهية ويثير مخاوفهم وقد ادرکوا ان ايقاف مسيرة الامام عليه السلام تلک لاتتم بارهابه .
من هنا فان خططهم اتجهت لتصفية الامام عليه السلام ذاته، وهکذا کان فقد اغتاله سليمان بن عبد الملک في عهد الوليد من خلال سم دسه اليه، وبذلک اسدل الستار على عصرذلک الامام العظيم عليه السلام بيد ان افکاره واهدافه بقيت حيَة نابضة بالحياة متدفقة بالخير والنماء تسير التاريخ الانساني،حاملة مشعل الفضيلة والهدى .
فسلام عليه وعلى الائمة الهداة الميامين من آبائه وأبنائه،سلاما دائما مع الخالدين.
المصدر :ايربيا