شيخ الأزهر: الإسلاموفوبيا ظاهرة ومصنوعة.. وواجبنا التصدي للإرهاب
اكد الدكتور أحمد الطيب : إنه لو كان صحيحا أن الإسلام هو دين الإرهاب؛ لكان من المحتَّم أن كل ضحاياه من غير المسلمين، ولكن الواقع يقول: إن المسلمين كانوا ولا يزالون هم ضحايا هذا الإرهاب، وهم المستهدَفون بأسلحته وبطريقته البشعة في القتل وإزهاق الأرواح، والمسلمون هم مَن دفعوا ويدفعُون الثمن غاليًا: دماءً ودمارًا وتشريدًا، ويثبت الواقعُ أيضا أن ضحايا هذا الإرهاب من غيرِ المسلمين عددٌ لا يكاد يشكل رقما صحيحا بالنسبة إلى ضحاياه من المسلمين..
و ألقى الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين، مساء الأربعاء، كلمة في حفل اختتام منتدى شباب صناع السلام، الذي عقدت فعالياته في العاصمة البريطانية لندن.
جاء فيها :
عالمنا العربي والإسلامي لم يكد ينعَمُ طويلًا بحياة الأمن والسلام التي تحياها بقية شعوب العالَم في الشرق والغرب، حتَّى فقَدْنا السَّلام من جديدٍ، ودخلنا فيما يُسمَّى «بحرب الإرهاب»، وهي نوعٌ من الحروب جديدٌ لا يَعرِفُ الحدودَ؛ وله قُدرة على أن يحمِلَ الموتَ والدَّمار إلى ضحاياه من الأطفال والنِّساء والشباب والشيوخ في المنازل والشَّوارع والمتاجر والمدارس والمسارح والنوادي والتجمعات، حتى المصلِّين والمصلِّيات في المساجد والكنائس ودُور العبادات تعقَّبَتهُم عمليَّات هذا الإرهاب الجديد، وأغرقتهم مع أطفالهم في دمائهم وهم يُصَلُّون.. ومع هذا الرُّعب الجديد لم يعد أيّ آدمي في أيِّ مكانٍ على ظهر الأرض في الشرق كما في الغرب آمِنًا على نفسِه ولا على أسرته.
وكان الأملُ أن ينحسرَ هذا الإرهاب مع مطلع القرن الحادي والعشرين. وأن يَنظرَ العالَمُ المتحضِّر الراقي إلى هذا العبث بالأرواح والأجساد بحسبانه سلوكًا همجيًّا لا يليق بإنسان هذا القرن الذي بلغ فيه العلم والاقتصاد والفلسفة والأدب والفن والسياسة مبلغ الكمال في الرُّقي والتطوُّر ولكن خاب الأمل مع حادثة الحادي عشر من سبتمبر في مطلع هذا القرن، والتي راح فيها من الضحايا والدماء البريئة ما أبكى عيون الناس في الشرق والغرب، ولسُرعان ما تداعت المواقف المعقَّدة والنتائج الأكثر تعقيدًا، والتي تمثلت في وضع الإسلام والمسلمين جميعًا في وضع المسئول الأول والأخير عن هذا الإرهاب، ثم اختلطت الأوراق وأصبح هذا الدين الذي يدعو للسلام والإخاء الإنساني مصدرا للهواجس والهلوسات.
وأنتم هُنا أدرى منِّي بظاهرة «الإسلاموفوبيا» التي لا أريد أن أتوقَّف عندها، ولكن أريد فقط أن أبيِّن لكم تهافت هذه الظاهرة وأنها مصنوعة صنعا لا تخفى على فطنة كثيرين من المنصفين الذين تصدوا لتحليل هذه الظاهرة،
وأقول في كلماتٍ قصيرةٍ: إنه لو كان صحيحا أن الإسلام هو دين الإرهاب؛ لكان من المحتَّم أن كل ضحاياه من غير المسلمين، ولكن الواقع يقول: إن المسلمين كانوا ولا يزالون هم ضحايا هذا الإرهاب، وهم المستهدَفون بأسلحته وبطريقته البشعة في القتل وإزهاق الأرواح، والمسلمون هم مَن دفعوا ويدفعُون الثمن غاليًا: دماءً ودمارًا وتشريدًا، ويثبت الواقعُ أيضا أن ضحايا هذا الإرهاب من غيرِ المسلمين عددٌ لا يكاد يشكل رقما صحيحا بالنسبة إلى ضحاياه من المسلمين..وعندنا نحن المسلمين: أن من قتل نَفْسًا واحدةً ظُلما وعدوانًا فكأنما قَتلَ الناس جميعا، وأيضا: أن من أحيا نَفْسًا ومَكَّنها من الحياة ودَرَأَ عنها خَطَر الموت، فكأنما أحيا الناس جميعًا، وأتساءل: هل يمكن أن يَتصوَّر العقلُ ظهورَ إرهابٍ ينتسِبُ للمسيحيَّةِ -مَثلا- ومعظم ضحاياه من المسيحيين؟!
إن المنطقَ هنا –في مثل هذه الحالات- يُحتِّمُ القولَ بأنَّ الإرهابَ لا يعبِّرُ بالضَّرورة عن الدين الذي يقتل الناس تحت لافتته، بل الإرهاب هو الذي يَرتهِنُ الأديان ويختطِفُها بعد ما يقومُ بعمليَّةِ تدليسٍ وتزويرٍ وخيانةٍ في تأويلِ نصوصِها وتفسيرِ معانيها، ليُنفِّذَ بها جرائم حرَّمَتها الأديان والكتب المقدَّسة التي يلوِّحون بها بإحدَى اليدين بينما يعبثون بنصوصها باليد الأخرى!
أليست هذه المفارقات العجيبة دليلًا على أن الإرهاب لا يُمثِّلُ الأديان ولا المؤمنين بالأديان، وإنما هو أشبه بحالةِ انحرافٍ فِكريٍّ، ومَرَضٍ نفسيٍّ، يحاولُ أن يجدَ في نصوص الأديان ما يبرِّرُ جرائمه في نَفْسِه وفي نفوس أتباعه، ومن هنا قيل بحقٍّ: إنَّ الإرهاب لا دِينَ له ولا وطنَ له أيضًا؛ وواجبنا هو كَشفُه والتصدي، وتحرير الأديان من قبضته بكل ما أوتينا من قوة.
أيها الشباب:
لا تُصَدِّقوا ما يقال من أنَّ الأديان الإلهية هي سبب الحروب والكوارث بين الناس، وأنه يجبُ أن نَنفُضَ أيديَنا منها، ونستبدل بها التقدم والتطوُّر العلمي والتِّقني والفني، فهذه قضيةٌ باطلةٌ في نَظرِ المؤمنين بالأديان لا يَتَّسِعَ الوقتُ لمناقشتها، والذي أعتقدُه ويعتقدُه كلُّ المؤمنين برسالاتِ الأديان، أن غياب الدين وقيمه وأخلاقه هو السبب الأكبر في شقاء الإنسان المعاصر واضطرابه، وأن حضارتنا المعاصرة فقدت كثيرا مما تحتاجه الإنسانية في مسيرتها اليوم، بل أوشكت أن تصبح حضارة بلا معنى، حين أدارت ظهرها للهَدْيِ الإلهيِّ، حتى أصبح من المؤكد عند كثير من حكماء هذا العصر أن الأخوة الإنسانية أشبه بأمل يستحيل تحقيقُه في هذه الحياة التي تَعُجُّ بالمظالم وبالآفات التي تُعَكِّرُ صَفْوَ العيش وعلاقاتِ التَّعاوُن بين الأفراد والشعوب.
وأنتم إذا –أيها الشباب– إذا حملتم الدِّينَ مسئولية الدِّماء التي أريقت باسمه، فحمِّلُوا حضارتنا الحديثة مسئولية الدِّماء التي سالت في القرن الماضي أوروبا وآسيا وإفريقيا، بل مسئولية الحروب التي اشتعلت مع مطلع هذا القرن ولا تزالُ تشتعل وتأتي على الأخضر واليابس حتى هذه اللحظة.
وهل في إمكان أحدٍ منَّا أن يَغُضَّ الطَّرْفَ عن صُورِ أكوامِ القتلى من الأطفال والرجال والنساء تحت الأنقاض، وعلى شواطئ البحار والأنهار، وكأنها صور عادية يطالعُها الناس وهم يتناولون أطعمتهم، ويُزْجُونَ أوقاتَ الفراغ بالتسلية والمتعة أمام وسائل الإعلام المختلفة.
أليست هذه حالة من حالات موت الضمير الإنساني، أو دخوله في مرحلة حَرِجَة من مراحل الغيبوبة، لا ندري معها مصير هذا الضمير؟!
هذا ولا أمَلُّ من تَكرارِ ما سبق أن قُلتَه في مختلف المحافل والمجالس هنا في أوروبا وفي جنوب شرق آسيا وغيرهما مِن أنَّ علماء الإسلام ومفكِّريه ومثقَّفيه وسياسييه أجمعوا على إدانة حادثة الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها، وتبرأوا من كل حوادث الإرهاب الأسود، ومن مرتكبيه، وأعلنوا رفضَهم القاطع لكلِّ ذلك، في الإعلام والكتب والمقالات والنَّدوات والمؤتمرات الدَّولية...ورُغم هذا المجهود الذي يُبذَل في تبرئة الإسلام والمسلمين من هذه الجرائم البشعة، فإن صُورةَ «الإسلاموفوبيا» لا تزال عالقة في عقول قِطاع عريضٍ من شباب الغرب، وهو ما يُصَعِّب -كثيرًا أو قليلًا– من رسالتِكم التي تقومون بها في تأصيل الحوار بين الغرب والشرق..
أيها الشباب!
لست في حاجة إلى أن أذكركم بأن سحبا سوداء تَلُوحُ في الأُفُق اليوم بسَببٍ من تطبيقِ بعض النَّظريات السياسيَّة المعاصرة، وفي مقدِّمتها: «صراع الحضارات» و«نهاية التاريخ» و«العولمة» وغيرها من السياسات التي يَهُونُ عليها أن تَستبدِل أرواحَ النَّاس باقتصاديات السِّلاح.
ولا مَفَرَّ –والحالُ كذلك– من أن يُعيدَ عقلاء العالَمِ النَّظرَ في هذه السِّياسات، وأن يُصحِّحُوا مسارَها، وأن يعيدوا من جديد قِيَم الحقِّ والعدل والمساواة بين النَّاس، واحترام الآخر، لإنقاذ شعوب بأكملها تعاني من الموت والفقر والجهل والمرض واليأس وفقدان الأمل.
وعلينا أن نعلم أن هذه الآفات إن تركت اليوم دون معالجة دولية جادة مُبرَّأة من نوازع الغطرسة والتعالي وتصنيف الناس إلى سيد ومسود، ومتحضر ومتخلف، وأبيض وأسود؛ فإن هذه الآفات لا يشكُّ العقلاء في أنها سريعة العَدْوَى، وعابرة للحدود والقارات، وأنها كفيلةٌ أن تعودَ بنا جميعًا إلى عصور الجهل والظلام.
وفي اعتقادي أنَّ أولى الخطوات الصَّحيحة وآكدَها على هذا الطَّريق الصَّعب، هو التقاء الغرب والشرق على مصلحةٍ واحدةٍ إنسانيَّةٍ مُشتَرَكةٍ، وأن وسيلتَه المثلَى هي الحوار الذي يصحِّح أوَّلا صورة الغرب والحضارة الغربية في مرآة العرب والمسلمين، ويصحح صورة العرب والمسلمين في مرآة الغرب، لتنفتِحَ بعد ذلك أبواب التَّعارُف والتَّسامُح والبحث عن مواطن الاشتراك الاتفاق –وما أكثرها بين الأديان والعقائد والمذاهب- ولا أشك أنكم أقدرُ من يحمِلُ هذه الشُّعلة ويبدأ المشوار على هذا الطريق الطويل.
وإني لمن أشدِّ النَّاس إيمانا بأن الله الذي خَلَقَنا برحمته ولُطفِه، لن يترك خَلْقَه لعَبَث المستهتِرِينَ وألاعيب الشياطين، وأنه قادرٌ على أن يهيِّئ مِن الوسائل ما يكفي للعودة بالإنسان إلى شاطئ السَّلام، وأنتم أيها الشباب لا ريب في أنكم موضع الأمل ومعقل الرَّجاء.
الجدير بالذكر :
وشارك في المنتدى 25 شابًّا من أوروبا، قامت باختيارهم أسقفيَّة كانتربري بلندن، و 25 شابًّا من العالم العربي، قام باختيارهم الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين من عدة دول عربية، مع الحرص على تنوع مشاربهم الدينية والتعليمية والثقافية، بما يعكس ثراء الشرق وتعدد جذوره.
ويهدف منتدى "شباب صناع السلام" إلى بناء فريق عالمي من الشباب الواعد الساعي للسلام، وذلك للمشاركة في مبادرات وفعاليات يدعمها الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين بالتعاون مع أسقفية كانتربري، بحيث يتم تنفيذها من قبل هؤلاء الشباب وأقرانهم حول العالم من أجل بناء عالم أفضل يعيش فيه الجميع بخير وسلام.
/110