هل أحدّثكم عن الضّحالة السياسية في دول هي في الحقيقة محميات سياسية بامتياز؟! ذلك حينما يتواطأ النفاق العربي مع النفاق الغربي في موقف هجين إزاء حركة احتجاجية مطلبية في البحرين في لحظة تاريخية تنوء بالثورات العربية التي تصطف إلى جانبها وسائل إعلام في حوزة دول تشارك اليوم بقواتها وسلاحها في ذبح الشعب البحريني، بتدخّل سافر يناقض كل الأعراف الدولية.
حتى أنهم لم يحسنوا تأويل واستغلال بند الدفاع المشترك الذي يعني التهديد الخارجي في الحروب ولا يعني قمع شعب شقيق في مطالب تخصّ شأنه الدّاخلي. لكن أينا يملك إيقاف المروق حينما يمارس بمباركة أمريكية وإسرائيلية.
قال أحدهم في شبه نكتة سياسية بليدة، إن هؤلاء ـ يقصد دول التعاون ـ هم أبناء عمومتنا. لكن صدر القصيد الركيك هنا لا يمنع من قراءة مضمر العجز. أي يجوز لأبناء عمومة نظام ما أن يفتكوا بشعب أعزل لا عمومة بينهم وبينه.
يجب أن نسافر قليلا في هذه الأدغال السياسية ونصبر على أحراشها ونتحمل لسعات هوامها وزواحفها. هنا وجب أن نرمي بالعقل في مزبلة المغالطة السياسية كشيء من القذارة ونفتح بطونا منتفخة بحجم بالوعات النفط لكل أشكال الضحالة، كما نعبّر عن شيطنتنا القمعية بالطريقة الهوجاء التي نمارس بها الجنس والسياسية. فالسياسة هنا مستباحة. والفحولة مجنونة وفياغرا النفط لا تسمح باحترام قواعد المعاشرة السياسية. المال والسيولة والمازوت أفسد الحياة السياسية وأعاق التنمية السياسية. هنا تبعث الجاهلية الأولى ويولد أبو جهل من جديد. أين نحن من هذه اللغة ومن هذا الاستغباء القبيح. لقد أفسدوا علينا نكهة الإصلاح والتغيير بحرب الأحزاب وباليباس السياسي لكيانات فضّلت أن تتنكر للإصلاح وتعلّق ميقات تدحرجها على تاريخ نضوب ريع الكاز والمازوت.
ارحموا قبّح الله بطونكم، هذه الشعوب المتطلعة إلى غد غير مدنس برائحة المازوت السياسي والثقافي. هل لنا أن نسمعكم يا أبطال ومغاوير، تصفيقاتنا تندّرا على قبح محيّاكم، على هذا الاستنفار والتعبئة ضد شعب أعزل؟! هل ثمة من يريد أن يقنعنا بأن ما يحدث في إسرائيل هو ممارسة ناعمة مقارنة بما يحدث اليوم في دوّار اللؤلؤة؟! هل نحن إذن أمام ما يمكن أن نسميه بحادثة العبور الثانية ـ عبور الجسر باتجاه المنامة، بعد عملية العبور التاريخية في معركة أكتوبر، التي ستخلّد صورة مشرقة عن انتصارات معاركنا الكبرى، هذه المرّة ضدّ شعوبنا؟! ومع أن الحركة البحرينية لم تحمل سلاحا ولا نادت بما لم تناد به أمم الدنيا إلا أنها كانت مناسبة لإظهار العنف البدائي لبعض الأنظمة التي تتجه بسياساتها نحو المجهول.
في عام انقلاب الأمم وتغير أحوالها نستطيع أن نقرأ المصير السيئ لمثل هذه السياسات. لعله أمر مؤسف للغاية أن تستبيح دولة ما شعبها وتمكّن منه المجنسين والجيوش الأجنبية ليفتكوا به تحت سمع المجتمع الدولي وبصره. إنه شيء مؤلم أن تتكدس كل هذه القوات الرمادية التي لا نراها إلا في ذبح شعوبها، بما لا يتناسب مع القاعدة السكانية لهذا المجتمع.
لكنني أعتقد أن هذا الوجع مهم جدا وهو مؤشر على أن الدولة باتت مفلسة. ففي الوقت الذي توظف الدول العقلانية حدسها وقوتها على الاستشعار بمزيد من التقرب إلى الشعوب والمبادرة إلى إصلاحات من دون شروط أو تأتأة استبدادية، تحاول بعض النظم المستندة إلى قاعدة من عجين الرعب وفوبيا الإصلاح، مزيدا من الهروب من الشعب. وكأنّ هذه النظم غير المثقفة سياسيا تجهل أن المستقبل لا يسمح عبر الإكراه الذي سيفرضه المناخ الحقوقي الكوني بأسلوب البلطجة في قمع مطالب الشعب. ويؤدي الجهل بالمآلات السياسية إلى اعتقاد هذه الكيانات المرعوبة من التغيير والمبدّعة للاحتجاج والإصلاح، بأنها تستطيع استغباء الرأي العام العربي والدولي، بمجرد أن تملك قرار استعمال العنف الذي تحتكره مؤسسات غير مسئولة وغير عقلانية. ولم تتعظ من تونس الخضراء ولا مصر المحروسة ولا من ليبيا الأبية...
إن احتكار العنف من قبل مؤسسات تغلّب العنف على العقل، هو مقبرة للنظم الاستبدادية. تجهل هذه النظم أن لها شعوبا طيبة مسالمة ذات مطالب بسيطة ومحدودة. ولذا فإن كمية العنف الممارس ضدها لا يناسب خطورة الوضع. ففي بلاد مثل البحرين سيزداد الاحتقان وستموت الثقة بين الشعب والسلطة وستتداعى الكراهية وستحصل احتقانات إقليمية وطائفية ستدفع ثمنها غاليا تلك النظم الطفولية التي تفضل الشقاوة السياسة في زمن الجدّ الثوري.
لا تملك هذه النظم وسائل متجددة لمواجهة معطيات التحول الإقليمي والدولي. لذا فهي تستعمل وسائل تقليدية لمواجهة استحقاقات جديدة. سنجد أوّل اختبار للسلاح الأمريكي ضمن أكبر صفقة في تاريخ العالم والمنطقة، على صدور البحارنة العارية. ولا نستبعد أن يهتف النظام ومستشاره هندرسون والمرتزقة والمجنسين يوما: وداعا أيها المرتزقة الدخلاء من الشعب البحريني!
إذا كان العالم بما فيه العربي لم يكد ينصت جيّدا للحركة المطلبية البحرينية السلمية ولا همّه أن يتوقف عند المجزرة التي تصنعها قوات مجلس التعاون لقمع شعب أعزل بسلطة النفط والابتزاز الريعي، فما يحدث اليوم هو أمر مهم، لأنه يفضح طبيعة العنف النائم وراء الكبت السياسي لهذه النظم. الكبت السياسي الذي تخفف عنه مؤقتا السيولة الريعية حتى لا تنبت له أنياب حادة إلا في بهمة الليل. كذلك هو شأن المستذئبين الذين تختفي أنيابهم عند طلوع شمس الحرية.
تحاول هذه الأنظمة المتورمة التي تستند إلى كل شيء مستعار حتى جيوشها الوطنية أن تتحدث عن استثنائها فيما ليس موضوعا للاستثناء. ودعنا نركز على البحرين دون غيرها. فحينما اختارت البحرين قبل سنوات التحول إلى نظام ملكي، كان ذلك خطوة مهمة على طريق إصلاحات وتفاهمات وتحقيق بيئة مشجعة على المصالحة. وحصلت المصالحة وبدأت الثقة تنمو على استحياء بين الدولة والمعارضة. كانت مطالب المعارضة تشبه الحد الأدنى من مطالب بني آدم في المجال العربي وخارجه. لكنهم سرعان ما واجهوا لعبة التجنيس السياسي. وهو أخبث أنواع العبث بحقوق الشعب وخصوصيته. بتعبير آخر، كانت هناك محاولة حثيثة لتبديل الشعب البحراني بشعب يتألّف من الباكستانيين وبعض العرب الآخرين. وبدوافع استئصالية سعى النظام إلى تغييرات بنيوية في الديمغرافيا البحرينية، إذ تؤكّد الإحصائيات على ما يقارب «١٠٠٠٠٠» مائة ألف أجنبي تمّ تجنيسهم جزافا خلال عشرة أعوام فقط.
تخيّل أن هذا يحدث في بلد مساحته ٧٠٠ كلم مربع، ولا يتعدى عدد سكانه المليون والمائة ألف نسمة؛ أي بمعدل ١٠% من عموم ساكنة البحرين. وتتركز عملية التجنيس على صنف العمالة الباكستانية الذين تقرر قبولهم حتى في خدمة الأمن الوطني كما بدأت تتجه إلى تجنيس بعض بقايا البعث العراقي. وتسعى عملية التجنيس الممنهج هذه لتغيير النسبة الغالبة للساكنة الشيعية في البحرين مما ترك انطباعات سيئة لدى الشعب البحريني واعتبر ذلك محاولة لاستئصاله ونية مبيّتة من النظام لمحو هويته. وقد ازدادت مرونة النظام لتعديل هوية المجتمع وتغيير بصمته الاجتماعية والثقافية بينما لم يقبل بتعديلات بسيطة على الدستور. فالنظم المرتعبة غير المنفتحة تقبل أن تغير الجبال وتزلزل الأرض على أن تغير سلوكها السياسي.
ليست الطائفية مشكلة في البحرين. ثمة أقلية سنية تنحاز اليوم إلى صفوف المعارضة ومطالب الشعب الذي أظهر من خلال شعاراته أن لا ينوي الإطاحة بالنظام كما لا ينوي ممارسة العنف كما أظهر أن مطالبه لا علاقة لها بالطائفية. التخويف من الشيعة داخليا وخارجيا لعبة شاخت في هذه المنطقة ولم يعد لها من أهمية. وشيء يضحك أكثر مما يبكي أن هذه النظم تفتعل الفوبيا الشيعية داخل مجتمعات أغلبيتها شيعية أصلا. فهل يحتاج المجتمع البحريبني ذي الأغلبية الشيعية إلى الطائفية إن لم تكن الطائفية مرض الأقلية المتسلطة.
هكذا أصبحت البحرين هي أكرم بلدان المنطقة حينما أقدمت على حيلة تجنيس العمالة وفتح الحدود من دون تأشيرة. هذه اللعبة انفضحت وجعلت الشعب يفقد الثقة في نظامه. واستمر التجنيس على قدم وساق على الرغم من الاحتجاجات في مجلس النواب وفي الصحافة وفي النقاش العمومي بالمنامة ولا خبر جاء ولا وحي نزل. واستمر الشعب في قاعة انتظار عودة الصواب والرشد والثقة، ولكن عبثا، بعد أن بات وضع المعارضة في ظل نظام يخشى الأحزاب حتى أنه قبل بالجمعيات دون الأحزاب وإن أدت الحد الأدنى من وظيفتها.
إنّ مشكلة الدولة في البحرين أنها لا زالت وفية للعهد الماضي. وأن الإصلاح لم يكن اختيارا جدّيا بل منعطفا لعبي لعب فيه فقدان الثقة دورا كبيرا. ومع أن الشعب عمل الكثير لكي ينزع هذا الخواف السياسي من الدولة عبر تعبيراته وانتظاماته السياسية والمدنية إلاّ أن الخوف لا يزال يفسر كل هذا الارتباك. إن قدر البحرين أنها توجد في الجوار الإيراني. وقدر البحرين كذلك أن غالبية سكانها من الشيعة. فهذا يكفي أن لا يكون لهم الحق في أن يطلبوا من الأقلية الحاكمة حقوقهم المشروعة، بل هذا كافي أن تقرأ كل حركتهم المطلبية التي تعود للستينات من القرن الماضي قراءة جيوبوليتيكية سيّئة. وهل تحتاج إيران إلى البحرين لتصل إلى آخر نقطة في المنطقة. وهل تصلح البحرين حزاما أمنيا في حروب الهواجس والأحلام التي تملأ فراغ السّاسة في مجلس التعاون من أي شاغل استراتيجي جدّي.
فالحرب الطائفية هي التي تصنع اليوم بقرار ولعبة من رأس الهرم، لتعيدنا إلى ما تمّ التحضير له لإلهاء المنطقة بنزاعات طائفية هوجاء إن الخطر الذي تشكله عملية استدعاء قوات أجنبية لقمع احتجاجات مطلبية بقوة الحديد والنار داخل البحرين والتي استعمل فيها اليوم القنص وحرق الخيام في دوار اللؤلؤة وقطع الكهرباء على المستشفيات واستهداف سيارات الإسعاف واستعمال البلطجية وانتهاك حرمة البيوت في بعض القرى كل ذلك من شأنه أن يستثير غضبا إقليميا ودوليّا لا تستطيع أن تواجه هذه الدول الضعيفة كل تداعياته السلبية. ستجد إيران نفسها بحكم الواقع معنية بموقف واضح إزاء العنف المفرط الممارس من قبل الأغراب على شعب أعزل بجوارها وتتحمل كدولة شيعية كبرى مسؤوليتها الكاملة تجاه مذبحة يتعرض لها شعب ذنبه الوحيد أنهم خرجوا من بطون أمهاتهم عربا شيعة. ستكون بالتالي مطالبة بتحركات دولية وإقليمية لا حدود لها. مما يجعل المجتمع الدولي مجبرا على التدخّل حينما تصل الأمور إلى حدّ أن يتدخّل المجتمع الدولي لكي تلزم بعض دول المنطقة باحترام حدودها ولا تلعب أدوارا أكبر من حجمها.
إن حربا طائفية مطلوبة اليوم من القوى الخارجية في هذه المنطقة. وهناك من يعتبر نفسه مؤهلا للعب هذا الدور القذر، لكن دائما داخل آفاق غير واعدة. سوف يؤدّي هذا التدخل السافر إلى عكس المرغوب فيه. سيكون سببا في إشعال حرائق كثيرة داخل هذه البلدان، لأن الرسائل القذرة لا توقف غضب الشعوب حينما تردم آخر جسور المصالحة أو الأمل بين هذه الشعوب وأنظمتها. إن الغرب وأمريكا تدرك مشروعية مطالب هذه الشعوب وهي تستثمر في الطفولة السياسية لهذه النظم، لكنها تسخر منها ولا تملك أن تعدها بشيء. ومخطئ من يعتقد أن الشعب البحريني سترعبه أرتال الجاهلية السياسية، أستطيع أن أؤكد أنني أعرف بحرارة هذا الشعب من حكّامه الذين يبدو من خلال هذه المهزلة الأمنية أنهم لا يعرفون عن هذا الشعب شيئا. لقد أخطئوا الوسيلة والأسلوب لاختبار تحدّي الشعب البحريني البطل ألم يقرؤوا ما بين سطور ثورتين كانا نظام أحدهما هو رمز الاعتدال ويملك جيشا يفوق قدرة جيوش مجلس التعاون جميعها؟!
إن شعب البحرين يصنع تاريخه بمنطق الاحتجاجات المطلبية السلمية.. بينما يراود النظام عهد هندرسون السّفاح. لم يكن في بال دولة البحرين أن الانتقال إلى الملكية ليس لعبة بل هو اختيار استراتيجي يجب أن يستمر ويتمأسس. فالملكية ليست شكلا بل هي محتوى يستدعي ثقافة سياسية أخرى ولياقة في التدبير مختلفة. فالملكيات هي أكثر النظم انفتاحا على التعددية الحزبية وعلى الإصلاح، وأكثر مرونة على التكيف مع التغيير. والواقع أن الملكية هناك لم تقطع مع الثقافة السياسية لنظم المشيخات والإمارات. الملكية ليست مطلقة بل يجب أن تكون في الحدّ الأدنى دستورية. وهذا مطلب يفقهه العالم، فلم يا ترى كل هذا العناد؟!
وتبدو اليوم البحرين في وضع لا تحسد عليه، لأن الرأي العالمي يدرك ما مدى مشروعية هذه المطالب. التحول إلى نظام ملكي ليس هو نهاية المطاف، بل لا بد من استمرارية الإصلاحات وفتح أوراش تغيير هادئة ومستديمة. كان أحرى بالنظام أن يحتوي مطالب الشعب بإرادة سياسية لا تتأثر بالعقل السياسي الجامد للمنطقة. وكان بمقدور النظام البحريني أن لا يستسلم لهواجسه الجيوسياسية.
الخوف إن تجاوز حدّه أهلك النظم وأوردها موارد الهلكة. لكن الشعب البحريني بات اليوم يجلد من قبل قوات تتألف من أجانب معتدين ومجنّسين مرتزقة؛ يا للعار. سيبقى السؤال ملحّا بعد العبور الكبير في معركة الانتصار على الشعب البحريني: هل يا ترى ستكون البحرين مقبرة سياسية لمجلس التعاون الخليجي.. وهل ستفقد شعوب المنطقة الثقة كاملة في حكامها.. أليس مثل هذا قد يجبر الشعوب لا سمح الله، أن تتنازل عن مبادئها الفطرية لتستعين بالأجنبي وتقدم له ما لم يستطع هؤلاء تقديمه تحت غطاء الدمقرطة الممنوحة من الخارج بقوة القصف والسلاح؟!؟ شيء واحد مؤكد عندنا: أن التاريخ لم يجامل يوما المستبدين، لكنه أنصف دائما المستضعفين في الأرض: إنّي أرى لؤلؤة البحرين تلمع من دوّار اللؤلؤة.. ستبقى على الأرض أقدامكم ويخضرّ بالدم كلّ صعيد!
مغرس (المغربي)