ربيع القرآن - الدرس القرآني التاسع عشر؛ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا
الإيمان والانجذاب ضربٌ من التسليم. التسليم لحقيقة من الحقائق. أحياناً يدرك الإنسان الحقيقة لكنه لا يُسلِّم قلبه لها بل يقف بوجهها. لذلك تلاحظون أن ما يقابل العلم هو الجهل والشك. أما فـي مقابل الإيمان فلا يأتون بالجهل، بل يواجهونه بالكفر، أي التغطية والتعتيم. أحياناً يقتنع الإنسان بحقيقة ما لكنه يخفيها ويسترها. الموقف المضاد للإخفاء هو الإيمان، أي الهيام والانجذاب والخضوع ، وتقبل الحقيقة بكل الوجود والتسليم لها. كل ما تتصورونه حقيقة، إذا آمنتم به فسيكون هذا أساس عملكم.
ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي خلال أيّام شهر رمضان المبارك بشكل يومي مجموعة من الدروس القرآنية للإمام الخامنئي التي فسّرها سماحته وشرحها ضمن خطاباته. وقد تمّ إعداد هذه الدّروس تحت عنوان "ربيع القرآن" بشكل تراتبيّ من الجزء الأوّل حتّى الجزء الثلاثين من القرآن الكريم حيث سوف يُنشر في كلّ يومٍ من أيّام الشهر الفضيل درسٌ من هذه الدروس على الموقع الرّسمي وحسابات شبكات التواصل الاجتماعي.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
سورة النّمل المباركة ﴿١٤﴾
العلم لوحده ليس كافياً لاكتساب الإيمان
إنّ الإنذار والتحذير من عمل الأنبياء. الإنذار، يعني التحذير وإخافتهم من الحال السيّء والخاطئ الذي يعيشونه؛ يطلقون على هذا النّوع من الإخافة مصطلح الإنذار. الإنذار يعني أن تخيفهم وتحذّرهم من الحال السيّء الذي يعيشونه والمسار الخاطئ الذي يسيرون عليه والمصير المشؤوم الذي ينتظرهم.
عندما يأتي الأن الأنبياء ويواجهوا المجتمعات البشريّة الضالّة يخبرونها عن أحوالها ويحذّرونها ويوضحون لها مدى غرقها في الغفلة والضّلال والتلوّث والدّنس. أولئك الغرقى غالباً ما لا يعلمون ويدركون ذلك؛ فهم يملكون أداة العلم إلّا أنّهم غارقون في الجهل، وبالطّبع يقوم البعض بإلهاب نيران جهل هؤلاء أكثر فأكثر، هم لا يدركون كونهم غارقين في الجهل واللّوث وينظرون إلى كلّ الأمور السيّئة التي تُنتج هذا اللوث على أنّها جيّدة، بل ويتباهون بها.
يأتي الأنبياء المنذرون وينذرونهم، ويخيفونهم من الحال السيّئة التي يعيشونها والحياة والنظام والميول التي يتبعونها، فيطالبونهم بالقول: ماذا تفعلون؟ وما هي حالكم التي أنتم عليها؟ وما هو المستقبل الذي ينتظركم وأي عناصر مريرة تحكمكم؟ هذا هو معنى الإنذال.
حسناً، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الرّسل المنذرون يأتون وينذرونهم، وينبئونهم بأحوالهم؛ وهنا يستيقظ الإنسان النائم عندما يُنادى مرّتين أو يُسكب عليه كوبٌ من الماء مهما كان نومه ثقيلاً، لكن ذاك الذي يوهم الآخرين بأنّه نائم ولا يروم أبداً الاستيقاظ لن يستيقظ مهما حاولتم وإن أوقفتموه فسوف يُلقي نفسه على الأرض، أي أنّ الدوافع المعادية للإيمان، والوعي، والذكر والتنبّه قد سيطرت على وجود وهو ليس مستعدّاً أبداً لإدراك الحقيقة بل إنّه في كثيرٍ من الأحيان يدرك الحقيقة في أعماق قلبه لكنّه كما تصفه الآية القرآنيّة:
«وجحدوا واستیقنتها أنفسهم» (۱). البعض ينكرون رغم إدراكهم للحقيقة لكن في بعض الأحيان أيضاً لا يدركونها ولا يمكن إفهامهم إيّاها بأيّ طريقة لكونهم غارقين في جهل خاص.(٢)
الإيمان دعامة عمل الإنسان وتحركه. ما لم ينجذب الإنسان إلى شيء وينشدّ إليه قلبه فلن يتحرك فـي سبيله. الإيمان يختلف عن العلم. أحياناً يدرك الإنسان حقيقةً ما لكنه لا ينجذب إليها. أي أن العلم والاطلاع على صدق الفكرة لا يكفي لحصول الإيمان.
ثمة شيء لابد منه إضافة إلى هذا العلم. وطبعاً، الإيمان بدوره غير متاح من دون العلم ـ لا معنى للإيمان إلى جانب الشك والارتياب ـ غير أن العلم لوحده أيضاً لا يكفي للإيمان.
تلاحظون أن القرآن يقول حول قضايا موسى وفرعون: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً﴾ . أي أن موسى حين أطلق دعوته أدرك الملأ الفرعونـي أنه صادق وأن كلامه الحق، ولكن بعد أن جاء موسى بهذه المعجزة العجيبة، وبعد أن اعترف السحرة والمشعوذون أنفسهم ـ والذين جرى التصور أن عمل موسى هو أيضاً من قبيل أعمالهم ـ أن هذا ليس من سنخ أعمالهم وسجدوا رغم تهديدات فرعون، وآمنوا بموسى و تقبلوا الموت، اتضح للملأ أن موسى ينطق بالحق، لكنهم مع ذلك أنكروا. لماذا؟ السبب هو ﴿ظلماً وعلواً﴾ . لأن استكبارهم وأهواءهم النفسية والظلم الذي أرادوا ممارسته لم يسمح لهم بالتسليم.
الإيمان ركيزة العمل
الإيمان والانجذاب ضربٌ من التسليم. التسليم لحقيقة من الحقائق. أحياناً يدرك الإنسان الحقيقة لكنه لا يُسلِّم قلبه لها بل يقف بوجهها. لذلك تلاحظون أن ما يقابل العلم هو الجهل والشك. أما فـي مقابل الإيمان فلا يأتون بالجهل، بل يواجهونه بالكفر، أي التغطية والتعتيم.
أحياناً يقتنع الإنسان بحقيقة ما لكنه يخفيها ويسترها. الموقف المضاد للإخفاء هو الإيمان، أي الهيام والانجذاب والخضوع ، وتقبل الحقيقة بكل الوجود والتسليم لها.
كل ما تتصورونه حقيقة، إذا آمنتم به فسيكون هذا أساس عملكم. ترون اليوم أن فريقاً يدافعون بكل حماس عن الركن الاقتصادي أو الاجتماعي الفلانـي ويراهنون عليه.
المثال الأوضح لذلك وجود الميول الماركسية إبّان فترة شبابنا وقد أدرك بعضكم تلك الفترة. طائفة من الناس كانوا مستعدين فعلاً للتضحية بأنفسهم من أجل تلك المفاهيم الماركسية. كان هؤلاء عاشقين ومؤمنين. هذا الإيمان يدفع نحو العمل، عملٌ بهذه الجسامة، الكفاح والتواجد فـي الساحة وقتل الآخرين والتعرض للقتل. إذا توفر الإيمان بمبدأ معين سيتحول الإنسان إلى عامل باتجاه أهداف هذا الإيمان. ليس من الضروري أن يذكّروه دائماً. الإيمان يستتبع وراءه العمل. (۳)
الهوامش:
1) سورة النّمل؛ الآية ١٣
2) كلمته في جلسة تفسير سورة البقرة ٣٠/١٠/١٩٩١
3) كلمته في لقاء أعضاء الحكومة ١٠/١١/٢٠٠٤
/110