بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
خاض منذ شبابه معارك قاسية ضد الساعين لفرقة الأمة، وتصدى بقوةٍ وعزمٍ ويقينٍ وحزمٍ، لكل العاملين على تمزيق الأمة وبث الخلافات بينها، معلناً للجميع أن هذه الأمة أمة واحدة، تؤمن بالله عز وجل رباً، وبالإسلام العظيم ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، ومعلماً ومرشداً، وقدوةً وقائداً، وآمن بأن هذه الأمة ستبقى موحدة رغم كيد الكائدين.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تكاد تعرفه الأمة العربية والإسلامية كلها، العرب والعجم، والسنة والشيعة، وأهل الضاد وكل ذي لسان، فقد غدا علماً بارزاً، واسماً لامعاً، وفارساً مقداماً، وخطيباً مفوهاً، ومتحدثاً ذلقاً، ومحاضراً أريباً، ومحاوراً لبقاً، ومنصتاً مؤدباً، ومستمعاً حافظاً، وقارئاً ذواقاً، وراويةً أميناً، ومسلماً غيوراً، خاض منذ شبابه معارك قاسية ضد الساعين لفرقة الأمة، وتصدى بقوةٍ وعزمٍ ويقينٍ وحزمٍ، لكل العاملين على تمزيق الأمة وبث الخلافات بينها، معلناً للجميع أن هذه الأمة أمة واحدة، تؤمن بالله عز وجل رباً، وبالإسلام العظيم ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، ومعلماً ومرشداً، وقدوةً وقائداً، وآمن بأن هذه الأمة ستبقى موحدة رغم كيد الكائدين، وتآمرِ المتآمرين، فقد وعد الله عز وجل بحماية دينه وحفظ كتابه، وليس أدعى لتحقيق هذه الأهداف العظيمة من وحدة الأمة وتماسكها، وترابطها واتحادها.
هادئٌ وقورٌ لا يستفز ولا يغضب، ولا يخرج عن طوره ويحرج، رزين رصينٌ صادقٌ أمينٌ، خافت الصوت متزن الحديث، ثابت الجنان واضح الفكرة، صائب الرأي شامل العرض، صامتٌ قليل الكلام، وإن تحدث فالدرُ كلامه، والحكمة بيانه، والفصاحة لسانه، والأدب زاده، يقدم غيره ويفضل الآخرين على نفسه، يحترم آراءهم، ويقدر أفكارهم، ولا يسخف كلامهم، ولا يستخف بأدوارهم، بل يرى في غيره مكملاً له متعاوناً معه، شرط أن تستقيم على الحق أهواؤهم، وتلتقي على الهدف أفكارهم، وتصفو نفوسهم وتصدق نواياهم، لأن هذه الثوابت عنده هي مبعث البركة، وهي شروط النجاح وسبب التوفيق.
إنه سماحة العلامة الشيخ محمد علي التسخيري، العالم الفذ والشيخ الزاهد، المتصوف العابد، المتواضع البسيط، الكريم المفضال، الجواد النفس السخي اليد، الصادق اللهجة النقي السريرة، الذي عرفته بلاد المعمورة كلها، جوالاً عليها زائراً لها نازلاً فيها، حاملاً فكره المتقد وعقله المستنير، يدعو الأمة كلها إلى الاستجابة إلى تعاليم ربها، واتباع نهج نبيها، والعمل على جمع الكلمة ورص الصف ورأب الصدع، والتخلي عن كل ما يفرق الأمة ويباعد بينها، ذلك أنه آمن أن المتربصين بالأمة وأعداءها لا ينامون الليل وهم يخططون للنيل من الأمة الإسلامية، وبث الخلافات بينها، وزراعة الفتن في صفوفها، مستغلين ضعف البعض وانحرافهم، وسفه عقولهم وضحالة تفكيرهم، أو ارتهانهم وارتباطهم، وجهلهم وتعاونهم.
إنه التسخيري الذي سخر حياته فعلياً، وقضى عمره كلياً، وهو يحمل أمانة الإسلام وتكليف الدين وواجب الرسالة، فطاف في دول العالم وجال على البلدان، والتقى بالسادة العلماء والمفكرين، وبالنخب وعامة الناس، يشرح لهم نظريته، ويوضح لهم رؤيته، ويدعوهم بحماسةٍ وإيمان إلى وجوب العمل على التقريب بين مذاهب الأمة الإسلامية، التي تلتقي على الأصول كلها، ولا تختلف إلا في القليل من فروعها، وفيها ما يسع الأمة كلها، وما تعذر به أبناءها، وما تصلح به شؤونها، وما تنهض به من كبوتها، وترتقي بأحوالها، وتحسن ظروفها وتحل مشاكلها، وتنتصر على التحديات التي تواجهها.
لم يكن الشيخ محمد علي التسخيري يدعو للوحدة النظرية، وينظر للاتفاق الشكلي، ويعيش أوهاماً طوباوية أو أحلاماً أفلاطونية، بل كان يرى أن وحدة الأمة ممكنة وسهلة، وليست صعبة أو مستحيلة، ولكنها تتطلب صدق النية وسلامة السريرة، ووضوح الفكرة ونظافة السبل والأدوات.
وقد آمن الشيخ أنها السبيل الحقيقي نحو رفعة الأمة وعزتها، وهي السبيل المؤدي لهويتها وكرامتها، وهي الطريق الجاد لتحرير فلسطين وتطهير المقدسات واستعادة الأرض والحقوق، ولهذا فإن العدو يخشاها، ويضع أمامها العراقيل والعقبات، ويخلق لها الصعاب والتحديات، إذ أن وجوده مرتبط بعدمها، وزواله نتيجة حتمية لتحقيقها، ولهذا عمل سماحته طوال حياته صادقاً لتحويل أفكار الوحدة إلى برامج، وأحلامها إلى آلياتٍ ووسائل، وقد منى نفسه كثيراً باليوم الذي تتحقق فيه الوحدة الإسلامية الكاملة، وتتحرر فلسطين، ويعود إليها أهلها فاتحين مهللين مكبرين، ويصلي معهم في المسجد الأقصى المبارك.
قدر الله عز وجل لي أن أعمل مع سماحته فترةً من الزمن، كنت خلالها قريباً منه أثيراً عنده، استمعت إليه وعملت معه، وشهدت طريقة عمله وطبيعة نفسه، واطلعت على علومه وأحطت علماً بقدراته، فما رأيت فيه يوماً مذهبيةً مقيتةً، ولا عنصريةً بغيضةً، ولا تعصباً أعمى لجنسٍ أو وطنٍ، أو مذهبٍ وطائفةٍ، بل رأيته مسلماً موحداً، بسيطاً سمحاً، صادقاً طيباً، زاهداً ورعاً، محباً متواضعاً، ألفاً أليفاً، رقيقاً شفافاً، مرهفاً حساساً.
رأيته حيناً أباً حانياً، ناصحاً موجهاً، حريصاً قلقاً، يوجه ويرشد، ويتابع ويحاسب، ويخشى ويقلق، ويخاف ويتردد، أحسن توجيهي، وبالغ في نصحي، ووجهني نحو الكتابة والقلم، وحرضني على الثقافة والفكر، وأشاد بلغتي واستحسنها، وأصر علي أن أحفظها وأصونها، وألا أعتدي عليها أو أسيئ إليها، فراق لي استحسانه، وسعدت بشهادته، وشعرت بها عزيزةً غاليةً، فهي من رجلٍ أتقن العربية أفضل من أهلها، وصان حروفها وأتقن علومها، وضبط كلماتها، وكأنه يقول لمواطنه القديم سيبويه أنني أحفظ أمانتك، وأصون وصيتك، ولا أفرط في قواعد اللغة العربية التي أسستَ، وما زالت تنسب إليك وتُذَكِّرُ بك.
رحمة الله على الشيخ محمد علي التسخيري، وأكرمه وغفر له، ورفع قدره وأعلى مكانته، وجعله من أهل الفردوس الأعلى في الجنة، وعوضه على صبره وجهاده في الدنيا جنةً عرضها السموات والأرض يوم القيامة، وأبقى على ذكره في الدنيا حسناً، وجعل جهده من بعده موصولاً غير مقطوعٍ، مباركاً غير مبتورٍ، وهو رجلٌ نحسبه عند الله عز وجل مرضياً، يستحق منا الدعاء له بالرحمة والمغفرة، فقد غادرنا وهو على العهد، وتركنا وهو على الوعد، مقبلاً غير مدبرٍ، واثقاً غير قانطٍ، عاملاً غير محبطٍ، صابراً غير ساخطٍ، فسلام الله عليه في الخالدين ورحمته وبركاته إلى يوم الدين.
بيروت في 30/9/2020
moustafa.leddawi@gmail.com