خالد فؤاد
مع بداية الأحداث التي اندلعت في القدس، ومع أول رشقات لصواريخ المقاومة من قطاع غزة؛ أمرت إسرائيل بعد ساعات قليلة من اختراق صواريخ المقاومة القبة الحديدية شركة شيفرون الأميركية (Chevron) بإغلاق منصة إنتاج حقل "تمار" التي تقع شمال غرب قطاع غزة بـ25 كيلومترا فقط، ليتوقف إنتاج حقل تمار المصدر الرئيسي للغاز الطبيعي للسوق المحلي الإسرائيلي منذ الأربعاء 12 مايو/أيار الجاري، وإلى أجل غير مسمى.
تمتلك شيفرون 25% من حقل تمار، وتقوم حاليا بإدارة الحقل حيث يتم الإنتاج من 5 آبار، ويتدفق الغاز عبر خط أنابيب يمتد لمسافة 140 كيلومترا، ليصل إلى منصة معالجة الغاز والإنتاج بالقرب من ميناء عسقلان، ومنها يتم توزيع الغاز للسوق الإسرائيلية أو تصدير جزء منه إلى مصر والأردن.
عملاق الطاقة الأميركي "شيفرون" كانت استحوذت منذ شهور على شركة نوبل إنيرجي (Noble Energy)، أحد الشركاء الرئيسيين في حقلي تمار وليفياثان؛ لتصبح شيفرون المستثمر الرئيسي في أكبر حقول الغاز الإسرائيلية. وظلت عملية الاستحواذ معلقة شهورا طويلة لأسباب متعددة، كان من أهمها تخوف شيفرون من أمرين رئيسيين: الأول حجم الاحتياطات الضخمة التي تمتلكها إسرائيل من الغاز الطبيعي، والتي لا توجد مسارات متعددة لتصديرها، حيث لا يتم التصدير حاليا سوى عبر خط العريش-عسقلان وفق صفقة الغاز مع مصر، وأيضا عبر خطوط داخلية تنقل الغاز إلى الأردن، وهي في مجملها كميات محدودة جدا قياسا بالاحتياطات الضخمة لحقلي تمار وليفياثان.
والأمر الثاني هو التخوف مما يتعلق بالبعد الأمني والتهديدات التي يمكن أن تصيب البنية التحتية لحقول الغاز الإسرائيلية في مياه المتوسط، والواقع أنه لم تمض سوى شهور قليلة على صفقة الاستحواذ حتى تحقق أحد تخوفات شيفرون الرئيسية، وقامت الشركة بإغلاق منصة إنتاج حقل تمار لأجل غير مسمى.
من المهم التذكير بنفوذ شركة شيفرون داخل الإدارات الأميركية وتقاطعها مع السياسة الخارجية الأميركية في كثير من الملفات، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغاز، ويكفينا الإشارة فقط إلى أن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس التي كانت أحد أعضاء مجلس إدارة شيفرون، وكذلك مستشار الأمن القومي لأوباما جيمس جونز الذي كان أيضا عضوا بمجلس إدارة شركة شيفرون؛ وهذا يعني أن قائمة المصالح الأميركية المشتركة مع إسرائيل سيضاف إليها دخول أحد أكبر شركات النفط والغاز الأميركية في معادلة الغاز الطبيعي في شرق المتوسط وإسرائيل بصفقة استحواذ تصل قيمتها إلى 11.8 مليار دولار، وهذا بدوره سيؤدي إلى مزيد من التحيزات الأميركية لصالح إسرائيل.
التخوف الإسرائيلي من وصول صواريخ المقاومة لأي من منصات الغاز الطبيعي في مياه المتوسط يمكن أن يعطينا تفسيرا مبسطا للسلوك الإسرائيلي في شرق المتوسط، وحرص إسرائيل رغم احتياطات الغاز الطبيعي الهائلة التي تمتلكها على عدم إنشاء منصات لتسييل الغاز الطبيعي سواء على سواحلها أو في المياه، وذلك بسبب الاعتبار الأمني الذي يأتي في المقام الأول في السياسة الإسرائيلية ومقدما عن المكاسب الاقتصادية، حيث تتخوف إسرائيل من وقوع منصات تسييل الغاز الطبيعي تحت التهديد الدائم لصواريخ المقاومة، وهذا السبب الرئيسي الذي جعل إسرائيل تفضل تصدير الغاز الطبيعي عبر بيعه إلى مصر ثم تسييله في محطات التسييل المصرية وتصديره للخارج، وأيضا السبب الرئيسي وراء سعي إسرائيل الدائم لإنشاء خط أنابيب "إيست ميد" (EastMed) لنقل الغاز من حقولها وحقول قبرص إلى أوروبا.
وتقوم إسرائيل حاليا بتعويض النقص الناتج من إغلاق حقل تمار بزيادة الإمدادات من حقل ليفياثان، وتضع سفينة تخزين غاز طبيعي أمام سواحلها تحسبا للظروف الطارئة، حيث إن اقتراب صواريخ المقاومة من منصة إنتاج حقل ليفياثان سيعني حتمية إغلاق الحقل، وهو ما سيؤدي إلى كارثة غير مسبوقة تمس أمن الطاقة الإسرائيلي بأضرار بالغة، ولكن يظل اقتراب صواريخ المقاومة من منصة إنتاج حقل ليفياثان أمرا بعيدا عن الواقع، حيث تقع المنصة في أقصى شمال إسرائيل وبالقرب من ميناء حيفا والجنوب اللبناني.
على الجانب الآخر، من المهم الإشارة إلى أن صواريخ المقاومة بعد إغلاق حقل تمار ستتسبب في خسائر اقتصادية ليست قليلة:
ينتج حقل تمار حوالي 8.2 مليارات متر مكعب (حسب بيانات إنتاج عام 2020)، وهذا يعني أن معدل إنتاج حقل تمار اليومي يقترب من 25 مليون متر مكعب (تقريبا يعادل تريليون وحدة حرارية)، أي أن الخسائر اليومية بسبب توقف حقل تمار عن العمل لن تقل بأي حال من الأحوال عن 6 ملايين دولار، حيث تقدر أسعار الغاز المنتج من حقل تمار بـ6.3 دولارات للمليون وحدة حرارية، وهي الأسعار الخاصة بالسوق المحلية (تقوم شركة كهرباء إسرائيل "أي إي سي" (IEC) بشراء الغاز من حقل تمار وفق الأسعار المذكورة)، وبطبيعة الحال ستكون أسعار التصدير مساوية أو أكبر من السعر المحلي.
ستتسبب في تعطيل -وربما إلغاء- صفقة شراء شركة مبادلة للبترول الإماراتية (شركة حكومية تابعة لشركة مبادلة للاستثمار، التي يرأسها ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد) لحصة شركة ديليك الإسرائيلية في حقل تمار، وهي الصفقة التي كان من المفترض أن تصل إلى مراحلها النهائية في نهاية مايو/أيار الجاري، وتقدر قيمة الصفقة بـ1.1 مليار دولار، لتمثل ذروة التعاون والتطبيع بين إسرائيل والإمارات. وسيكون من الصعب على شركة مبادلة الإماراتية المضي قدما في صفقة لم تعلن عنها رسميا نظرا لحساسية هذا النوع من الصفقات، لا سيما بعد توقف حقل تمار عن الإنتاج، وبعد العدوان الإسرائيلي الأخير والجرائم التي ارتكبها والتي جعلت مسارات التطبيع والصفقات مع إسرائيل غير مقبولة شعبيا أكثر من أي وقت مضى.
يبدو أيضا أن المزايدة العالمية التي كانت ستطرحها إسرائيل في نهاية مايو/أيار الجاري -وهي المزايدة الأكبر في تاريخ إسرائيل للتنقيب على البترول والغاز في مياه المتوسط، وكانت تسعى من خلالها لجذب الشركات العالمية لقطاع الطاقة الإسرائيلي- سيكون من الصعب طرحها في ذلك التوقيت، وسيكون على إسرائيل بذل جهود تسويقية ضخمة لإقناع الشركات العالمية بالاستثمار وإنفاق ملايين الدولارات للاستكشاف والحفر في مناطق قريبة جدا من منصة إنتاج حقل تمار، التي تم تعطيلها بسبب صواريخ المقاومة.
وهذا يعني بشكل مباشر أن المزايدة التي كانت تأمل إسرائيل أن تجذب استثمارات تقدر بمليارات الدولارات سيتم تعطيلها لفترة ليست قليلة، وربما ستكون نتائجها غير مرضية في حال إعلان إسرائيل عنها في المستقبل القريب؛ نظرا لعزوف الشركات العالمية عن الاستثمار في مناطق غير مستقرة وغير آمنة.
أخيرا، يبدو أن نظرة سريعة للآثار التي تسببت فيها صواريخ المقاومة الفلسطينية في قطاع الطاقة الإسرائيلي، والتي أدت إلى خسائر اقتصادية ليست قليلة؛ يمكن معها معرفة وتقييم أثر تلك الصواريخ في الصراع مع إسرائيل، التي سيكون من الصعب تقييم جدواها فقط من زاوية قدرتها التدميرية في الوقت الذي تُفقد فيه إسرائيل تقدمها في سباق النفوذ في شرق المتوسط، وهي خسارة تتخطى البعد الاقتصادي، وتمس البعدين الإستراتيجي والسياسي.