في حمى الانشغال العربي واللبناني بمحاولات تفسير وتحليل أسباب وآفاق الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، يبدو أشد فائدة وأكثر جدوى محاولة السعي لاستخلاص دروس وعبر تخدم قواعد صناعة السياسة عربياً ولبنانياً، يفيد الذين لا يرغبون ان يتحولوا الى ضحايا السذاجة او الأوهام أو الغباء، كما هو حال ما عبّر عنه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، بالحديث عن الشعور باليتم والتخلي والخيانة من الحلفاء الغربيين .
ناصر قنديل
– في حمى الانشغال العربي واللبناني بمحاولات تفسير وتحليل أسباب وآفاق الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، يبدو أشد فائدة وأكثر جدوى محاولة السعي لاستخلاص دروس وعبر تخدم قواعد صناعة السياسة عربياً ولبنانياً، في عالم يبدو بوضوح أن قواعد العلاقات الدوليّة فيه تتغير بسرعة، وأن أخذ متغيراتها بالاعتبار بصورة مبكرة، يفيد الذين لا يرغبون ان يتحولوا الى ضحايا السذاجة او الأوهام أو الغباء، كما هو حال ما عبّر عنه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، بالحديث عن الشعور باليتم والتخلي والخيانة من الحلفاء الذين بنت حكومته سياساتها على فرضيات مواقف منتظَرة منهم، فالعبرة التي قالها كلام زيلينسكي، أنه إذا كان لا بد من الاختيار بين عضوية الناتو وحماية بلاده الذي لن يتدخل الناتو لحمايته، فعضوية الناتو في الحالين لن تتحقق، ولماذا تدفع بلاده ثمن الوهم، وأنه اذا كان لا بد من خيار الحياد لبلاده لضمان ما يتيحه توازن القوى في نظام العلاقات الدولية من أمنها واستقلالها ووحدتها، فإنه كان من الأفضل فعل ذلك على البارد ودون الوصول الى لحظة الحرب، وقد كان ممكناً تحقيق شروط أفضل للتفاوض لو بدأ قبل أن تندلع الحرب، وبأكلاف أقل، بل لا يمكن مقارنتها بكلفة الحرب.
– الدرس الأول الذي تقدّمه لنا الحرب وما سبقها وما رافقها، أننا نشهد مرحلة جديدة ينتقل فيها اللجوء لخيار الحل العسكري من الضفة التي كانت تقودها واشنطن في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، خصوصاً في حربي أفغانستان والعراق، الى ضفة مقابلة ومناهضة لواشنطن تقودها موسكو، التي قامت منذ العام 2008 بست خطوات عسكرية، كان أولها اجتياح أوسيتيا الجنوبية وطرد القوات الجيورجيّة منها، ومن بعدها عام 2014 اجتياح شبه جزيرة القرم وطرد القوات الأوكرانيّة منها، ثم عام 2015 التموضع العلني في سورية إلى جانب دولتها وجيشها، وعام 2021 بنشر شرطتها العسكرية في أذربيجان كحل وسط للحرب الأذربيجانية الأرمنية، وفي مطلع عام 2022 قيادة عملية وقائيّة سريعة في كازاخستان لمنع اضطرابات هددت بسقوط العاصمة من يد الدولة والجيش، وها هي الحلقة العسكرية السادسة بعملية كبرى في أوكرانيا، بينما تنتقل واشنطن الى التراجع العسكري، الذي عبر عنه قرار ضخم بحجم الانسحاب من أفغانستان عام 2021، وسبقته انسحابات منها سحب صواريخ الباتريوت من تركيا في 2016 ومن السعودية في 2019. وهذا التحول يستدعي انتقال التعامل العربيّ واللبنانيّ مع روسيا من مجرد كونها دولة كبرى إلى الانتباه لكونها دولة فاعلة صاعدة على المسرح الدولي بقبول التحدّي بوجه السياسات الأميركية، باستخدام القوة، وهي دولة إقليمية كبرى منذ تموضعها في سورية بقوة، وهي بذلك دولة جارة للبنان.
– الدرس الثاني هو أن واشنطن تتفادى المواجهة المباشرة مع هذه الهجوميّة الروسية المتصاعدة بخلفية الانتقام لدور سابق اغتالته واشنطن بالغدر والإقصاء، وتأسيساً لدور لاحق لا تأبه موسكو بالمخاطر التي تترتب على فرضه، وتلجأ إلى إيهام دول وقوى تعيش أوهام نوستالجيا القوة الأميركية لتحويلها الى قرابين تقدّم على مذبح مواجهة روسيا وصعودها. فهذا كان حال جورجيا في 2008 التي صدقت الكلام الأميركي الحماسي عن المواجهة، وهكذا كان حال أوكرانيا عام 2014 ثم حال تركيا في مواجهة الدور الروسي في سورية، وكل هذه الدول تركتها واشنطن لمصيرها تواجه النار الروسية وتتذوق طعم مرارة كأس الوهم. وها هو رئيس أوكرانيا اليوم يعبر بأفضل ما يمكن عن ثمرة الوقوع في السراب الأميركي، وواشنطن ترسم معادلاتها بوضوح لمن لم يستنتج وحده، فتقول إنها لن تتدخل عسكرياً إلا ضمن إطار الناتو وبشرط تعرض إحدى دوله لخطر حرب، ولأن ليس بين دول المنطقة ومن ضمنها “إسرائيل”، ومن بينها العرب ومنها لبنان أعضاء في الناتو، فهذا يعني أن تعرّضها للخطر لا يعني واشنطن بأكثر مما تعنيها الحرب في أوكرانيا، ولا يحق لأحد أن يدّعي المفاجأة عندما يكتشف رد فعل واشنطن على طلب التدخل، بمثل ما تفعل مع أوكرانيا.
– الدرس الثالث أن الإطار الذي حدّدته واشنطن للردع بوجه خصومها الصاعدين وفي مقدّمتهم روسيا، ومنهم الصين وإيران وسورية، هو العقوبات، وأنها في العقوبات نفسها ترسم خطوطاً حمراء، أهمها عدم تعريض سوق الطاقة للاهتزاز، وان مَن يقف على ضفة خصومة مع أحد خصوم واشنطن، هو غبيّ عندما يراهن على تدخلها العسكري، وهو أحمق عندما يتوهم بفاعلية عقوباتها طالما ان المعني قد اعتاد على العقوبات، أو للعقوبات عليه سقف يحميه سوق الطاقة. وهذا درس مهم للعرب الذين يخاصمون إيران ويستندون على فرضية الدعم الأميركي، ومن قال إن إيران باقية على تفضيل الحلول التفاوضيّة وحسن الجوار الى الأبد في ظل سياسات الاستفزاز التي تتعرض لها في الإقليم، فمعادلة موسكو لحياد أوكرانيا تشبه كثيراً معادلة إيران لحياد الخليج، وتموضع وحدات إسرائيليّة في دول خليجية قد يشكل شرارة حرب مقبلة، ولو شجّعت واشنطن حكومات خليجية على فعل ما تفعل فهي لن تفعل أكثر مما تفعل مع أوكرانيا. والعقوبات التي لا تخيف روسيا ولا تردعها لا تخيف إيران ولا تردعها حكماً. والعقوبات التي تتجنبها واشنطن حرصاً على استقرار سوق الطاقة في حال روسيا ستتجنب مثلها أكثر في حال إيران، فلينتبه العرب لخطورة المقامرة الحمقاء، ولينتبه لبنان لخطورة استسهال بيع المواقف الغبيّة.
– الدرس الرابع مجاناً لقيادة كيان الاحتلال، فحاله ليس أفضل من حال أوكرانيا، وما يجري في سورية وبين روسيا وسورية هذه الأيام، في ظل ما أظهرته المقاومة خلال أسابيع، يجب ان يكون بالتفاصيل المملة موضع تقييم، لأن الأيام المقبلة شديدة الصعوبة والقسوة ولا تحتمل الاجتهادات المتسرّعة، والحديث عن فرضية المعارك بين حروب، قد يجعل الحروب أقرب من حبل الوريد.