رند وهبة
أحاط الغرب روسيا بكوابيس الماضي، من صواريخ ورؤوس نووية، وقواعد «ناتو» تقترب شيئاً فشيئاً من حدودها، وتفشٍّ سريع لليمين المتطرّف في دول شرق أوروبا. وبالرغم من أهمّية الصواريخ والرؤوس النووية وقواعد «الناتو» وخطرها على روسيا، إلا أن الجميع يدرك صعوبة تفعيلها وأنها ردعية في الغالب. فالأميركيون لا يواجهون أندادهم عسكرياً أبداً، وهكذا يبقى اليمين المتطرّف والنازيّون الجدد البطاقة الأكثر فعالية وحيوية وعملياتية بيد الأميركيين، لذا تم دعمهم بكل الوسائل في أوكرانيا تحديداً. ولم يتوقف الأميركيون عند هذا الحد، بل عملوا على تحويل أوكرانيا إلى كبسولة من الكوابيس الروسية على الحدود الأكثر حساسية بالحديث عن ضمّها لحلف «الناتو». فتخيّل لو انضمت أوكرانيا إلى الحلف ووضع قواعده فيها ونشر فيها صواريخه ذات الرؤوس النووية تحت قيادة نازيين قتلة يكنّون كل العداء والبغض للروس. أي عاقلٍ ينتظر تحقّق هذا ليقاومه؟
العدو على الأبواب... مرة أخرى
من حق المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، التشكيك بعملية نزع النازية عن ألمانيا التي تعمل الآن على مد أوكرانيا بالسلاح. الحقيقة هي أن الشك يحوم اليوم حول نازية المجتمع الدولي الغربي برمّته بما فيه العدو الصهيوني. ما يحصل اليوم يفضح مسرحية محاكم التفتيش التي أقامها الغرب تحت عنوان معاداة السامية في مواجهة أي انتقاد للعدو الصهيوني، فالغرب، وأميركا تحديداً، لم يكن العداء المبدئي للنازية قط. وهنا من الضروري إعادة فتح بعض من ملفات الحرب العالمية الثانية التي دفع فيها الروس ثلاثين مليون شهيد في مقاومة النازية، بينما كان البريطانيون حينها يخوضون معاركهم الاقتصادية بعيداً خارج القارة في شمال أفريقيا. بل حتى خلال قصف لندن نفسها من قبل الألمان كان لبريطانيا العظمى في سنغافورة متناهية الصغر ــــــ ذات الأهمية الفائقة كممر تجاري عالمي ــــــ جنودٌ أكثر من الجزيرة الأم نفسها. أمّا التدخل الأميركي في الحرب كان في جوهره يسعى لإضعاف القوى الأوروبية للاستيلاء على مستعمراتها.
ففي الحرب العالمية الثانية دار صراعٌ آخر خلف الكواليس ــــــ لا علاقة له بالحرب ضد الفاشية والنازية ــــــ حول حماية المستعمرات، وابتزاز أميركا للحلفاء والبريطانيين بالذات هو ما أطال عقود الإعارة والتأجير خلال الحرب لإجبارهم على التخلّي عن التجارة التفضيلية مع مستعمراتهم، وذلك كشرط لدخول أميركا الفعلي والعسكري في الصراع.
إنزال النورماندي ــــــ المسرحي بمقاييس الحرب العالمية الثانية ــــــ لم يتم إلا عندما كسر السوفيات ظهر النازية بشق الأنفس، وهذا ليس ظرفياً، بل لأن أميركا، منذ استقلالها، لم تخض أي صراع عسكري مباشر مع أي ند يعتد بقوته من جهة، ومن جهة أخرى لأن أميركا لم تعادِ النازية بشكل فعلي وحقيقي.
فما جمع أميركا والنازية أكثر من صناعات (منها فورد وواتسون وبنك مانهاتن وداو وولورث وجنرال موتورز، وغيرها الكثير) ومصالح مشتركة مع وول ستريت، بل كما أصبحنا نعلم جيداً اليوم أن هتلر استقى أيديولوجيته العنصرية من تيارات الداروينية الاجتماعية الأميركية وأعجب بالإبادة الناجحة التي قام بها المستعمرون الأميركيون البيض تجاه السكان الأصليين. أكثر من ذلك، يقول الباحث مايكل هدسون، بأن المعجزة الاقتصادية الألمانية لم تكن لتحصل لولا عفو الديون التي فرض في ألمانيا بعد الحرب بفضل الأميركيين الذين في الوقت نفسه شددوا مطالبتهم بديون الحلفاء وكان لبريطانيا أعلى نسبة فائدة بينهم. حتى إن الأذى الذي ألحقته أميركا ببريطانيا كحليف كان أكبر من الأذى الذي ألحقته ألمانيا ببريطانيا كعدو.
إن روايات الحصار والحرب والمجاعة والإبادة في الذاكرة الجماعية الروسية حول العدو النازي فظيعة ومرعبة، ومنها نفهم ما يعنيه وجود عدو نازي على الأبواب من خطر وجودي في عقل الروسي الباطن والواعي على حد سواء. صورة النازية في المخيلة الروسية لا تقارن بمثيلتها لدى الغرب، وأميركا تحديداً، التي اختزلت النازية بمعاداة السامية وحوّلتها لأداة ابتزاز وإرهاب فكري وشيطنة سياسية باردة تستخدمها لتحقيق المصالح.
حتى بعد سقوط النازية، استمرت أميركا في مغازلتها بشكل موارب، وقامت بإعادة تأهيل مسؤولين نازيين كثر في مؤسسات مثل «ناسا» ووكالة الاستخبارات المركزية والجيش وحتى الأمم المتحدة. وبحسب وثائقي «أوكرانيا تشتعل» (Ukraine On Fire) للمخرج الأميركي أوليفر ستون، هناك وثائق سرّية تم الكشف عنها في السنوات الماضية تثبت أن علاقات أميركا بنازيي أوكرانيا الأوائل كانت وثيقة وذلك بهدف تهديد أمن الاتحاد السوفياتي من الساحة الأوكرانية. وقد حمت الاستخبارات الأميركية كثيراً من قادتهم بعد الحرب، وأبرزهم المجرم ستيفان بانديرا. أمّا نازيّو أوكرانيا الجدد، فتدعمهم أميركا بكل الوسائل؛ من تدريب وتمويل وتسليح ودعم سياسي وإعلامي، وهؤلاء لم يتوقفوا عن معاداة السامية بالمناسبة. في عام 2018، ارتكبت مجزرة على يد متطرف أميركي أبيض في كنيس في بيتسبرغ وقع ضحيتها 12 مصلياً يهودياً. ضج الإعلام الأميركي بالخبر ولكن تم التعتيم على أنه في الفترة نفسها كان أفواج من المتطرفين البيض يسافرون إلى أوكرانيا ويتدربون على يد النازيين الأوكرانيين الجدد في كتيبة آزوف المدعومة أميركياً اليوم كجزء من الجيش الأوكراني الذي يحارب موسكو.
وإن كانت علاقات أميركا بالنازية مبررة كبراغماتية طرف خارجي، فإن الصهيونية نفسها كانت أكبر المستفيدين من النازية. بل أكثر من ذلك، فهي في الحقيقة كانت على تواصل مع النازية كما يوضح جوزيف مسعد في «The secret contacts» بهدف دفع اليهود الأوروبيين المعارضين لفكرة الهجرة وإقامة دولة لهم في فلسطين، وهو رفض أتى على خلفية دينية أو على خلفية علمانية تود التماهي مع الشعوب الأوروبية والذوبان فيها. ما كان خفياً بالأمس أصبح مفضوحاً اليوم، فالعلاقات اليهودية النازية أصبحت علنية، وما نراه هو أن زيلينسكي، الرئيس اليهودي (المدعوم من الأوليغارشي كولومويسكي، اليهودي أيضاً، وهو داعم رئيسي لكتيبة آزوف النازية إلى جانب الحكومة الأميركية)، يستعمل كواجهة لتغطية ونفي نازية من يمسك بزمام الحكم في أوكرانيا. يمكن أن نسمّي ما يفعله بـ«غسيل يهودي» (Jewish washing)، وهو متعمّد ومدروس ويعمل عليه منذ بداية الترويج له كسياسي كما يشرح ماكس بلومنتال في مقالة له على موقع «The gray zone».
رهانات فاشلة
تظلّمت روسيا لسنوات وفاوضت وحاورت لحماية الروس في أوكرانيا، إلا أن المجتمع الدولي أدار ظهره وصمّ أذنيه وتنكر لدماء الآلاف من بينهم النساء والأطفال الذين سفكت أرواحهم على يد النازيين. وهكذا فإن سؤال زاخاروفا مشروع في وجه النفاق الدولي: «لماذا بدأتم الآن بعدّ الضحايا؟»، لماذا لم يكن الغرب معنياً بضحايا الصراع قبل تدخل روسيا؟
نفاق وكذب المجتمع الدولي بلا حدود في هذا المشهد. فهؤلاء الضحايا المنسيّون في الدونباس هم شقر وزرق العيون بالمناسبة، إن كان هذا فعلاً الوتر الحساس الذي يحرّك مشاعر المنظمات والإعلام. فحتى هذه البكائيات العنصرية التي تجتاح الإعلام ومواقع التواصل كاذبة. هم يحبّون الأوكران اليوم فقط لأنهم مشروعهم الوحيد الباقي لمواجهة روسيا. ومع احتمالية سقوطه بدأت رهانات أطلسية جديدة تطفو إلى السطح، منها جمع مسلحي وإرهابيي العالم إلى أوكرانيا لتشكيل «مقاومة شعبية». جيّد، أوّلاً هذا دليل ضعف وفقدان لإرادة القتال لدى «الأطلسي». وثانياً، هو دليل تخبط وعشوائية لدى عقل الأميركي، وتناقض جديد يضاف إلى سرديته ويحمل بذور فشله بداخله، فحساء المتطرفين هذا «نازيين، وإسلاميين، ويهود بحسب دعوة زيلينسكي» الذين يتم حشدهم من كل أصقاع الأرض لا يمكن له التجانس إن كان هؤلاء الذين تناحروا في ما بينهم في سوريا من نفس الطائفة ونفس المشغّل ويتشاركون المشروع ذاته. أضف إلى ذلك أن هذا الخيار سبق وفشل وسقط في سوريا بعيداً من حدود روسيا، فهل ستدعه الأخيرة يمر وينمو على حدودها؟ هذا رهان دموي ومأساوي وخطير يظهر قذارة العقل السياسي الأطلسي في أميركا (هذا فوق رهان قذر آخر، أعني الأسلحة البيولوجية، التي من الحري بأوروبا الغربية القلق بشأنها قبل روسيا)، وكيف لا يمانع ضرب روسيا بأوكرانيا بأوروبا والتوجّه نحو الصين، إلا أن هناك بارقة أمل فقد يكون فرصةً لتطهير العالم من الإرهاب بشكل حاسم!
بكل الأحوال، يشهد التاريخ للبلاشفة الأوكران أنهم خاضوا حرب أنصار بطولية وأسطورية خلف خطوط العدو النازي خلال الحرب العالمية الثانية، هؤلاء كان لديهم وطنٌ بنوه بأيديهم تنشقوا فيه الحرية والعدالة والكرامة، كانت لديهم قضية عادلة والكثير ليدافعوا عنه كما يروي الميجر كوفباك في مذكراته الرائعة «نهجنا في حرب الأنصار». ومن يعلم؟! فقد تنشأ مقاومة شعبية أسطورية جديدة في أوكرانيا في هذه الحرب لمقاومة «الأطلسي» ومشروعه النازي، وقتها سيكون من الممتع سماع رأي كلينتون وعصابتها بالمقاومة الشعبية.
حربٌ استباقية لا على الشاكلة الأطلسية
إن النظرة السطحية والشكلية للأحداث، ترى الحرب الروسية على أنها في أحسن الأحوال مشابهةٌ لحروب أميركا العدوانية. وبينما تندّد الغالبية بـ«جرائم روسيا ضد الإنسانية»، تهلل لجرائم أميركا التي يرونها «مع الإنسانية». إذ إن العالم الغربي، وكل من معه وحوله، يشنّ حرباً دعائية ضخمة ضد روسيا على الصعد كافة وصلت للرياضة والموسيقى وحتى القطط في ظاهرة جد استثنائية، يرتكز خطابها على خلفية المأساة الإنسانية في أوكرانيا.
إن الفارق بين الطرفين، روسيا و«الأطلسي»، ليس مجرّد سجلهما وتاريخهما المتناقض بين العدوان والتعاون مع الآخرين، وليس مسألة الدفاع والهجوم بحد ذاتها، كما أن الفارق ليس أخلاقية أحد الطرفين، وإن كان أحدهما قاتلاً و«محض لص»، أم كان أحدهما ملائكياً «وروسيا ليست كذلك»، بل الفارق هو في جوهر ومعنى وكيفية استخدام القوة. وهنا أستعين بما عبّر عنه جان جينيه حول القسوة/التوحش في مقابل العنف، ففيما تكون الهيمنة الاستعمارية قاتلة مميتة في سكونها كما في عدوانها وفي حفاظها على الوضع القائم من النهب والاستغلال، تشكل كل تمظهراتها الوحشية والقسوة، بما في ذلك فنها وعمارتها وإعلامها وصمتها وقوانينها، وحتى منتجاتها المترفة، هي أفعال دموية وحشية تعبّر عن الموت الذي يكبت إرادة الحياة والتحرّر عند شعوب العالم المستضعفة.
وإرادة التحرّر هذه لا تكون إلا بالمقاومة التي هي فعل عنف يمزّق النظام القائم ويخرق ناموسه ومسلماته، يشبه هذا العنف تفجير البذرة لقشرتها وشق الجذر للصخر وولادة الطفل وغيرها من أعمال العنف الذي هو عنف الحياة الطبيعي الذي لا يمكن شجبه أو الحكم عليه أو استنكاره وهو على النقيض تماماً من قسوة وتوحش إرادة الموت الباردة التي يتحكم الغرب عن طريقها ببقية العالم ويحاول عبثاً فرض الجمود على حركة التاريخ، وتلقين حجم ومكانة ودور لكل أمة يراها تناسبه هو ومصالحه.
إن ولادة عالم جديد إلى حيز الوجود بقوانين أكثر عدلاً وتوازناً يتطلب «تمزيق العدم» بتعبير أمل دنقل، وهذا بالطبع سيقابَل بالكثير من التحريض والقدح والذم والشيطنة لتحليل واستباحة دم كل من تسول له نفسه التفكير بذلك. وهذا «التمزيق» هو ما استوجب شيطنة الشيطان بحسب دنقل، إذ إنه تجرأ أن «يقول لا في وجه من قالوا نعم»، وعليه فإن هذه الولادة العسيرة للعالم الجديد، ذات المخاض الدامي والطويل، تستلزم خرق الكثير من المحرمات الدولية الناظمة لإجرام القطب الواحد، وتتطلب الكثير من العنف وستقابل بكم هائل غير مسبوق من الأبلسة والشيطنة لروسيا وكل من يتفهم موقفها، وكل من يحذو حذوها وكل من سبقها في تمزيق العدم. وعليه، فإن التطرف والاستقطاب الآتي أكثر هولاً وهياجاً… فتشبثوا جيداً.