حديث التقريب .... نحو قراءة حضارية لنهج البلاغة
حديث التقريب : بالمناسبة فإن يوم التاسع عشر من شهر رمضان يصادف هذا العام يوم 21 ابريل نيسان وهو يوم «نهج البلاغة»، لذلك آثرنا أن يكون حديث التقريب عن دعوة لقراءة حضارية لنهج البلاغة، وهي دعوة يمكن أن تشمل جميع ما وصلنا من نصوص دينية.. أن تقرأها قراءة إحيائية حضارية كي تعيننا على طريق إقامة الحضارة الإسلامية الحديثة.
حديث التقريب
نحو قراءة حضارية لنهج البلاغة
في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك وجّه الخارجي اللعين ابن ملجم المرادي ضربة بالسيف على رأس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ساجد في محراب صلاته، توفي الإمام على أثرها بعد ثلاثة أيام، تاركًا الأمة الإسلامية تغط في حزن عميق لفقدانها رجلاً هو أول القوم إسلاما وأقومهم إيمانا وأخلصهم لدين الله.. لكنّه بقي حيًا على مرّ القرون بما قدّمه من دروس وتوجيهات عملية في العدالة وأصول الحكم وعلاقة الحاكم بالشعب وفي الاخلاق والتعامل مع الآخر. جمعَ كثيرًا من هذه النصوص الشريف الرضي في كتاب «نهج البلاغة».
هذا الكتاب يمكن أن نسميه «نهج المسيرة الحضارية» لما يحتويه من معالم المسيرة التي تؤدي إلى الانتاج الحضاري.
وبالمناسبة فإن يوم التاسع عشر من شهر رمضان يصادف هذا العام يوم 21 ابريل نيسان وهو يوم «نهج البلاغة»، لذلك آثرنا أن يكون حديث التقريب عن دعوة لقراءة حضارية لنهج البلاغة، وهي دعوة يمكن أن تشمل جميع ما وصلنا من نصوص دينية.. أن تقرأها قراءة إحيائية حضارية كي تعيننا على طريق إقامة الحضارة الإسلامية الحديثة.
في كلام الإمام نرى عناصر ثقافية هامّة من عناصر الإنتاج الحضاري، ونقف عند بعضها:
العزّة: عنصر ثقافي هام، إن توفر تتوفرْ معه الحياة في دائرة الفرد ودائرة الجماعة. فالعزيز يشعر بشخصيّتِهِ وقدرتِهِ على الإبداع والتطوير والحركة والتكامل. وبالعكس الذليل ينهار لديه هذا الشعور ويصاب بالشلل الفكري والروحي والنفسي ويفقد إرادته، وباختصار يفقد مقومات الحياة الإنسانية.
من هنا في مواضع عديدة من نهج البلاغة نرى تأكيدًا على صيانة عزّة الإنسان وإبعاده عن كل عامل يؤدي إلى إذلاله.
التحرر من الذاتية: الإنسان الغارق في ذاتيته الفردية سجين أهوائه وغرائزه الهابطة، ولذلك يفقد كل حركة لها طابع اجتماعي أو تقدمي، ويفقد كلّ تطلّع مستقبلي.
دعاة الإحياء يتجهون إلى إنقاذ الفرد والجماعة من هذه الذاتيات الضيقة، ليتحرك نحو الأهداف الاجتماعية والإنسانية الكبرى، وكلمات الإمام مفعمة بهذه الدعوة التحررية.
التغيير الداخلي: في وجود الإنسان «نفخة من روح ربّ العالمين» ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي( وبهذه النفخة الإلهية أصبح مستحقًا لأن يكون مسجود الملائكة، وهذه الخصلة في وجود الإنسان تحتاج إلى رعاية وتنمية وفق المنهج النبوي، وإذا أهمل الإنسان تنمية هذا الجانب فسيقع تحت ركام متطلبات الجسد الهابطة، وتُصبح الغرائز هي التي توجّه حركة الإنسان، وهي حركة ليس فيها تكامل ولا فيها قيم إنسانية سامية. من هنا كان اهتمام الإحيائيين الرساليين بتغيير المحتوى الإنساني للفرد والمجتمع، ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ( وفي نهج البلاغة توجّه مركّز نحو صياغة المحتوى الداخلي للإنسان كي يتحرك بدوافع الجانب الإلهي نحو الكامل المطلق سبحانه.
الثقةبالنفس: الثقة بالنفس تبلغ ذروتها حين يثق الإنسان بالله وبنُصرته وتسديده ورحمته. والواثق لا يتردد في اقتحام طريق ذات الشوكة وفي مواجهة الصعاب للوصول إلى الهدف المطلوب. والمتردّد ليس له مكان في ساحات الكمال، والمتهيّب لا يستطيع صعود الجبال ويبقى أبدًا يعيش بين الحُفَر.
والإمام فيما وصلنا من أقواله يوجه رسائل هامة للإنسان كي لا يفقد ثقته بنفسه، ولكي يفهم أنه إذا سار على طريق الكمال نحو الله فكل قوى الكون معه.
الانفتاح على الآخر: من مفردات الثقافة الإحيائية: «التعارف» والتعارف مبدأ أكد عليه القرآن في سياق بيان سبب التعددية للبشر: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..( والتعارف هو التبادل المعرفي. والكائن الحي يطلب المعرفة والحكمة «ولو من أهل النفاق»، أما الذي يفقد الحياة فيعيش في قوقعته، ولا ينفتح على الآخر.
لا يسمع، بل يريد فقط أن يتكلم.. لأن الاستماع للآخر يحتاج إلى تحرر من طاغوت الذاتية، وهذا التحرر هو الحياة، وهم الذين يبشّرهم القرآن بأنهم قادرون على استماع القول واتباع أحسنه: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).
وفي نصوص ما وردنا عن الإمام تأكيد متكرر على هذا الانفتاح.. وأخذ الحكمة.. وعدم الاستحياء من التعلم.. والاستماع الى رأي أهل التجربة...
الاهتمام بعامل الزمن: ولقد أسهب الإحيائيون في الحديث عن عامل الاهتمام بالزمن في البناء الحضاري. الموجود الحي يدرك ضرورة اغتنام الفرص لأنها تمرّ مرّ السحاب، والذي يفقد الحياة يعيش عابثًا دون أن يرى للعمر قيمة تكاملية حضارية. والشعوب التي تطورت على مرّ التاريخ اغتنمت فرص الحياة ولم تتهاون في اغتنامها. والإمام في نصوص النهج يوجّه الأمة نحو هذه الحقيقة، ويحثّ عليها وكأنها من مبادئ مشروعه الإحيائي.
الاهتمام بالعمل: كل المشاريع الفكرية يجب أن تتجه نحو تحقيق مقصد عملي، وإلاّ كانت هذرًا من القول، وبطرًا من الفكر. الابتلاء بالهذر الفكري من عوامل تخلّف الأمم، والأهتمام بالعمل باعتباره قيمة سامية من عوامل التحضّر. تأكيد الإمام على العمل يأتي في سياق تأكيد القرآن والسنة على هذه القيمة الحضارية.
إحياء الأمل في النفوس: فالأمل يفتح آفاق المستقبل أمام الفرد والجماعة، ويدفع نحو تحقيق الأهداف الكبرى دون ترديد أو قلق، على العكس من اليأس، فهو يقتل كل تطلّع مستقبلي، ويخلق حالة الضجر والقنوط والاستسلام أمام العوائق.
الإمام فيما وردنا عنه من نصوص يحثّ الدعاة على بثّ روح الأمل، وإذكاء الشعور برحمة الله في النفوس .
رعاية العلم: طلب العلم وعشقه من العناصر الثقافية الهامة في الإنتاج الحضاري. لكن الذي يؤكد عليه المشروع الثقافي الإسلامي، هو أن لا يكون حامل العلم )كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا( أي أن لا يكون العلم فيه ركامًا من المعلومات دون أن يرعاها ويهضمها ويطوّرها، ويحوّلها إلى بناء حضاري إنساني.
وهذا ما يؤكد (عليه السلام) في نصوص عديدة فرواة العلم كثير ورعاته قليل...
هذه وغيرها من مكونات ثقافة البناء الحضاري.. نراها متناثرة في كلمات الإمام، ونرجو ممّن قرأ نهج البلاغة أن يعيد قراءته بنظرة ثقافية حضارية.. عندئذ سيجد كلام الإمام كلّه يندرج في منظومة إحيائية تتجه نحو بناء حضاري إنساني.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية
/110