كلام ساكت.. إعادة التفكير في الوعظ الديني
هشام جعفر
في ليلة من ليالي رمضان المباركة؛ سألنا الإمام في صلاة التراويح عن شعبتي الإيمان اللتين تضمنتهما سورة الشوري، فلم يجب أحد، وكرر السؤال في الليلة التالية، فلم يجب أحد أيضا، مما اضطره في النهاية إلى أن يقول إنهما: "وأمرهم شورى بينهم"، "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون". لم يكتف بهذا بل عقب قائلا: "إن قليلا من الدعاة من يتحدث في هذا بالرغم من أنهما من القيم السياسية الأساسية في الإسلام".
هذا السؤال وتعقيبه اللافت جعلني أتساءل عن العلاقة بين فائض الحضور الديني في المجال العام، وتدهور أحوال المسلمين المعيشية التي تؤكدها المؤشرات في كل مجال وتمتلئ بها التقارير الدولية. وحتى لا يُساء فهمي أو يزايد على ديني أحد المتنطعين، وهم كثر، فإني ألفت النظر إلى النقاط التالية:
الأديان جميعا لها تعلق بالمجال العام، فمن التعسُّف القول بأن الدين مسألة تتعلق بالفرد وحسب، والحال أننا نعلم أن ما هو فردي لا ينفك عن التحول إلى اجتماعي، أي قابل لأن يصبح ذا صلة بالسياسي، ولكن تتفاوت الأديان في خبراتها الواقعية والتاريخية من جهة حدود هذه العلاقة ومدى شمولها أو اتساعها لتدخل في تفاصيل المجال العام من عدمه.
أنا استخدم لفظ الديني -وليس الدين- في تمييز واضح بين النص المنزل وبين الديني الذي هو تأويلات وتفسيرات وقراءات للدين. هناك المؤسسات والأشخاص، والجماعات والتنظيمات، وهناك توظيفات واستخدام للدين لإضفاء الشرعية على السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو الصراع حول من يملك هذه الشرعية.
كاتب هذه السطور لا يتبنى بأي حال الرؤى الاستشراقية أو العلمانية التي ترى أن سبب تخلف المسلمين هو دينهم، مؤسسين مقولتهم على حتمية ثقافية يكذبها الواقع قبل التحليل العلمي.
لا تعني ملاحظتي تلك أن الإسلام لم يقدم دعامة مهمة للنقاش حول العدالة باعتبارها القيمة العليا في التصور الإسلامي أو الحرية، أو النموذج أو السلوك السياسي والاجتماعي الأمثل، لكن المفارقة أنه رغم تصاعد ما أطلقت عليه في مقال سابق "جمهورية الجدل والحجاج"، فلم يؤد إلى تغيير في حيوات الناس إلا قليلا.
إذن ما الذي يستهدفه هذا المقال؟ هو بيان كيف يحضر الديني في المجال العام ويجري توظيفه ليكون قوة استقرار وليس قوة تغيير؛ وبشكل يؤدي إلى التغطية (بمعني الإخفاء) على أولويات الناس والتي ترتبط بتحسين حيواتهم الدنيا؛ التي هي مزرعة الآخرة، والتي إذا فسدت دنياهم فسدت آخرتهم، كما قال بذلك الماوردي الفقيه التراثي. بعبارة أخري، لقد أظهرت الدراسات بشكل تجريبي أن الإسلام في المنطقة ظل وثيق الصلة بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية رغم المد المتصاعد للحداثة. وعلي الرغم من ذلك، ومع زيادة حضور الديني بشكل متصاعد منذ سبعينيات القرن الماضي ومن جميع الأطراف -دولية ووطنية، رسمية وغير رسمية- لم تتغير خريطة توزيع السلطة والثروة في المنطقة العربية والاسلامية، باعتبار أنهما أهم سؤال مطروح في الواقع العربي بعد انتفاضات الربيع العربي المتتالية، ولذا سيكون تركيزي على هذا العقد تحديدا من جهة علاقة الديني بسؤال التغيير الذي طرحته الانتفاضات العربية ولا يزال مطروحا؛ إذ لم تتم الإجابة عنه بعد، لا من قوى التغيير ولا من الأنظمة التي حاولت احتواءه.
الأسباب الخمسة
أولا: تأميم المجال الديني: شهدنا زحفا غير مقدس -علي مدار القرنين الأخيرين- من قبل الدولة العربية للسيطرة على المجال الديني، وفي الوقت الراهن يتزايد تدخل الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والاسلامية في عمل المؤسسات والمنظمات الدينية بكافة أشكالها وتعريفاتها سواءً كانت وزارات، أو هيئات، أو جامعات، أو مساجد، أو مؤسسات خيرية، أو أوقاف -التي تشتمل على أصول نقدية وعقارية كبيرة، أو زوايا صوفية- تلعب دورا اجتماعيا هاما في المجتمعات المحيطة بها، أو منظمات شبابية أو منصات إعلامية أو غيرها.
وتمارس الأنظمة لعبة السيطرة على المؤسسات الدينية ومحاولة استقطابها ودمجها مستخدمة كل وسيلة ممكنة، قديمةً كانت أو حديثة، للتحكم في ما يجري داخل تلك المؤسسات من عمليات التوظيف والتطهير وإصدار القوانين، والتنظيم الإداري، والإشراف المالي، وغيرها.ولا يخفى على أحد أن الدول العربية الحديثة منذ إنشائها وهي تعمل على توظيف ومأسسة الإسلام الذي ورثته منذ عهود الاستعمار الأوروبي وما سبقه من حكم الإمبراطورية العثمانية، وهي عملية استمرت عبر السنين بالتوازي مع تغلغل الدولة في الحياة اليومية للمواطن العربي. محاولات السيطرة هذه ليست أحادية التوجه، فالشخصيات والمنظمات الإسلامية الموالية للدولة غالبا ما تتمتع بنفوذ وشأنٍ كبير بسبب الدور الذي تلعبه بوصفها وسيطا بين النظام والمجتمع، وكلما زادت شعبيتها ورأسمالها المجتمعي زادت قدرتها على التفاوض مع السلطة الحاكمة، ومقايضة صمتها عما يدور في عالم السياسة مقابل حريتها في تناول بعض القضايا الشخصية والاجتماعية (على الرغم من تعدي النظام على هذه القضايا أيضا).
وترجع أهمية ما تقوم به الأنظمة العربية حاليا من تدخل كبير وسريع ومعقد في المجال الديني الإسلامي إلى التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي واجهتها في الأعوام التي أعقبت الربيع العربي الذي بدأ في 2010/2011 والتي فاقمتها مؤخرا جائحة كورونا وأزمة أوكرانيا. إن الترويج لما يسميه الحكام العرب "الإسلام المعتدل" الذي يدور صراع في المنطقة عمن يمثله عن طريق مأسسة وتنظيم المجال الديني، يعني الوصول إلى صورة عن الإسلام لا تمثل تهديدا لكياناتهم السياسية وبقائها ونمط تحالفاتهم وشبكات امتيازاتهم المالية والدولية، وليس إسلاما يعيد توزيع السلطة والثروة في المجتمع كي لا يكون دولة بين الأغنياء منهم، كما نصت الآية القرآنية {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر: 7].
يفاقم الوضع أن المؤسسات الإسلامية باتت جزءا من الصراعات السياسية الدائرة وليست أداة لبناء السلم الأهلي المستدام؛ فهذه المؤسسات في الدول العربية والاسلامية التي مزقتها النزاعات قد أضحت إما كيانات مجزأة أو غنيمة تتبادلها الفصائل السياسية والعسكرية المتناحرة.
ثانيا: إسلام الجماعات: بالرغم أنه في أحد جوانبه كان طاقة تغيير من جهة أن تصاعده كان تعبيرا عن تطلع فئات اجتماعية -خاصة من الطبقتين الوسطى والدنيا- إلى مزيد من حضورها في صنع السياسات، إلا أن خبرة الربيع العربي قد أظهرت 3 مشكلات هيكلية كبرى تعاني منها هذه الجماعات.
1. أنها لا تملك مشروعا سياسيا فارقا للسلطة بما يضمن إعادة توزيعها ونشرها في المجتمع وليس تركيزها في جهة واحدة تضمن استمرار الهيمنة والسيطرة.
2. وعيها بالمسألة الاجتماعية/ الاقتصادية يكاد يكون منعدما لأسباب سبق وذكرتها في مقالي عن الإخوان والمسألة الاجتماعية في مصر.
3. برغم وصولها للسلطة في لحظة تغيير (انتفاضات الربيع العربي)، فإنها تحولت لقوة استقرار -جرى ذلك في المغرب وتونس ومصر- في الموجة الأولي، وفي الموجة الثانية؛ وحين كانت في السلطة عملت على مواجهة قوى التغيير في الشوارع. انتهت دراسة ميدانية أجريت في 12 دولة عربية إلى من له السلطة الدينية اليوم أو "حراس الدين الجدد" إلى أن الدعم الذي تتلقاه المؤسسات أو الشخصيات الدينية -رسمية وغير رسمية- مشروط بضمان اتباع نهج غير حزبي إلى الدين، فقيادات الإسلاميين تتمتع بموافقة واسعة بما يتماشى مع شعبيتها الانتخابية، لكن معدلات الموافقة المرتفعة في الاستطلاع تتبدد عندما يتعلق الأمر بسلطتها في الأمور الدينية على وجه التحديد، وفي المقابل تظهر الدراسة أن القادة الدينيين التابعين للدولة قد فاقوا التوقعات -إلى حد كبير- من حيث الحصول على ثقة وموافقة قطاعات كبيرة من المستجيبين.
الأهم من ذلك، أن المسؤولين الدينيين التابعين للدولة يتمتعون بأكبر قدر من التأثير في البلدان التي تستخدم فيها الدولة الدين والخطاب الديني كعنصر أساسي في هويتها الوطنية؛ مثل السعودية والمغرب وإيران والأردن، إلا أن هذا مشروط باتباع نهج غير حزبي حسب ما انتهت إليه الدراسة. وهذا يعني قدرة الجماهير العربية في الربيع العربي على التمييز بين الديني وبين الحزبي، وهي نقطة يمكن البناء عليها إذا تقدمت قيادات دينية قادرة على تقديم خطاب يرتبط بهموم الناس لا بالسلطة والأحزاب.
ثالثا: التطرف العنيف: 3 ملاحظات أشير إليها سريعا في علاقته ببقاء الأوضاع كما هي عليه:
1.جرى استخدام ما أطلق عليه "الحرب على الإرهاب" لخلق طلب عند الجماهير على الاستقرار من خلال زيادة خطاب التفزيع والتخويف في لحظة تغيير تتسم بالسيولة وعدم اليقين، مما زاد الطلب على الأمن الشخصي والمجتمعي والاقتصادي الذي توفره الأنظمة القائمة، وفي حال انهيار السلطة كما في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، فإن المؤسسات والرموز الدينية باتت جزءا من الصراعات السياسية الدائرة .
2. لم تستطع جماعات وتجارب التطرف العنيف إلا أن تكون قوة هدم للقائم لا قوة تغيير قادرة على أن تجذب تأييد قطاعات جماهيرية متسعة، وفي الحالات القليلة التي نجحت في أن تبسط سلطتها على الأرض كان الطلب على الأمن هو سر التأييد؛ في التقاء غير مقصود مع جزء من خطاب الأنظمة التي تحاربها.
3. الخطاب العالمي للحرب على الإرهاب وإن تضمن -مع بوش الابن بعد سبتمبر/أيلول 2001- مكونا ديموقراطيا لمعالجة جذور التطرف العنيف في المنطقة؛ إلا أن هذا المكون عانى من مشكلتين: تم التشكيك فيه لفرضه من الخارج واقترانه بغزو العراق وأفغانستان، كما عجز عن بناء الديمقراطية في الدول التي احتلها، وانتهي به المطاف إلى التحالف مع الأنظمة القائمة ليضمن مشاركتها في حربه العالمية.
رابعا: طبيعة الوعظ وفجوة الواقع: بين الوعظ الديني والواقع فجوات وهوات سحيقة، يعود جزء كبير منها إلى أن الخطاب الوعظي يتجه إلى الفرد أو الأسرة أو حتى المجتمع في بعده القيمي أو السلوكي فقط، ولا يرى الظواهر في أبعادها الأوسع التي تتعلق بالبنى والهياكل والسياقات المركبة التي تنتج سلوك الفرد وتخلق قيمه، وهنا نشير إلى أن الاستعمار عندما أتى اعتنى بتغيير الواقع أكثر من الدخول في جدال حول الديني، فتغيرت قيم الناس وسلوكهم.
ولا تزال هذه السُنة جارية ممن يملك تغيير الواقع من عولمة أو أنظمة أو رأس المال وسوق وشركات كبرى. ويفاقم الأمر أن دراية الوعاظ ووعيهم بالعلوم الاجتماعية ضعيف، ونظرتهم للدين يغلب عليها التجزيئية وليست النظرة الكلية التي تسكن الجزئيات في إطارها، وغالبا ما تنطلق من النص لتقوم بتنزيله على واقع شديد التعقيد والتركيب، وليس وفق حركة معاكسة تنطلق من فهم الواقع لتحدد حكم النصوص فيه، والأخطر أنه عادة -وخاصة في الجوانب الاجتماعية وشؤون المرأة- فإن التقاليد والأعراف تخترق الديني لتعيد إنتاجه على مقاسه، وينطبق الأمر ذاته في السياسة والسوق لطغيانهما على البشر.
لن أتحدث عن أزمات الوعظ في وسط الشباب، ولا عن تدفقات المحتوي من خلال الوسائط الجديدة، ولا تفاعلية المحتوي، ولا الأنساق المعرفية الكامنة خلف ذلك كله، ولا غياب الوعظ المتخصص في قطاع جماهيري أو حول قضية محددة، ولا كيفية تحويل المسجد إلى مؤسسة مدنية تنشئ حركات اجتماعية كما جرى في خبرة لاهوت التحرير، أو أنسنة الخطابات الدينية أي تأكيدها المشترك الإنساني/ الفطرة من خلال القدرة على التعامل مع القضايا ذات البعد الإنساني الممتد، ولا عن عولمة الوعظ؛ بمعنى اختفاء فكرة مخاطبة جمهور محدد، فالمواعظ مع الإنترنت تنتقل إلى العالمين…إلخ، فكل هذه تحديات تواجه الوعظ الديني في الزمن المعاصر، لكنها تخلق فجوات في التأثير في الواقع، خاصة إذا جرى تأميم المجال العام ومصادرة الفعل فيه، وهو ما ينقلنا للنقطة التالية.
خامسا: الديني وسياسة الحجج: في مقال سابق انتهيت -استنادا إلى أطروحة ناثان براون في كتابه "مجادلة الإسلام"- إلى أنه بالرغم من تصاعد الجدل حول الديني في النقاش العام في المنطقة العربية، فإنه باستثناء خلق توجه عاطفي تجاه بعض الممارسات والقوي السياسية؛ فإن جمهورية الحجج والجدل الديني لا تؤثر في السياسة الواقعية في دول المنطقة ولا تفرض عليها تغييرا ملموسا، وإن الحجج العامة حول الإسلام تقنع وتؤثر في تغيير السياسة فقط في مناسبات نادرة. ويضيف أن المشكلة ليست ندرة في الجدل والحجج، ولكن في ضعف الآليات المؤسسية لترجمة المناقشات العامة إلى سياسات عامة. ترك ذلك كله بصمته على السياسة في العالم العربي من زوايا عدة أهمها:
1. أنها استقطابية؛ لأن أطرافها لا يجادلون على التوصل إلى اتفاق أو التأثير على قرار، وطبيعتها غير الفعالة أكثر بكثير من محتواها، بما يجعل الحجج مثيرة للانقسام بشكل متزايد. إن الفشل في الاتصال بالحجة على الحكم يعزز الاستقطاب، ولا يعطي مساحة صغيرة للإقناع، ويوفر القليل من الحوافز للتسوية أو محاولات التوصل إلى اتفاق وحلول وسط.
2. كما نشهد جدالات ساخنة منفصلة عن أي نتيجة، ويجري تسخينها بشكل خاص لهذا السبب تحديدًا.
3. لا تتم إدارة الجدل حول الدين سياسيا، ولا تكمن المشكلة في أن الخلافات الدينية غير قابلة للإدارة، ولكن في أن الأنظمة والمؤسسات السياسية بشكل عام غير مهيأة لتعكس الحجج السياسية من أي نوع.
هنا تبرز مشكلة ضعف الهياكل السياسية مع وهن ثقافتها المؤسسية وقدرتها على إدارة التنوع والتعدد، فهي لا تجيد غير لغة الإقصاء أو القمع.
4. قدرة السياسة على تضخيم بعض الأصوات على حساب أخرى، خاصة أن بعض هذه المساحات تعمل تحت أعين أجهزة الأمن الساهرة.
5. تتحول السياسة إلى العمل في اتجاه واحد وليست -بحكم طبيعتها- اتجاهات متعددة؛ حيث يكون الاتصال فعالا من القائد للأتباع وليس في اتجاه الآخرين، أخذا وعطاء؛ وكلها تسمح لمن تلقوا تدريبًا متقدمًا أو موارد متفوقة بالتحدث بأصوات مضخمة للغاية.
6. بما أن العنف والقمع متجذران بعمق في الخطاب والممارسة، يتم نسجهما في نسيج الجدل العام بدلا من تقويضهما، كما أن الخطاب يخرج عن نطاق السيطرة إذا لم يجد أي قوة دفع في نتائج السياسة. المشكلة أن جل الفكر الديني لا يستند إلى الحرية ولا يعلي من قيمة العدل؛ بل إنه فكر محافظ وأبوي وقمعي جدًا، والأهم من ذلك أنه شديد السلطوية، وهذا يمنح السلطة القائمة مستويات غير مسبوقة من السيطرة والسلطة الاجتماعيتين.
كما تستخدم الاتهامات بـ"ازدراء الدين" أو الخروج على تقاليد المجتمع في محاولة لترويج مبادئ سلطوية ومحافظة جدًا، وهذا بدوره يضمن الامتثال الاجتماعي والإذعان للدولة باعتبارها حامية هذه القيم، وأداة محافظة لتثبيت الاستقرار الاجتماعي.
7. يؤدي طغيان الديني على السياسي، والسياسي على الديني إلى إرباك الجميع، والأهم هو التغطية على أولويات الناس والقضايا؛ فالسقف المرتفع للجدل الديني لا يوازيه السقف نفسه في السياسة أو توزيع الثروة، والجرأة على الدين لا تناظرها جرأة على السلطة أو مرتكزات الثروة، والخلاف على صياغات مواد الدستور لا يكافئه الجهد في تفعيله. وهنا تكمن إحدى المفارقات؛ فبالرغم من أن الدولة تحرص على احتواء أي نقاش حول توزيع السلطة والثروة بمنتهى الحزم، فإنها لا تمانع في السماح للجدل الديني بأن يشتد ويقوى، وبرغم هزال السجل التشريعي والرقابي للبرلمانات العربية، فإنها تحولت إلى منتدى أساسي لإشهار المناقشات الدينية الجدلية.
8. نمو السياسة بشكل أيديولوجي مع غياب البرامج والسياسات، فمن المفارقات أنه رغم احتدام الجدل الإسلامي العلماني منذ دخول الإسلاميين إلى ساحة العمل العام في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، فإن الطرفين لم يقدما سياسات بديلة للحكم بعد الربيع العربي.
9. وأخيرا وليس آخرا، يؤدي المزيد من الجدل من دون فعل سياسي إلى مزيد من تصاعد التسلطية، حين يتم استخدام الجدل قنبلة دخان للإجراءات القمعية، وتتحول الدعوة إلى "تجديد الخطاب الديني" أو "الإسلام المعتدل" إلى فرض نسخة هرمية للإسلام مدعومة من الدولة ومتجذّرة في القيم الاجتماعية المحافظة؛ باعتبارها أداةً للسيطرة الاجتماعية. فما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة لروح الإسلام؟إنه يقدم لنا طبعة منزوعة الديمقراطية، ذات طبيعة نيوليبرالية مندمجة في السوق ومفتقدة لعدالة توزيع الدخل والثروة والفرص، وتحتل فيها الهيمنة والسيطرة -وليس تحرير الإنسان باعتبار التوحيد أعلى مراحل التحرر له- خيال القائمين على إنتاج خطاباته.