أنَّ نقد أي قول أو فعل في الماضي، انطلاقاً من دوافع أخلاقية بحتة، يجب أن يراعي أيضاً موقعه الزمني، لا أن يطلقه إطلاق المسلّمات العابرة للزمان والمكان.
حول النقد الأخلاقي للتراث
تنا
22 May 2022 ساعة 16:27
أنَّ نقد أي قول أو فعل في الماضي، انطلاقاً من دوافع أخلاقية بحتة، يجب أن يراعي أيضاً موقعه الزمني، لا أن يطلقه إطلاق المسلّمات العابرة للزمان والمكان.
الدكتور توفيق السيف
لا أذكر حقبةً من الزمن شهدت نقداً للتراث والمعارف الدينية، نظير ما نشهد اليوم. لعلَّه حصل في ستينات القرن العشرين، أيامَ ما كان يعرف بالمد الشيوعي. لكنِّي لم أعاصره كي أحكمَ عن خبرة، ولا اطلعت على تسجيل تاريخي لما جرى، كي أسند إليه. وغرضي هنا هو تنبيه الناقدين إلى الإطار التاريخي للفكرة أو الممارسة موضع النقد. وأذكر هنا عنصرين على وجه التحديد:
الأول: قيمة الفكرة أو الفعل في زمنه الخاص، رجوعاً لمعيار الحُسن والقبح العقليين.
الآخر: موقع الفكرة أو الفعل في سياق التطور العام للأفكار والممارسات الاجتماعية.
دعنا نأخذ مثالاً نعرفه جميعاً، هو الفتوحات الإسلامية. فالمتفق عليه أنَّ غزو البلاد الأجنبية ليس أمراً طيباً. ولو دعا أحدٌ اليوم إلى غزو أي دولة، صغيرة أو كبيرة، لنشر دعوة الإسلام، لقابله غالب المسلمين بالإنكار والاستهجان.
- لماذا؟
- لأنَّ نشر الدين بالقوة لم يعد «فعلاً حسناً» في منظومات القيم السائدة اليوم. ولأنَّ غالب سكان العالم متفقون على احترام القانون الدولي وسيادة الدول، أياً كان دينها. واحترام السيادة يقتضي عدم غزوِها أو إلزامها بعقيدة لا ترضاها.
وخلال الثلاثين عاماً الماضية، جرَّب بعض المسلمين استعمال القوة والقهر في فرض عقيدتهم. لكنا نعلم أنَّ عدد الذين التحقوا بهذه المشاريع، لم يتجاوز بضع مئات، وأنَّ كثيراً ممن ساندهم أول الأمر، ما لبث أن تراجعَ وأنكر حين انكشف ما تحمله هذه المشروعات من كوارث.
هذا يثير بذاته سؤالاً حرجاً: إذا كان الفتح ونشر الدين بالقوة أمراً طيباً، فلماذا لا يسعى له المسلمون اليوم؟ وإذا كان سيئاً، فلماذا لا يتبرأون من فتوحات أسلافهم؟
الجواب ببساطة: أنَّ الفعل ذاتَه قد يكون حسناً في زمنٍ وقبيحاً في زمنٍ آخر. مرجع التحسين والتقبيح ليس كتب التراث. الأخلاق اعتبارات عرفية، وعرف العقلاء يتطوّر ويتغيّر بتأثير عوامل عديدة. بعبارة أخرى، فإنَّ الغزو لأغراض جيوبوليتيكية، أو لنشر الدين أو تعزيز الاقتصاد، كان «فعلاً حسناً» عند عقلاء الأزمنة القديمة. لكن دول العالم قرَّرت تقبيح هذا الفعل في منتصف القرن السابع عشر، حين اتفقت دول أوروبا على معاهدة وستفاليا سنة 1648، واعتبرت الحدود القائمة لكل منها، نهائية، وأنَّ التجاوز عليها عدوانٌ يستحق الإدانة.
منذ ذلك الوقت اتَّجه العالم لاستحداث بدائل للحرب، حتى وصلنا إلى وقت بات فيه الغزو وتجاوز الحدود «فعلاً قبيحاً» عند الجميع.
ما أردت الوصول إليه هو أنَّ نقد أي قول أو فعل في الماضي، انطلاقاً من دوافع أخلاقية بحتة، يجب أن يراعي أيضاً موقعه الزمني، لا أن يطلقه إطلاق المسلّمات العابرة للزمان والمكان. فلو استنكر أحدُنا الحروب القديمة، انطلاقاً من أخلاقيات اليوم، فلن يكون منصفاً. ولو دعانا للحرب مستدلاً بسيرة الأسلاف، فلن يكون مصيباً؛ لأنَّ قيمة الأفعال لها إطار زمني وليست مطلقة.
مثال الفتوحات قابل للتطبيق على نظائر كثيرة، بما فيها أحاديث نبوية وروايات عن الصحابة، وكذلك أفعالهم ومسارات حياتهم. فقيمتها متصلة بزمنها، سواء صُنفت يومئذ كأفعال حسنة أو قبيحة، وسواء كانت يومها مقبولة أو مرفوضة.
زبدة القول: ما نستنكره اليوم ربما كان حسناً في وقته، أي قبل ألف عام أو أكثر، وما نقبله اليوم، ربما كان مستنكراً وقبيحاً في ذلك الزمان، فلا ينبغي لومُ الناس أو اعتبارهم خاطئين، لمجرد الاختلاف في تقييم قول أو فعل.
رقم: 550542