حديث التقريب.. سعدي الشيرازي من رموز وحدتنا
بداية نذكر أن العالم الإسلامي ينتظره مستقبل عظيم على الساحة العالمية إن أحسنَ استعمال ما يمتلكه من مقوّمات حضارية. إن بريق التطوّر التقني في السلاح والارتباطات وفي سائر المجالات قد بهر العيون وغطّى على عظمة وجود أمتنا الحضاري. لكنّ النور الذي سيبقى هو نور الحضارة، والحضارة الإسلامية لا ينافسها منافس على الساحة العالمية.
والعودة إلى وحدتنا الحضارية، ما عادت ضربًا من المستحيل كما كان بعضهم يوحي بذلك، لأن الوحدة الأوروبية أثبتت إمكان توحيد شعوبٍ نشبت بينها في القرن الماضي على الأقل حربان عالميتان، كما أن وحدتنا الحضارية ضرورة حتمية لبقائنا في عالم التكتلات. وكل مقومات الوحدة الأساسية قائمة بين ظهرانينا ونحتاج إلى تفعيلها.
نعود إلى سعدي الشيرازي لنقول إنه من رموز وحدتنا الحضارية. فهو إضافة إلى خطابه الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان استطاع أن يقدّم النموذج الرائع للامتزاج الحضاري بين الإيرانيين والعرب.
هذا الامتزاج نشاهده فيما خلّفه لنا من تراث. مؤلفاته (گلستان – بوستان ـ باقي أشعاره المسماة جميعًا: كليّات سعدي) مزجت بين العربية والفارسية بحيث لا يمكن أن يطالعها أحد إلا أن يكون ملمًّا باللغتين معًا. ولم يكن ذلك مصادفة، بل تعمّد إلى ذلك فيما أعتقد ـ ليثبت أن الامتزاج هذا يبلغ باللغة الفارسية إلى ذروة الكمال.
كثرة التضمينات القرآنية وكثرة العبارات والأبيات العربية التي تتخلّل نثره وتـُلمّع شعره، والقصائد العربية التي تحتويها كلّياته (مجموع آثاره) تثبت أنه أراد التوفيق بين اللغتين العربية والفارسية ليخرج بنصوص تجمع بين الإثنين في إطار جميل خلاّب بعيد عن أي تكلّف.
في كتابه «گلستان» على سبيل المثال ترى في الصفحة الأولى نثرًا مليئًا بالمفردات العربية: مِنّة.. عزّ وجلّ طاعة.. موجب.. قرب.. شكر.. مزيد.. نعمة.. نـَفَس.. ممدّ.. حياة.. مفرّح.. ذات.. واجب.. تقصير.. عذر.. رحمة.. حساب.. ناموس.. فاحش.. وظيفة.. خطأ.. كريم.. خزانة.. غيب..وظيفة.. محروم.. نَظَر.. فرّاش.. فرش.. داية.. بنات.. نبات… خلعة.. قباء.. ورق.. أطفال.. قدوم.. موسم.. ربيع..و…
وترى آية هي قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.. وهكذا تستمر الصفحات على هذا المنوال تتخللها أبيات بالعربية مشفوعة بأبيات في الفارسية.
والعربية في كلّيات سعدي نراها :
- في المفردات العربية الكثيرة في نثره
- وفي أبياته العربية المتناثرة خلال نثره
- وفي قصائده العربية التي أفرد لها المحققون قسمًا خاصًا
في مطلع أولها يقول :
الحمد لله ربّ العالمين على ما درّ من نعمة عزّ اسمه وعلا... وهي في ذكر الله ونِعَمه.
والثانية في رثاء بغداد والخليفة العباسي المعتصم بالله بعد هجوم المغول ومطلعها :
حبسـتُ بجفنيَّ المدامـع لا تجـري/ فلما طغى الماء استطال على السكر/ وتزيد على تسعين بيتًا.
والثالثة في مدح نور الدين بن صياد ومطلعها :
مادام ينسرح الغزلان في الوادي/ احذر يفوتك صيد يا ابن صيّاد.
عدد هذه القصائد العربية يربو على العشرين، وأكثرها في الحبّ كما ذكرنا، ومنها :
يا نديمي قم تنبّه واسقني واسقِ الندامى/ اسقياني وهدير الرعد قد أبكى الغماما/ وشفا الأزهار تفترّ من الضحك ابتساما/ قل لمن عيّر أهل الحبّ بالجهل ولاما/ لا عرفت الحبّ هيهات ولا ذقــت الغرامـا.
ونرى العربية في ملمّعاته نظير قوله :
وقتها يكدم برآسودي تنم (بين آونه وأخرى دع جسمي يسترح)/ قال مولائي لطرفي لا تـَنَمْ/ اسقياني ودعاني أفتضحْ/ عشق ومستوري نياميزد بهم (العشق والستر لا يجتمعان)/ ما بمسكيني سلاح انداختيم (نحن لمسكنتنا ألقينا السلاح)/ لا تحلّوا قتلَ من ألقى السّلَم/ قد ملكت القلب ملكًا دائمًا/ خـواهى اكنـون عــدل كـن خواهـى ستم (إن شئـــــــــت أن تـــعـــدل الآن أو تجــــــور).
وليست مظاهر الوحدة الحضارية عند سعدي متجلّية في الامتزاج اللغوي بين العربية والفارسية فحسب، بل أيضًا فيما يعرضه من قصص حقيقية أو رمزية دارت في بلاد عربية أو غير عربية أحيانًا من العالم الإسلامي.
فتجواله في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية أمدّه بخصب حضاري في شعره ونثره. في أحاديثه عن الشام، مثلاً، يتكرر ذكر دمشق والقدس وحلب وطرابلس، ويذكر عنها قصصًا فيها عبرة وتذكير.
من ذلك قصة أسْرِهِ في الشام يرويها على طريقته في السرد. يذكر القصة منثورة ثم يقطـّع فقراتها بقطعة شعرية أو بيت ، وفيها من العبر الكبيرة المرتبطة بواقعنا الراهن، يقول: «ذات يومٍ بدت لي ملالة من صحبة إخواني الدمشقيين، فهِمت على وجهي في صحراء القدس واستأنست بالحيوانات، إلى أن صرت مرة أسير قيد الفرنج (ويبدو أنه يشير إلى أسره بيد المهاجمين الصليبيين على الأرضي الفلسطينية يومئذ) وسخـّروني في عمل الطين مع اليهود في خندق طرابلس، حتى مرّ بي واحد من رؤساء حلب كان لي به سابق معرفة، وعرفني فقال: أي فلان! ما هذه الحال؟» (قطعة شعرية): «كنت أفرّ من الناس إلى الجبل والصحراء / لأنه لم يكن لي عن الله انشغال بالغير / فقس أية حالة تكون في تلك الساعة/ إذ يتحتّم عليّ أن أعمل في حظيرة اللئام». «لإن يكن الرجل مقيّدًا عند الأصدقاء / خير من أن يكون المرء في البستان مع الغرباء».
«فأشفق على حالي التّعسة، وخلّصني من القيد بعشرة دنانير، وأخذني إلى حلب، وزوّجني ابنته، بصداق قدره مائة دينار. بعد أيامٍ، أخَذَت ابنته في المشاكسة والعصيان وطول اللسان، وكانت تنغّـص عيشي».
أبيات من الشعر : «المرأة الخبيثة في بيت الرجل الطيب/ جحيمه في هذا العالم أيضًا/ فحذار من قرين السوء حذار، (وقنا ربّنا عذاب النار)».
«فأطالت مرّة لسان التعنّت وكانت تقول: ألست أنت الذي خلّصك أبي من قيد الفرنج بعشرة دنانير؟ فقلت بلى! أنا ذاك الذي خلّصني أبوك من قيد الفرنج بعشرة دنانير وجعلني أسيرًا في يدك بمائة دينار».
أبيات من الشعر :
«سمعت أن رجلاً كبيرًا خلّص خروفًا من فم ذئب/ وفي وقت الليل أمرّ السكين على حلقه/ فأتته روح الخروف قائلة: لقد اختطفتني من براثن الذئب/ فلما نظرتُ، كنت أنت ذئبي في النهاية».
وفي القصة إضافة إلى السرد الأدبي الممتع :
ـ أن الإنسان إذا ملّ المقام في مكان فعليه أن ينتقل منه، وهي دعوة إلى عدم الخضوع للعادة، وعدم الخضوع للعادة من أهم محاور دعوة العرفاء.
ـ مقارنــة بين العيش مع البشر الطبيعيين (مردم)، وهم الدمشقيون، والعيش مع البشر اللئام (نامردم)، وهم الفرنج الغزاة. وتأكيده على أن الإنسان إذا ملّ المقام مع أهله فلابدّ أن يتنقّل بين أهل آخرين من أبناء أمته لا أن يوقع نفسه في ورطة اللئام من أعداء أمته. فقَيدُ الأصدقاء أفضل من بستان الغرباء.
ــ إشارة إلى إمكان أن يلقى الإنسان العنت من الأقرباء الجهّال المشاكسين، حتى ولو كان ذلك القريب زوجه.
ــ إشارة إلى أن المتظاهرين بالإنقاذ والتحرير قد يكونون هم أنفسهم الجزّارين!! وما أشبه اليوم بالبارحة!!.
نذكر أخيرًا أن سعدي الشيرازي من جملة الأدباء الإيرانيين القدامى الذي تأثروا بالمتنبي، وفي ذلك ألف العلامة الفقيد العراقي الدكتور حسين علي محفوظ كتاب «سعدي والمتنبي».
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية
/110