إزالة آثار الاستعمار
عوامل كثيرة، خارجية وداخلية، تقف خلف الانقلاب الذي وقع في النيجر، وقبله في مالي وبوركينا فاسو.. بعد الانحدار، أتى الانهيار؛ ففي الثلاث سنوات الأخيرة، تحرّرت مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهي بلدان كانت في قلب «الحديقة الخلفية الأفريقية» لفرنسا (Le pre carre africain)، من السيطرة الشاملة والمديدة لهذه الأخيرة. الاستعمار الفرنسي كان قد نجح، بعد اندلاع ثورات التحرّر الوطني في فيتنام إثر الحرب العالمية الثانية، ومن ثمّ في الجزائر، وفشل العدوان الثلاثي على مصر – والذي شارك فيه هو -، وما نجم عن هذه التطوّرات من انحسار لسطوته عن الكثير من مناطق آسيا والعالم العربي، في منع امتداد الحريق الثوري نحو غرب أفريقيا، بالحديد والنار.
ان استعادة تاريخ سياسات فرنسا في هذه المنطقة من العالم، وتنظيمها للانقلابات العسكرية، وتورّطها المباشر في عمليات القمع والمجازر الوحشية إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية، كما فعلت في الكاميرون مثلاً أواخر الستينيات، كافية لنزع أيّ صدقية عن حجّة «الدفاع عن الديمقراطية» التي توردها حالياً لتبرير تدخّلها العسكري المحتمل ضدّ النيجر.
واذا كان تفاعل عوامل كثيرة، خارجية وداخلية، يفسّر أسباب الانقلاب الذي وقع في هذا البلد، وقبله في مالي وبوركينا فاسو، فإن تلك «الخارجية»، أي تحكّم فرنسا، عبر شراكاتها مع النخب الحاكمة التي توالت على السلطة فيها بثروات ومصائر شعوب هذه الدول، هو المعطى البنيوي الرئيسي الذي يسمح بإدراك ما آلت إليه أوضاعها. فهي تمكّنت، مع شركائها المحليّين، من إنشاء منظومة سيطرة ونهب دامت عقوداً طويلة، دمّرت فرص أيّ تنمية حقيقية وحالت دون قيام دول وطنية حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وعندما حاولت نخب وطنية، وصلت إلى السلطة بالقوة لاستحالة أيّ سبل أخرى للوصول إليها، التصدّي لهذا الواقع، كما فعل رئيس بوركينا فاسو المغدور، توماس سانكارا، في بداية ثمانينات القرن الماضي، أشرفت باريس مباشرة على الانقلاب الذي أطاح به في 1987، وأدّى إلى تصفيته مع معظم رفاقه.
من أراد الاطّلاع على هذه الصفحات المظلمة من تاريخ علاقة «عاصمة الأنوار» بالقارة السمراء، يتوافر لديه اليوم أكثر من 80 كتاباً، صادرة جميعها بالفرنسية في العقدين الماضيين، ومنها للمثال لا الحصر كتاب توماس بوريل، «الإمبراطورية التي ترفض الموت»، أو «حرب الكاميرون» لتوماس ديلتومب، أو «حرب فرنسا في مالي» لجان كريستوف نوتان، وآخرها كتاب ندونغو سابا سيلا وفاني بيجو «عملة أفريقيا الاستعمارية الأخيرة».
وقسم كبير من هذه الكتب يستند إلى وثائق صادرة عن جهات رسمية فرنسية وأفريقية، وإلى شهادات لمعنيّين بالأحداث التي وقعت، وإلى وقائع سياسية واقتصادية صلبة واضحة للعيان، لمَن يريد أن يرى طبعاً الخراب العميم الناتج من عقود من النهب الاستعماري البدائي للموارد، والاضمحلال التدريجي لمؤسّسات دول حديثة النشأة وخاضعة لسيطرة نخب فاسدة، ونموّ ظاهرة التطرف والإرهاب، دفعت مؤسّسات كـ«البنك الدولي» مثلاً إلى تصنيفها دولاً «متداعية»، وتحميل فساد النخب المذكورة وحدها مسؤولية الأمر، وتجاهل الدور المركزي لشريكها ووليّ نعمتها الباريسي.
هذا هو السياق العام والبنيوي الذي تمّ في إطاره استيلاء مجموعات عسكرية على السلطة في دول دخلت طوراً متقدّماً من التحلّل.. الالتفات إلى موقف أوّل المعنيّين، أي شعوب البلدان الثلاثة، هو المدخل الصحيح لمقاربة غير استعمارية للتحوّلات في النيجر.
المشكّكون في نوايا المجموعات العسكرية التي استلمت السلطة في الدول الأفريقية الثلاث، يرتكزون أساساً على الأدبيات التقليدية لخطاب «أفضلية الديمقراطية على ما عداها من النظم»، وإلى السجل البائس لمعظم الانقلابات العسكرية في الجنوب العالمي؛ لكن يتعامى هؤلاء عن السجل الذي لا يقلّ بؤساً للنخب «المنتخَبة ديمقراطياً» في غرب أفريقيا، وخيانتها للوعود التي قدّمتها لشعوبها، والتداعيات الكارثية للسياسات التي اعتمدتها بوحي فرنسي.
حقيقة أن مثل هذا الخطاب لم يَعُد يلقى آذاناً صاغية بين أغلبيات شعوب البلدان المشار إليها، أصبحت محلّ إقرار حتى في تقارير الأمم المتحدة، كالتقرير الأخير الصادر عن «برنامج الأمم المتحدة للتنمية»، بعنوان «جنود ومواطنون..الانقلابات العسكرية وضرورة التجدّد الديمقراطي في أفريقيا؛ إذ يلحظ التقرير الدعم الشعبي للحكومات العسكرية الجديدة، ويعتبره مؤشّراً إلى «موجة جديدة من التطلّعات الديموقراطية المتعاظمة في القارة».
الالتفات إلى موقف أوّل المعنيّين، أي شعوب البلدان الثلاثة، هو المدخل الصحيح لمقاربة غير استعمارية للتحوّلات فيها؛ عندما تقرّر السلطة الجديدة في النيجر وقف تصدير اليورانيوم، الذي يوفّر حوالي 70% من الطاقة الكهربائية في فرنسا، إلى هذه الأخيرة، ينبغي التذكّر، كما يشير توماس فازي في مقال على موقع «أنهرد»، بأن واحداً من كلّ 7 نيجيريين فقط تتوافر لديه الكهرباء.
توجّه الحكومات العسكرية إلى التحكّم بمواردها الطبيعية الاستراتيجية، وتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي في ما بينها، وتبنّيها لخطاب الاستقلال والوحدة الأفريقية – والأوضح في هذا المجال هي حكومة بوركينا فاسو التي تستعيد خطاب توماس سانكارا، جميعها مؤشّرات إيجابية…
نهاية المقال