حضارتنا تقوم على أساس الخطاب الإنساني العام، ومخاطبة الإنسان وتكريمه بما هو إنسان؛ كثير من الآيات القرآنية تبدأ بعبارة : [يا أيها الناس] ومنها آية الدعوة إلى التعارف بين الشعوب : [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم].
والنصوص الدينية الأخرى تؤكد أن الإنسان أخو الإنسان، شاء أم أبى، وتؤكد أن كل أبناء البشر من بني آدم، وآدم من تراب، فلا تفاضل ولا تفاخر في الأنساب والأعراق، والتفاضل عند الله ــ لا عند البشر ــ بما يقطعه الإنسان على طريق كماله، وهو الذي عبّرت عنه الآية بالتقوى.
وعلى الصعيد العملي انفتحت الحضارة الإسلامية على لغات الشعوب وثقافاتهم، ولم تـفرض اللغة العربية – مع قداستها – على غير العرب، ولا أدلّ على ذلك من بقاء اللغة الفارسية إلى جوار اللغة العربية في إيران، بل من إقبال القبائل العربية المهاجرة إلى إيران على تعلم اللغة الفارسية، حتى أصبح الجيل الثالث منهم لا يعرف اللغة العربية إلا عن طريق التعلّم.
وهكذا الموقف من الديانات الأخرى، كان موقف احترام واعتراف، والدليل على ذلك تعايش المسلمين مع المسيحيين واليهود والزرادشتيين حتى يومنا هذا، رغم استفزازات الحروب الصليبية وممارسات الحركة اليهودية العالمية التي أنجبت الصهيونية.
واشتهر "سعدي" برفع هذا الصوت الإنساني في أدبه حتى عُدّ من شعراء الإنسانوية، واشتهر خاصة بقوله :
بنى آدم اعضــــاى يكديگــرند
كـــــــــه در آفرينش زيك گوهــرنـد
چــو عضوى بـــدرد آورد روزگـــــــــار
دگـــــــــر عضـوها را نمــاند قرار
تــو گر محنت ديگران بى غمـــــــــــى
نشايد كـــــــه نامت نهند آدمـــى
***
أي : بنو آدمٍ جسدٌ واحدُ
إلى عنصر واحد عائدُ
إذا مسّ عضوًا أليم السقام
فسائر أعضائه لا تنام
إذا أنت للناس لـم تـألم
فـــــــــــــكيـــــــــــــف تسمـيــــــــــــــــــــــــــــــــــــت بالآدمـــــــــــــــي؟! |
بهذه الروح الإنسانية نظر إلى العرفان، فذهب إلى أن العارف أو الصوفي هو الذي يخدم الناس لا الذي يختار العزلة والاعتكاف، ويطلب من كلّ الناس حتى الحكّام أن يتخلّـقوا بأخلاق الدراويش :
«ليست العبادة سوى خدمة الناس / ليست بالتسبيح والسجادة وارتداء الدلق / ابقَ أنت على عرش سلطنتك / بأخــلاق طــاهــرة وكـن درويشًا».
ويرى أن المعتكفين في الخانقاه لا نفع فيهم، وأن العارف لابدّ أن يتزوّد بالعِلم الذي يخدم فيه الناس، يقول :
صــاحب دلى بمدرسه آمد زخانقـــــــاه
بشكست عهد صحبت أهـــل طريق را
گفتم ميان عالم و عابد چه فرق بود
تــــــــا اختيار كــــــــــردى از آن اين فريق را
گفت آن گليم خويش بدر ميبرد زموج
وين سعى مى كند كه بگيرد غريــق را
أي: «عارف جاء من الخانقاه إلى المدرسة/ وقطع عهد الصحبة مع أهل الطريقة / قلت: ما الفرق بين العالم والعابد /حتى جعلك تختار هذا الطريق؟ / قال: ذاك ينقذ سجادته من الموج وهـذا يسعـى للأخـــذ بيد الغريـق».
كما أن حضارتنا دعت دائمًا إلى الوسطية، وإلى الابتعاد عن الإفراط والتفريط، فأمتنا الوسط مدعوة إلى أن تكون شاهدة، والشاهد لا ينحاز إلى طرف، بل يسير على الجادة الوسطى، والانحياز إلى طرف هو التطرّف، وهو مرفوض.. وهي مدعوة إلى الاعتدال وإلى الطريق المستقيم.
و"سعدي" عاش في عصر الإفراط بين المدرسة والخانقاه، أي بين العلم والدروشة، فدعا إلى عرفان مقرون بالعلم والفكر والحكمة يقول :
سخنـدان پــرورده پيــر كهــن
بينـــــــــديشد، آنگه بگويــد سخــن
نــــــــــزن تاتوانـــــــــــى بگفتــــار دم
نكــــــــــو گوى، گرديرگوئى چــه غم
بينديــــــش وآنگــه بر آور نفس
وزان پيـش بس كن كه گويند بـس
بنطـــق آدمــى بهترســت از دواب
دواب از تــو بـه گر نگوئى صواب
أي: «إن الشيخ المعمّر، البليغ المربّي / يفكر ثم يتكلّم / لا تنطق بغير تروّ وتأمّل / أحسن القول، وماذا يضيرك إن أبطأتَ في الكلام؟/ فكر ثم افتح فمك/ واسكت قبل أن يقال: كفى! / إنّ الآدمى بالنطق أفضل من الدواب / والدواب خير منك إن لم تقل الصواب».
ويقول بشأن السلوك المقرون بالحكمة :
«لقمان را گفتند: حكمت از كه آموختى؟ گفت: از نابينايان كه تا جاى نبينند پاى ننهند. قدّم الخروج قبل الولوج، مرديت بيازماى وآنگه زن كن».
أي : "قيل للقمان الحكيم ممن تعلّمت الحكمة؟ قال: من العُميان، فإنهم لا يضعون القدم حتى يعرفوا المكان. (قَدّم الخروجَ قبل الولوج) جرّب رجولتك ثم تزوّج".
والدعوة إلى الخطاب المعتدل نراها في شعر سعدي حين يتحدث عن الصمت والكلام، فلا الصمت المطبق مطلوب ولا الهذر الكلامي، فالصمتُ له وقته، والكلام له وقته. يقول :
اگر چه پيش خردمند خامشى ادب است
به وقت مصلحت آن به كه در سخن كوشى
دو چيز طير عقل است: دم فروبستن
به وقت گفتن، وگفتن به وقت خاموشى
أي «ولو أن الصمت في رأي اللبيب من الأدب/ لكنك اجتهد في أن تتكلم حين تقتضي المصلحة/ شيئان من خفّة العقل: السكوت / في وقت الكلام، والكلام في وقت السكوت».
وما أحوجنا اليوم إلى أن نخطط لحياتنا الفردية والاجتماعية في الكلام والسكوت، كي لا نقع في إفراط الهذر أو تفريط الإعراض عن قولة الحق.
والاعتدال نراه أيضًا في موقفه المذهبي، ولعل هذا الموقف استلهمه من أستاذه الغزالي. فالغزالي لم يتعصّب لمذهب معين. يقول في رسائله الفارسية ما ترجمته:
«أسير في المعقولات على مذهب البرهان وما يقتضيه الدليل العقلي. وفي الشرعيات على مذهب القرآن، ولا أقلّد أحدًا من الأئمة، فليس للشافعي عليّ عهد ووصية، ولا لأبي حنيفة حجة وسند».
وليس من شك أنّ دراسة سعدي كانت على يد أساتذة من أهل السنّة، وفي كليّاته ما يشير إلى أنه سنّي المذهب، ولكنك ترى في هذه الكليات حديثًا عن علي بن أبي طالب وعن أهل البيت ما يوحي أنه شيعي، والمحصلة من كل ذلك أنه أراد أن يتجاوز المذهبية في نهجه، ويقف الموقف الذي يمليه عليه فكره وشخصيته المستقلة، لا التقليد الأعمى.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى هذا الاعتدال في الموقف المذهبي، بحاجة إلى نفهم السنّة بأنها التزام بسنّة رسول الله (ص)، وهو التزام واجب على كلّ المسلمين، عندئذ يكون كلّ المسلمين سنّة، وأن نفهم التشيع بأنه ولاء لآل بيت رسول الله(ص)، وهو ولاء أوجبه القرآن الكريم )قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى( عندئذ يكون كلّ المسلمين شيعة، وما عدا ذلك فهو إما خلافات تاريخية لا علاقة لنا بها، وإما اختلافات اجتهادية طبيعية بين البشر، أجازها الإسلام وشجّع عليها.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية