هي واحدة من أكبر مجازر الإبادة الجماعية التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية بحق شعوب العالم على مر العصور، هذه المجازر التي بدأ تأريخها منذ أن وطِئت أقدام المستكشفين الأوروبيين القارة الجديدة، إذ ما أقدم عليه هؤلاء المستوطنون الجُدد من أعمال قتل وتنكيل بالسكان الأصليين للبلاد على مدى قرون من الاستعمار …أنجزته دولتهم الحديثة بثوان معدودة في 6 أغسطس/آب من العام 1945، حين ألقت “واشنطن” على مدينة “هيروشيما” أول قنبلة ذرية في العالم، ما أدى على الفور إلى مقتل ما بين 70 و80 ألف مدني من مختلف الأعمار، فيما ارتفع عددهم بحلول نهاية العام 1945 إلى نحو 140 ألفاً. وفي 9 أغسطس أيضاً ألقت قنبلتها الذرية الثانية على مدينة “ناغازاكي” ما أدى إلى مقتل 70 ألف مدني.
وفي مقارنة لمشهدية القتل والدمار بين “هيروشيما” و”قطاع غزة”، فإنّ النتائج الحسابية لا تُفرق بينهما كثيراً، ففي القطاع واجه حوالي 20% من سكانه القتل أو الإصابة الجسدية أو النفسية أو فُقدان الأثر نتيجة الإبادات الجماعية، عدا عن جرائم التشريد والتجويع لجميع قاطنيه، ومثلما تعرضت “هيروشيما” لدمار شبه كامل حيث بلغ حجمه التدميري نحو 70% من المباني فيها، عادلها تقريباً في غزة حجم الدمار الذي خلّفه الاحتلال في الوحدات السكنية، وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للحياة.
أضف إلى ذلك مفاجأة أخرى، أن كمية القنابل والقذائف التي استخدمها الجيش الصهيوني ضد القطاع وحده، تفوق تلك التي استخدمها الزعيم الألماني السابق أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، بما فيها على “لندن” عاصمة المملكة المتحدة.
وبالرغم من هذا ما زال الاحتلال يواصل حرب الإبادة بحق الفلسطينيين، متجاهلاً قرار مجلس الأمن الدولي، وأوامر محكمة العدل الدولية، لا بل تواصل معه الولايات المتحدة الأميركية الدعم السياسي والعسكري اللامحدودين للاحتلال ، مما يزيده إمعاناً في قتل الأطفال والنساء، وتدميراً للمساجد والكنائس والمستشفيات، وتمادياً في تنفيذ جرائم الاغتيال. وليس آخرها جريمة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “اسماعيل هنية”، حيث أعاد عقارب الساعة إلى الوراء إلى يوم 7 أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) يوم تلقى صفعته الأولى من قبل حركة حماس، فاتبعتها اليوم وفي ذكرى مجزرتي “هيروشيما وناغازاكي”، بصفعة ثانية بعد أن صدور قرار “حركة حماس” الذي بثته من غزة من بين الركام ومن تحت الأنفاق: “يحي السنوار قائداً لحركة حماس”.
تأتي الصفعة الجديدة هذه وجيش الاحتلال مُنهكاً، والكيان المحتل في نزاع داخلي حاد وشائك، زادت من مآزقه السياسية تداعيات اغتيال “هنية”…بعد أن برزت ثغرة كبيرة في قرار الاغتيال، إن في تقدير ردة فعل ايران عليها أو رد فعل “حماس”، وإن في التسرع بالقراءة الفاشلة للموقف الدولي من هذه الجريمة، التي وضعت الشرق الأوسط كله على فوهة حرب إقليمية قد تتدحرج إلى حرب عالمية، بعد أن غلب على عملية صنع قرار الاغتيال، الطيش السياسي والحماقة الاستراتيجية المبنية على قاعدة الكسب المعنوي لاستنهاض الهمم والهروب للأمام من قبل نتنياهو شخصياً…الذي وإن نجح من حيث الأسلوب والوسيلة في تنفيذ جريمته، إلا أنه فشل في تحقيق الأهداف السياسية والإستراتيجية المتوخاة منها، وذلك للأسباب التالية :
1- فشل للأستخبارات العسكرية العدوة، التي لم تلحظ في سيناريوهاتها اسم يحي السنوار لقيادة حماس خلفاً لإسماعيل هنية، ما شكل صدمة ومفاجأة كبيرتين لحكومة الاحتلال، والفشل أيضاً في إحداث تصدع أو فوضى داخل الحركة، لما شكل اختيار “السنوار ” من تحد للمنظومة الأمنية ولكل الضربات العسكرية وجرائم الإبادة التي تُشن على غزة، حيث أكدت حماس باختيارها هذا أنها قوية وستبقى متمسكة بخيار المقاومة.
2- الفشل في إجهاض المباحثات غير المباشرة لوقف إطلاق النار، حيث جاء البيان “القطري المصري الأمريكي” الأخير ليُسّرع في الإتفاق الذي أصبح جاهزاً ولا ينقصه سوى تفاصيل التنفيذ، مع دعوتهم الطرفين لاستئناف المحادثات في 15 أغسطس بالدوحة أو القاهرة لسد الثغرات المتبقية. وبالتالي، هل يُسحب أصبع التفجير الإقليمي بوقف العدوان على غزة؟
3- الفشل في القضاء على المطلوب الأول للعدو الصهيوني، بعد أن عجز عن الوصول اليه طوال فترة الحرب، خاصة وأن الكيان المحتل يعتبره المهندس لعملية “طوفان الأقصى”، إذ أعلن منذ بداية الحرب أن “السنوار” أحد أهدافه القتاليّة في غزة. فكيف الآن بعد أن أمسى وأصبح “الأمر له” في حركة حماس؟
4- على الرغم من تصنيف الشهيد “إسماعيل هنية” بأنه من المعتدلين في حركة حماس، وعلى الرغم من أنه كان هدفاً سهلاً للعدو فيما سبق إن في قطر أو تركيا أو حتى لبنان، لم يغتاله العدو إلا في طهران لارباكها أمنياً، لكن بالمقابل يؤكد فشله في الوصول إلى شخصيات فلسطينية راديكالية هي أصعب منالاً، ومحاولة فاشلة أيضاً لاصطناع بطولة وهمية يحتاجها نتنياهو في الداخل، من دون احتسابه للرد الإيراني الحتمي.
5- سرّعت جريمة الاغتيال من عملية تسليم روسيا الاتحادية للجمهورية الإسلامية في إيران منظومة من الرادارات ومعدات الدفاع الجوي، إضافة إلى طائرات سوخوي “سو-35” الروسية التي تعد من أقوى الطائرات الروسية، بعد التأخر بتسليمها أشهر معدودات لأسباب مالية.
6- لم يمنع التصعيد الأمريكي في المواقف أو في الممارسات الميدانية الداعمة للكيان المحتل ضد إيران، من الهرولة باتجاهها في محاولة للتواصل مع المسؤولين هناك سراً إن كان بالمباشر أو غير المباشر، في محاولات يائسة لوقف الرد الإيراني أو للحد منه، تخوفاً من إنزلاق الأمور إلى حرب أقليمية. فهل ستناور إيران بعملية الرد لقاء وقف العدوان على غزة؟
7- منذ عمليتي اغتيال “شكر و هنية” أصبح 9 ملايين مستوطن صهيوني يعيشون في حالة هلع وخوف في ظل اشتعال جبهة الشمال مع حزب الله، وسط الترقب للرد الإيراني الذي يصب تأخره في إطار الحرب النفسية بقصد التأثير على الروح المعنوية للمستوطنين وعلى السلوك لدى المسؤولين الصهاينة، مما يزيد من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعدو سوءاً وإرباكاً.
من المؤكد أن محور المقاومة يستطيع أن يقوم بردٍ مؤلم على الكيان، وبدوره يستطيع الاحتلال أن يرد على الرد، ومن المؤكد أيضا أنها قد تُشعل حرباً في أدناها تكون محصورة بالرد والرد المضاد، وفي أقصاها قد تتوسع إلى حرب إقليمية، يخشاها نتنياهو لكنه في نفس الوقت يسعى اليها في استدراجه لمحور المقاومة، بأن يكون البادئ في توسعة الحرب، لإظهار الكيان بمظهر الضحية على غرار 7 أكتوبر، وعلى قاعدة أنه ليس المبتدأ بحرب استباقية إنما سيخوض حرباً دفاعية وجودية قد تُفرض عليه، ليصل إلى مبتغاه وهو زج أكبر عدد ممكن من دول إقليمية وعالمية إلى محوره في الصراع ضد ايران…فهل ينجح في ذلك؟ أم أنّ في كواليس الرسائل المتبادلة ما قد يسبق إلى تجنيب المنطقة “أقله في الوقت الراهن” حرباً كبرى؟ وهل حرّك قرار الرد الايراني المياه الراكدة في مباحثات وقف العدوان على غزة؟ والأهم هل تسمح المسافة الزمنية المتبقية للرد الايراني من الوصول إلى اتفاق لوقف شامل لاطلاق النار؟
انتهى
____________________________
* عميد لبناني متقاعد