دخل الكيان الصهيوني في دوامة الخيار الايراني مع ما يحمله ذلك من اعادة رسم لجدول الاعمال على المستوى الصهيوني الداخلي، واعادة ترتيب للاولويات بعد ان تقدم موضوع الاحتجاجات الاجتماعية على كافة الملفات الاخرى، وبات يهدد طبقة المصالح الرأسمالية التي تتحكم بمجمل مفاصل اهم المرافق الاقتصادية في الكيان عبر الزواج غير الشرعي الذي يربط رأس المال بالطبقة السياسية في اسرائيل.
ويأتي الانسياق الاسرائيلي العام مع موجة التجييش ضد المشروع النووي الايراني في ظل تناقض يحمل العديد من علامات الاستفهام حول الاغراض الحقيقية لهذا التصعيد ومدى جدية الخيارات الكبرى التي تطرح على المستوى الصهيوني، وبالاخص موضوع الخيار العسكري في مقاربة هذه القضية الكبرى، ففي حين دخلت المؤسسة السياسية في هذا التجييش بمختلف اطيافها داخل السلطة وفي المعارضة بمواكبة واضحة من وسائل الاعلام والنخب الاكاديمية وشاغلي المناصب الامنية والعسكرية السابقين والحاليين، فإن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو اوعز الى رئيس الشاباك افنير كوهين بالتقصي والبحث عمن سرب المعلومات الى وسائل الاعلام حول النقاش داخل المجلس الوزاري الاسرائيلي المصغر بشأن بحث خيار مهاجمة المنشآت النووية الايرانية، يأتي طلب نتنياهو هذا رغم ان مواقفه الشخصية الاخيرة التي وصفت التهديد الايراني بالتهديد الخطير والثقيل على اسرائيل كانت باكورة التصعيد الاسرائيلي في هذا السياق.
ولعل المراقب لسيل المواقف الاسرائيلية لا يكاد يركن الى موقف واضح من عدة قضايا من بينها طرح هذه القضية في النقاش العام الاسرائيلي، اذ يحذر العديد من المسؤولين الاسرائيليين وعلى رأسهم وزير شؤون الاستخبارات دان مريدور من النقاش العلني في القضية ويرى به ضررا خطيرا واخفاقا في عمل الاجهزة والمؤسسات الاسرائيلية يصل الى حد الفضيحة في التعاطي مع قضايا مصيرية كقضية الموضوع النووي الايراني، فيما عاود رئيس الكيان الصهيوني شمعون بيريز الكرة في التأكيد على الخيار العسكري ضد طهران عندما رأى ان الخيار العسكري ضد ايران بات اقرب من اي وقت سابق، كما حاول وزير الحرب ايهود باراك الجمع بين النقيضين حين اصر على اولوية الملف الايراني داعيا الى ضرورة اعطائه كل الاهتمام وعدم سحب الخيارات العسكرية عن الطاولة لكنه رفض الحديث عن خيار عسكري اسرائيلي يتم الاعداد له ضد طهران.
رئيس الموساد السابق مئير دغان المتهم بأنه كان اول من حذر علنا من تهور نتنياهو وباراك في قضية الخيار العسكري ضد المنشآت النووية بدا مصرا على موقفه من ضرورة تجنب الخيار العسكري وما يمكن ان يحمله ذلك من نتائج على اسرائيل، اضافة الى تشكيكه في جدوى هذا الخيار في القضاء على برنامج ايران النووي، ورفض دغان الحملات التي شنت ضده معتبرا ان من حقه ابداء رأيه في هذا الموضوع شأنه شأن اي من الاسرائيليين.
كما ضجت التعليقات الاسرائيلية المختلفة في وسائل الاعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة التي حفلت باستضافة الخبراء والمتخصصين والمسؤولين السابقين في المؤسستين العسكرية والامنية، وتراوحت المواقف بين داع الى ضرورة الاستعداد لخوض المواجهة مع ايران واخرى تدعو الى الحذر في التعاطي مع هذا الملف الشائك والمعقد والتواضع في الكلام عن قدرات اسرائيل على توجيه ضربة قاضية لبرنامج ايران النووي.
وكان لافتا رغم نفي المسؤولين الاسرائيليين اي قرار حتى الآن بالشأن الايراني ابراز صحيفة يديعوت احرونوت عنوانا يتحدث عن استكمال استعدادات الجيش الاسرائيلي لتوجيه ضربة عسكرية ضد ، وحاولت الصحيفة ادراج تجربة الصاروخ البالستي في كيان العدو مؤخرا في سياق الرسائل الموجهة الى طهران رغم تأكيد القائمين على التجربة والعديد من المصادر الاسرائيلية ان هذه التجربة ليست متصلة بالتصعيد ضد طهران، وان تزامنها مع هذا التصعيد مجرد صدفة.
جهات في الاعلام الاسرائيلي ومؤسسات القرار الصهيوني حاولت تجيير هذه التجربة بالاضافة الى مناورات سلاح الجو الاسرائيلي في جزيرة سردينيا الايطالية على هجمات بعيدة المدى، ومناورة الجبهة الداخلية في منطقة غوش دان التي تقع تل ابيب في قلبها على مواجهة هجمات صاروخية، في اطار الاعداد للحرب وتوجيه الرسائل الاسرائيلية الى من يهمه الامر بأن تل ابيب تحمل الخيار العسكري محمل الجد.
الكلام الاسرائيلي عالي النبرة الذي وصفه معلقون اسرائيليون بالجنون والهستيريا وضعه عدد من هؤلاء المعلقون في اطار الحملة المكشوفة والمفضوحة التي لا تخفي في طياتها اي خيار اسرائيلي انما هي مجرد حملة اعلامية مبرمجة استباقا لتقرير اللجنة الدولية للطاقة الذرية حول النووي الايراني، ومحاولة اسرائيلية لاعادة طرح القضية الايرانية بقوة على جدول الاعمال الاقليمي والدولي بعد الانشغال بما يجري في العالم العربي وتراجع الاهتمام بهذا البرنامج عن رأس الاولويات الدولية والاميركية على وجه التحديد.
التجاوب الصهيوني العام مع ما ارادت حكومة نتنياهو رسمه على مستوى الاولويات لم يمنع بعض المعلقين الصهاينة من اعادة طرح اسئلة اساسية حول الموضوع الايراني، وتتعلق بمدى قدرة اسرائيل وسلاحها الجوي على مهاجمة المنشآت النووية الايرانية بعد ان تعلم الايرانيين الدرس من ضرب المفاعل النووي العراقي من قبل سلاح الجو الاسرائيلي عام ١٩٨١ كما يقول الخبير بشؤون الاستخبارات رونن برغمان الذي نبه من ان الايرانيين وزعوا منشآتهم النووية بشكل واسع على مختلف الاراضي الايرانية لذا سيكون من الصعب جدا على سلاح الجو الاسرائيلي توجيه ضربة قاضية لهذا البرنامج، واعتبر برغمان انه حتى في حال قيام الولايات المتحدة بالخطوة العسكرية فإن قضية القضاء الكلي على برنامج ايران النووي ستبقى موضع شك.
السؤال الاهم الذي يطرح نفسه بقوة هو هل ان حفلة الجنون الاسرائيلي هي مجرد حملة عابرة لاعادة تسليط الاضواء على الملف النووي الايراني ومحاولة لابتزاز المجتمع الدولي والولايات المتحدة لدفعهم نحو المزيد من سياسات الحصار والعقوبات ضد طهران، ام ان اسرائيل دخلت فعلا في مرحلة الاعداد للحرب ضد برنامج ايران النووي، ويبدو من مواقف المسؤولين ومختلف التعليقات الاسرائيلية ان اسرائيل ترغب في وضع هذا الملف على نيران حامية لانضاج سياسة دولية اكثر تشددا ضد طهران بهدف دفع الاخيرة الى القبول بالشروط الاميركية والاوروبية، ما يعني عمليا ان تتخلى ايران عن برنامجها النووي دون ان تضطر اسرائيل او الولايات المتحدة لخوض مغامرة ستكون اثمانها باهظة جدا بكافة المقاييس، وتكون اسرائيل قد جنت بذلك نتائج الحرب دون ان تخوضها وتضطر لدفع ضريبتها، اما ان لم تفلح كل محاولات تركيع طهران فإن العديد من المسؤولين الاسرائيليين السابقين والحاليين ومن بينهم رئيس الموساد السابق افريم هاليفي كانوا قد طرحوا احتمال اضطرار اسرائيل للقبول بايران النووية ودعا ليفي الى سحب فكرة ان القنبلة النووية هي تهديد وجودي لاسرائيل لأن ايران حسب رأيه قد تمتلك هذه القنبلة من دون ان تستطيع اسرائيل والولايات المتحدة ثنيها عن ذلك فماذا سيكون حال اسرائيل والاسرائيليين في حال التجسد الفعلي لهذا التهديد الوجودي بحسب هاليفي، كما لاقت زعيمة المعارضة تسيبي لفني رئيس الموساد في السابق بهذا الاستنتاج حين دعت الى ضرورة ان تهيء لنفسها لتعيش في ظل ايران نووية.
يضاف الى هذا التوجه دعوات يرددها دائما مسؤولون صهاينة وعلى رأسهم رئيس كيان العدو شمعون بيريز الى يرى بضرورة جعل الموضوع الايراني مشكلة عالمية دون ان تكون اسرائيل في صدارة المتصدين لايران النووية وجعل الولايات المتحدة تخوض المواجهة نيابة عن اسرائيل حتى لا تضطر اسرائيل الى دفع فاتورة مواجهة لا تطيق تحملها بمفردها.
اعداد مكتب بيروت