المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله
للحديث عن "الوحدة الإسلامية" في حياة العاملين للإسلام، طعم الحلم الكبير، وذلك بالنظر إلى المشاكل الكثيرة التي يُعانيها المسلمون، بسبب حالة التمزّق التي يعيشونها، سواء بين المذاهب أو الطوائف، وبفعل ما يعيشونه من خصومات ومشاحنات، ما أدّى إلى المزيد من الضعف السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي، وإلى الشعور بانقسام الشخصية إلى شخصيات متعددة، يتقوقع كلّ واحد منها داخل إطار مغلق، ما يجعل التفكير مستغرقاً في الحالة الطائفيَّة، بعيداً عن الشخصيّة الإسلامية المنفتحة.
وقد استطاع هذا الواقع أن يبعد الإسلام عن حركة الحياة، وأن يُخضع المسلمين لقوى الاستعمار والاستكبار، التي استخدمت نقطة الضعف هذه، فحوَّلت البلاد الإسلامية إلى ما يشبه قطع الشطرنج التي تلعب بها كما تشاء، وتحرّكها كما تريد، وسيطرت على كلّ مقدرات المسلمين، وأبعدت حركة الحكم والتشريع في حياتهم عن الأسس الإسلامية، وجعلتهم يعيشون إسلامهم ضمن دوائر تاريخية وعملية ضيّقة، يختزنون في داخلها كلّ ما يملكون من حساسيات وأحقاد وسلبيات، وهيأت لـهم ـ في كلّ مرحلة من مراحل نموهم ـ عوامل التفتيت والضعف والتقسيم، وقادتهم إلى حروب طائفية لا يملكون معها إلا أدوات القتل والتدمير لبعضهم البعض.
وهذا هو الذي دفع الواعين في الأمّة، إلى طرح شعار "الوحدة الإسلامية"، كهدف إسلامي كبير يعملون له بأساليب متنوعة، ويبيّنون مـن خلالـه النتائج السلبية للانقسام في حياة المسلمين، في مقابل النتائج الإيجابية التي يحصلون عليها من خلال الاتحاد، أو التعاون، أو الوحدة.
الوحدة بين الأطروحة المثاليَّة والواقعيَّة:
لقد اختلفت الأطروحات حول الوحدة، فهناك الأطروحة المثالية التي تواجه المشكلة بالروح الغيبية الضبابية، التي تحاول إبعاد المشاكل الحيّة عن تفكير الأمّة، بالإيحاء أنَّه لا خلافات صعبة بين المسلمين، وأنَّ علينا تناسي القضايا الهامشية، والوقوف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص في مواجهة الأعداء. وهكذا، يغرق الإنسان المسلم في ما يشبه الأحلام، في أجواء عاطفية، فيستسلم لهذا الخدر اللذيذ، ثمَّ يرجع إلى الواقع في داخل حياته اليومية، فيجد أمامه أكثر من مشكلة حادّة، وأكثر من خلاف متحرّك في عمق ممارساته وعلاقاته.
وهناك الأطروحة الواقعية التي تؤكّد مواطن اللقاء، كما تؤكد مواطن الخلاف، ولكنَّها لا تضع مواطن الخلاف في الجانب الذاتي الشعوري للأمّة، بل تضعها في الجانب الفكري من نشاطها، وتوحي، في هذا الاتجاه، بأنَّ مثل هذه الخلافات ليست مقتصرة على الفئات الكبيرة من المسلمين فيما بينها، بل هي موجودة في داخل كلّ طائفة أو مذهب، وفي أكثر من جانب فقهي أو كلامي، ثمَّ تثير أمام المسلمين قواعد الحوار القرآني، الذي يريد للأمّة أن تناقش قضاياها في الداخل وفي الخارج، من موقع التفكير الموضوعي الهادئ، الهادف إلى معرفة الحقيقة من أقرب طريق، بالحجة والبرهان الواضح، وتقودهم إلى الأسلوب الأخلاقي في الصراع، الذي لا يستخدم كلمات السباب والشتائم في حركة الخلاف، بل يتحرّك من موقع الجدال بالتي هي أحسن، واختيار النكتة الأحسن والأسلوب الأحسن الذي يدفع بالأعداء إلى أن يتحوّلوا إلى أصدقاء، ويوحي لهم بالروحية التي يحملون فيها همّ المسلمين في أعماق مشاعرهم، ليتوجّهوا إلى الله أن يساعدهم على جمع الكلمة، ولـمّ الشعث، وحقن الدماء.
وقد عاش المسلمون تجارب الوحدة على أكثر من صعيد، سواء في التجارب الثقافية التي أكدت الآفاق الوحدوية في الثقافة الإسلامية، وعملت على إرجاع الخلافات إلى أسس فكرية تتصل بالمصادر الإسلامية، كالكتاب والسنة وأمثالهما، في أسلوب إيجابي يركز على الطابع الاجتهادي العلمي لهذا الخلاف، أو في التجارب الاجتماعية والسياسية، التي دعت إلى أكثر من أرض إسلامية واحدة في ما يعيشه المسلمون من قضايا اجتماعية وسياسية مشترك. على أنَّ هذه التجارب اصطدمت بأكثر من عقبة، بفعل ما واجهته من مشاكل الرواسب التاريخية، والعقد النفسية، والأوضاع الاستعمارية التي تثير السلبيات، وتعقّد الأوضاع، وتخلق الأزمات على أكثر من صعيد، وما تزال القضية تتفاعل لتضع في كلّ يوم عقبة جديدة ومشكلة جديدة.
* * *
والآن، ماذا عن الشيعة والوحدة؟!
إنَّنا نريد أن نناقش الموضوع من ناحيتين:
الناحية الأولى: نظرة الشيعة إلى الوحدة.
الناحية الثانية: نظرة المسلمين غير الشيعة إلى الوحدة مع الشيعة.
نظرة المسلمين الشيعة إلى الوحدة:
أمّا في الناحية الأولى، فإنَّ هناك اتجاهين في نظرة الشيعة إلى الوحدة:
الاتجاه الأول، يرى أنَّ مشروع الوحدة يعمل على تذويب الشيعة في المحيط الإسلامي العام، ويؤدي إلى فقدان الركائز الأساسية لفكرة التشيّع، وهي الإمامة، وما يتبعها من قضايا فكرية وشرعية، فيتحوّل الشيعة، بفعل ذلك، إلى سنّة، وبذلك، لن تكون عملية الوحدة إلا أسلوباً من أساليب احتواء فئة من المسلمين لفئة أخرى، لا عملية جمع للمسلمين على أساس الحقّ. ويضيف هؤلاء: إنَّنا قد نوافق على عملية التذويب والاندماج إذا كانت القضية هامشية طارئة، يمكن للإنسان أن يتجاوزها كما يتجاوز الكثير من القضايا الحياتية الطارئة، للمحافظة على المصلحة العامة، ولكنَّ القضية تمثّل، في وعينا الفكري، قضية التزامنا الإسلامي بخطّ الحقّ في العقيدة والتشريع، لأنَّ مسألة الإمامة ليست مسألة شخص أو أشخاص، أو موقف سياسي معين، بل هي مسألة القاعدة الشرعية التي انطلقت القناعة فيها من الدليل والبرهان، فلا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها، انطلاقاً من تسوية خاضعة لأوضاع معينة.
وهكذا كانت نظرة هذا الاتجاه إلى مسألة الوحدة، نظرة سلبية تحمل الكثير من الحذر والخوف والشك والارتياب.
الاتجاه الثاني، يرى أنَّ مسألة الوحدة ليست مسألة إدخال الشيعة في محيط السنّة أو العكس، بحيث تستهدف تذويب الشخصية الفكرية الخاصة التي يحملها كلّ واحد منهما، بطريقة عاطفية، بل هي مسألة روحية نفسية في البداية، كما هي مسألة فكرية علمية في النهاية، لأنَّ قاعدة التفكير الوحدوي، ترتكز على أساس الإيحاء للمسلمين بضرورة التمسك بالروحية الإسلامية التي ينبغي أن تطبع شخصيتهم فيما تمثّله الشهادتان من عقيدة والتزام وحركة في حياتهم العامة والخاصة، مهما اختلفت نظرتهم إلى التفاصيل، الأمر الذي يثير فيهم مشاعر الوحدة، ويحلِّق بهم في آفاقها، ويوحي لهم بمسؤولياتها، لتكون هذه الروحية سبيلاً من سُبل اللقاء الذي يساعد على التفاهم والتحاور والتعاون، فيمكن للشيعي أن يقنع السنّي بطريقته في فهم الإسلام وفي ممارسته، كما يمكن للسنّي أن يقنع الشيعي بطريقته وبممارسته، ويمكن لهما أن يكتشفا، من خلال اللقاء الفكري، سبيلاً آخر.
ويضيف أصحاب هذا الاتجاه قائلين: إنَّ النتائج الإيجابية التي يحصل عليها المسلمون الشيعة في مسألة الوحدة، لا تُقاس بالنتائج السلبية التي يعيشونها في مسألة الفرقة والخلاف الفكري والعملي، الذي يتحرّك من موقع العقدة الذاتية لا من موقع المصلحة العامة.
ويرون أنَّ حركة أيّ صاحب فكر تتعاطى مع المحيط العام بروحية منفتحة إيجابية، قد تستطيع أن تحقّق لفكرها الكثير من المواقع المتقدّمة، من خلال ما تملكه من حرية الجوّ، ومن طبيعة الانفتاح، ممّا لا تستطيع أن تحقّقه في إطار الحدود الفاصلة التي تفصل بين هذا الفريق أو ذاك، لأنَّ هذا الفصل يوحي لكلّ منهما بالحاجة إلى الاستعداد المسبق لتحصيل المناعة ضدّ إمكانات التأثّر بالفريق الآخر، وبالتالي لإيجاد حاجز نفسي ضدّ أيّ شيء يثيره الفريق الآخر، من أفكار وطروحات وحلول، ما يجعل من الحالة النفسية لكلّ منهما، هي كيف يمكن أن يسجّل نقطة ضدّ الأفكار التي يثيرها، لا كيف يناقشها وينظر في طبيعتها الفكرية من حيث الخطأ والصواب.
وينتهي أصحاب هذا الاتجاه إلى الفكرة التي تقول: إنَّنا، كشيعة، يمكننا إقناع المسلمين الآخرين بصحة أطروحتنا الفكرية في فهم الإسلام، فيما نعتقد أنَّه الحقّ، من خلال ما نملك من أدلة وبراهين، وذلك في نطاق الوحدة، أكثر مما نستطيع ذلك في ظلّ الوضع الطائفي الحاقد.
نظرة المسلمين غير الشيعة إلى الوحدة:
أمّا من الناحية الثانية، وهي نظرة المسلمين غير الشيعة إلى الوحدة مع الشيعة، فهناك ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول، ينظر إلى الشيعة، بأنَّهم خارجون عن الإسلام في ما ينسبه إليهم من عقائد بالغلوّ، والشرك، وتحريف القرآن، أو إيمانهم بقرآن آخر غير هذا القرآن، وما إلى ذلك من مفاهيم لا تلتقي مع الأسس العقيدية التي ركَّز الإسلام عليها فكره وشريعته، وبذلك، لا معنى لطرح قضية الوحدة معهم، التي يجب أن تطرح مع المسلمين، لا مع المنحرفين عن خطّ الإسلام، كما أنَّ إقحامهم في داخل المجتمع الإسلامي، يمثّل لوناً من ألوان الخطر على صفاء العقيدة الإسلامية، وعلى سلامة المجتمع الإسلامي، وذلك من خلال ما يثيرونه من شبهات وأضاليل ومؤامرات على الإسلام والمسلمين.
وهذا الاتجاه يتمثّل في الأغلب في الطريقة السلفية الوهابية، التي عملت على تعميق الهوّة بين السنّة والشيعة، بمختلف الأساليب الإعلاميّة والضغوط الماديّة والمعنويّة، وحاولت أن تستغل الإمكانات المادية والرسمية في تشويه صورة الشيعة لدى المسلمين وغير المسلمين، حتى رأينا القائمين عليها، يتسامحون مع الاتجاهات الكافرة بما لا يتسامحون فيه مع الشيعة، لأنَّهم يرون أنَّ الكفر المقنَّع الذي يمثّله الشيعة، أكثر خطورة من الكفـر الصريـح الذي يمثّلـه الكافرون الصريحون، كما انطلقوا ـ في سائـر أنحـاء العالـم ـ يعملون على عزل شباب المسلمين السنّة، بمن فيهم العاملون في خطّ الإسلام الحركي، عن شباب المسلمين الشيعة، لمنع أيّ تعاون فكري أو سياسي أو اجتماعي فيما بينهم، مهما بلغت التحديات العملية ضدّ الإسلام والمسلمين. وقد تداخلت لدى هؤلاء الخلفيات المذهبية بالخلفيات السياسية في ما يخافونه على مراكز نفوذهم في المجالات التي يملكون فيها أسباب السلطة والسلطان.
ولعلّ مشكلة هذا الاتجاه، أنَّ أصحابه يرفضون الحوار حول القضايا المختلفة التي يعتقدون انطلاق المذهب الشيعي منها، لتصحيح نظرتهم إلى طبيعة هذه القضايا، ولا سيما أنَّ كثيراً منها قد تكون النسبة فيه إلى الشيعة غير صحيحة.
الاتجاه الثاني، لا يرى في الشيعة هذا الرأي، بل يرى أنَّهم مسلمون في ما يرتكز عليه الإسلام من عقيدة وشريعة، وأنَّ الخلافات بينهم وبين السنّة، كالخلافات بين السنّة أنفسهم في بعض تفاصيل العقيدة والشريعة، فهم مسلمون مخطئون في بعض ما يعتقدون، فحالهم حال أيّ مسلم مخطئ في اجتهاده، فإنَّ الخطأ لا يخرجه عن إسلامه، بل يكون مسلماً خاطئاً مأجوراً.
ولكنَّ أصحاب هذا الرأي لا يرون مصلحة في الوحدة مع الشيعة، لأنَّ هذه الأفكار الخاطئة قد تنفذ من خلال مجتمع الوحدة إلى ذهنية المسلمين من أهل السنّة، فتسيء إلى الأفكار السليمة الصحيحة الصافية، كما أنَّ طبيعة الأوضاع الشيعية، في ما تمثّله من خلفيات سياسية معينة، قد تسيء إلى مستقبل الأمّة.
وربَّما يلتقي هذا الفريق مع فريق الاتجاه الأول في أساليب العمل ضدّ قضية الوحدة، ولكنَّهم يُمارسون أساليب المجاملة، في ما تقتضيه اللياقات الاجتماعية، أو المصالح السياسية، عندما يطرحون قضية الوحدة، تماماً كما يُمارسها الاتجاه الشيعي الذي يقف موقفاً سلبياً من الوحدة، عندما يطرح الوحدة كشعار في الحالات الطارئة، ولكن بحذر شديد، وبدون إخلاص أو إيمان بذلك.
ولعلّ الواقع الذي يعيشه جمهور المسلمين من أهل السنّة، يعيش عمق هذا الاتجاه، ولكن بدرجات متفاوتة.
الاتجاه الثالث، ينطلق في حركته من موقع الإيمان بوحدة المسلمين الواقعية، في ما يلتقي عليه المسلمون من عقائد ومفاهيم وشريعة، وبأنَّ الخلافات في ما يختلفون فيه، لا تضرّ هذه الوحدة، كما لـم تضرّ خلافات المذاهب بين بعضها البعض وحدتهم الإسلامية. وعلى هذا الأساس، رأى أصحاب هذا الاتجاه في الوحدة أمراً واقعياً في عمق الشخصيَّة الإسلاميَّة، يتطلَّب تحويله إلى خطوة عمليَّة في حركة الإسلام في الحياة، وحالة شعورية في داخل وجدان المسلم. وهم يعتبرون أنَّ دخول أيّ فريق في المجتمع الإسلامي، لا يمثّل خطراً على ما يعتقد الفريق الآخر أنَّه الحقّ، ما دامت القضايا المتنازع عليها تعيش في داخل الأجواء التي تثيرها القضايا المتفق عليها، وما دام المنطق الفكري القائم على الحجة والبرهان، هو الذي يحكم الحوار في الساحة، ما يجعل الموقف في مصلحة الفريق الذي يملك الحجة الأقوى، والمنطق الأفضل، وليست هناك أيّة مشكلة لأيّ فريق في ما يخسره من أفكار قد يثبت له أنَّها خاطئة من خلال الحوار، ما دامت الروحية الجديدة التي تحكم مساره، هي روحية الإسلام الصافي الصحيح، بعيداً عن أيّ إطار آخر.
ويتمثّل هذا الاتجاه في الحركات الإسلامية الواعية غير الخاضعة لعقلية الأنظمة المرتبطة بالاستعمار، وفي الشخصيات الفكرية المسلمة التي تعيش مسؤولية الإسلام من خلال الآفاق الرحبة الواسعة، لا من خلال الآفاق الضيّقة الخانقة.
وقد ساهم أصحاب هذا الاتجاه في خلق جوّ وحدوي عام، وفي صنع مجتمعات متنوعة هنا وهناك، تعيش روحية الوحدة بانفتاح وإيمان، وذلك من خلال اللقاء بالاتجاه الثاني الموجود في مجتمع المسلمين الشيعة، الذي يرى في الوحدة عنصراً إيجابياً في حركة الإسلام العامة. وقد انطلقت هذه الحركة الوحدوية بقوة مواكبة لحركة الثورة الإسلامية في إيران، التي طرحت شعار الوحدة الإسلامية كهدف كبير لا بُدَّ للمسلمين من أن يجتمعوا حوله، من أجل تحويله إلى حركة واقعية حيّة، وذلك باعتماد الأساليب المرنة الحكيمة التي تعمل على الوصول إلى الهدف بالطريقة المرحلية المرتكزة على التخطيط الدقيق في حركة المراحل نحو الهدف.
ولا يزال الصراع حول الوحدة قائماً بين أصحاب هذه الاتجاهات المختلفة في نطاق الشيعة والسنّة، وما تزال الساحة تمتلئ في كلّ يوم بالجديد من النتائج السلبية والإيجابية في هذا الخطّ أو ذاك، مما يعتبره كلّ اتجاه منها دليلاً له أو عليه، وما يزال المستقبل الإسلامي ينتظر النتائج النهائية لهذا الصراع، ليلتقي بالوحدة الإسلامية كنتيجة إيجابية للوعي الإسلامي الجديد.