الزهراء سيدة نساء العالمين حاملة إرث النبوة في العبادة ، العلم ، الجهاد و البلاغة
وبالرغم من وجود نساء أخريات في بيت الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنها نالت مرتبة سامية وعالية عند الله سبحانه وتعالى وفي المجتمع الإسلامي، وذلك بفضل اصطفائها من عند الله وإخلاصها وزهدها وعبادتها وإنفاقها وجهادها وصبرها وتحملها في سبيل الله...
فأدت (عليها السلام) الدور الملقى على عاتقها بأحسن وجه، فاستحقت أن تكون سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
عندما توفيت السيدة خديجة (عليها السلام) وقد خلفت للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أغلى وأثمن ذكرى مقدسة، وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام). وقد أصبحت الزهراء (عليها السلام) قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها. وقد قامت منه مقام البنت والأم فهي تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بافتقاد أمها خديجة (عليها السلام)، وهي تسعى أن تكون لرسالته كما كانت أمها من قبل، فلم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه مهما كانت المشاكل مهمة ومهما كانت الآلام هائلة. لم تضعف ولم تهن ولم تتردد أو تتراجع.
وقد جاء في رواية عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلى، جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي (صلى الله عليه وآله) وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهره، والنبي ساجد لا يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة (عليها السلام) فجاءت وطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تؤنبهم على ذلك.
هذه إحدى الروايات التي تدل على منزلة الصديقة في قلب أبيها ومحلها من دعوته ورسالته وكأنها قد شعرت مع حداثة سنها بأنها مسؤولة عن أن تكون المحور الأساسي في حياة الله رسول (صلى الله عليه وآله) حيث واكبت سيره بكل شجاعة وإقدام.
لقد انصهرت الزهراء صلوات الله عليها بأفكار الإسلام روحياً وفكرياً فقد كانت، وهي بنت أعظم رجل عرفه التاريخ وريحانته الغالية والتي كان النبي يدعوها بأم أبيها ويقول: فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني ومن أغضبها فقد أغضبني وكان يقول حينما يقبلها إني أشم منها رائحة الجنة، وهي الحوراء الإنسية، كانت عنده بمنزلة ما فوقها منزلة، فكانت آخر من يراه عند سفره وأول من يلقاه عند رجوعه من السفر. وكانت هي من انحصر فيها نسله صلوات الله عليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يجهل ذلك.
كانت هي هكذا وكانت أكثر من هذا ولكنها ومع كل هذه المميزات الروحية والمعنوية كانت بسيطة في إسلوب حياتها لا تكاد تختلف عن أي امرأة فقيرة، فبيتها متواضع للغاية لا يحوي إلا النزر القليل من الأثاث الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
فهي مثال المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنيوية والصاعدة بروحها وروحياتها إلى أفق الكمال وسماء العصمة والفضيلة. فإن النفس البشرية إذا استنارت بنور الإسلام وإذا نفذت إلى مكنوناتها تعاليمه وحكمه استغنت بمعنوياتها عن كل ما تحتاج إليه النفوس الضعيفة من مقومات لشخصيتها.
نعم هكذا كانت فاطمة الزهراء وهي ريحانة النبوة وزهرة الهاشميين فتاة ترعرعت في أحضان الأبوة الرحيمة، وهكذا كانت وهي عروس تزف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فاطمة الزهراء عليها السلام هي بحق القدوة الكاملة التي يجب أن يستلهم من سلوكها وحياتها كل الناس رجالاً ونساء، لأنها جسدت في فترة عمرها القصير أعلى نماذج التضحية والعطاء والزهد والعبادة والصبر والعرفان.. فاستحقت بسبب ذلك كل الألقاب التي لقبت بها والتي لم تكن ألقاباً عابرة، بل ألقاباً أطلقت عليها بعدما حملت مضمونها خلال مسيرة حياتها منها . فاستحقت أن تكون سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
وعند ما كانت الزهراء (عليها السلام) في بداية تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة صغيرة السن ولما تكمل عامها الثامن، إلا انها كانت عارفة واعية بالعلم الرباني اللدني وبالعصمة الإلهية التامة، بحيث أنها أدت دوراً مهماً في نشوء المجتمع الإسلامي الجديد، وامتازت بإخلاصها الشديد وتفاعلها مع الأحداث واستيعابها للرسالة السماوية..
المتتبع لسيرة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يجد انها مدرسة متكاملة في مختلف أبعاد الحياة .. فينبغي أن تكون قدوة لجميع النساء بل وحتى الرجال ..
فهي التي وقفت مع أبيها في تبليغ الدعوة الإسلامية، وتحملت أذى مشركي قريش مع الثلة القليلة من المؤمنين في شعب أبي طالب، وتحملت صعوبة الهجرة من مكة إلى المدينة. ووقفت أيضا بجانب أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي أرسى دعائم الإسلام.. فكانت المجاهدة والمهاجرة.
وتحملت أيضاً الآلام وقساوة الظروف الصعبة جرّاء طلاقها للدنيا واختيارها الآخرة، كما تزوجت بأمير المؤمنين علي(عليه السلام) لتشارك في إسناد الرسالة والإمامة معاً وإرساء قواعد المجتمع الإسلامي ونشر الدعوة الإلهية بجانب أبيها وبعلها الذي نذر نفسه لله تعالى. وهذا خير مثال يقتدين به النساء المسلمات.
ما انها (عليها السلام) تقاسمت مع الإمام علي (عليه السلام) أعمال الحياة الزوجية فكانت مسؤولية داخل البيت عليها وخارجه عليه (عليه السلام) ..
فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن فاطمة (عليها السلام) ضمنت لعلي (عليه السلام) عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها علي(عليه السلام) ما كان خلف الباب: من نقل الحطب وأن يجيء بالطعام، فقال لها يوماً: يا فاطمة هل عندك شيء؟
قالت: لا والذي عظم حقك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به.
قال: أفلا أخبرتني؟
قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهاني أن أسألك شيئاً، فقال: لاتسألي ابن عمك شيئاً. إن جاءك بشيء عفو، وإلا فلا تسأليه.
قال: فخرج الإمام (عليه السلام) فلقي رجلاً فاستقرض منه ديناراً ثُمَّ أقبل به وقد أمسى، فلقى المقداد بن الأسود.
فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه الساعة؟
قال:الجوع والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين.
قال (الراوي): قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ورسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الله حي؟
قال (عليه السلام): ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ.
قال الإمام علي (عليه السلام) للمقداد: فهو أخرجني وقد استقرضت ديناراً وسأوثرك به، فدفعه إليه، فأقبل فوجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً وفاطمة (عليها السلام) تصلي وبينهما شيء مغطى، فلما فرغت، احضرت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم.
قال (عليه السلام): يا فاطمة، أنى لك هذا؟
قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أحدثك بمثلك ومثلها؟
قال: بلى.
قال: مثلك مثل زكريا إذا دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنى لك هذا، قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فأكلوا منها شهراً وهي الجفنة التي يأكل منها القائم (عليه السلام) وهي عندنا .
من الصفات النقية الأخرى التي تحلت بها الزهراء (عليها السلام)، ـ والتي يجب أن تكون درساً لأي مجتمع وأمة تريد الانطلاق إلى الأمام،ـ هي الزهد والكرم والإيثار والصبر ونحوها من مظاهر الخلق السامي الرفيع.
وقصة الاطعام التي وردت في القرآن الحكيم في سورة الدهر أفضل دليل على ذلك، حيث أنفقوا (عليهم السلام) طعامهم الوحيد المؤلف من بضعة أرغفة لا غير، إلى ثلاثة محتاجين في ثلاثة أيام متوالية بقوا فيها طاوين جائعين في سبيل الله، وذلك بعد أن نذروا أن يصوموا لله إذا برأ الحسنان (عليهما السلام) من مرض ألمّ بهما، فلما جلسوا عند الافطار ليتناولوا طعامهم، وإذا بالباب تقرع، وكان ثمة مسكين وراء الباب، فقاموا جميعاً بإعطاء أرغفتهم للمسكين وباتوا جياعاً، وهكذا فعلوا في اليوم الثاني مع اليتيم، وفي اليوم الثالث تكررت الحادثة مع الأسير، فأنزل الله تعالى سورة كاملة بحقهم وهي سورة (الدهر) ومنها هذه الآية: ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
وهذه القصة روتها العامة أيضاً.
وأيضاً كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي العابدة لله تعالى بإخلاص وإيمان عالٍ؛ إذ كان قلبها ينبوعاً متفجراً بمعرفة الله والارتباط به سبحانه وتعالى.
قال الإمام الحسن (عليه السلام): (رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء..
فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟
فقالت: يا بني، الجار ثم الدار).
و من الصفات الأُخرى التي تحلت بها سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ، ويجب على المسلمين رجالاً ونساءاً أن يقتدوا بها اكثر فأكثر هو العلم..
إذ كانت الزهراء (عليها السلام) عالمة بما لــلكلمة من معنى، فإنها كانت تتلقى العلم من مدينة علم الرسالة وهو النبي (صلى الله عـــليه وآله وسلم) ومن بابها وهو علي (عليه السلام)..
فهي العارفة بالله وبحقائق الكون وفلسفة الحياة، كما أن قربها من المسجد النبوي كان يتيح لها أن تتابع أحكام الله وتلاوة آياته المباركة.. هذا إلى جوار ما كان لها من العلم اللدني.
فمقاماتها السامية وعلومها الزخارة أهلتّها لأن تقوم بدور التربية والتعليم والتوجيه لنساء العالم في كل عصر ومصر، وخاصة نساء عصرها اللاتي كنّ يجتمعن حولها ويتلقين منها علوم الإسلام ويسألنها عن كل شيء.
وقد كانت الزهراء (عليها السلام) المعلمة والمربية حتى للرجال من خلال النساء.
و فی الختام خطبة فاطمة الزهراء عليها السلام في التوحيد و النبوة هي في قمة البلاغة و الفصاحة:
الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإِْدْراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَى الْخَلايِقِ بِإجْزالِها، وَثَنّى بِالنَّدْبِ إلى أمْثالِها.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِْخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها. الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإَْبْصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ. اِبْتَدَعَ الأَشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها إلاّ تَثْبيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وإِعزازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ على طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ، ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ.
وَأَشْهَدُ أنّ أبي مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمّاهُ قَبْلَ أنِ اجْتَبَلَهُ، وَاصْطِفاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ، إذِ الْخَلائِقُ بالغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأَْهاويل مَصُونَةٌ، وَبِنِهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعالى بِمآيِلِ الأُمُور، وَإحاطَةً بِحَوادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ الْمَقْدُورِ. ابْتَعَثَهُ اللهُ تعالى إتْماماً لأمْرِهِ، وَعَزيمَةً على إمْضاءِ حُكْمِهِ، وَإنْفاذاً لِمَقادِير حَتْمِهِ.
فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها. فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ.
ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إليْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاختِيارٍ، ورَغْبَةٍ وَإيثارٍ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله عَنْ تَعَبِ هذِهِ الدّارِ في راحةٍ، قَدْ حُفَّ بالمَلائِكَةِ الأبْرارِ، وَرِضْوانِ الرَّبَّ الغَفارِ، ومُجاوَرَةِ المَلِكِ الجَبّارِ. صلى الله على أبي نبيَّهِ وأَمينِهِ عَلى الوَحْيِ، وَصَفِيِّهِ وَخِيَرَتِهِ مِنَ الخَلْقِ وَرَضِيِّهِ، والسَّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.
السلام عليك يا سيدة نساء العالمين، السلام عليك يا والدة الحجج على الناس أجمعين، السلام عليك أيتها المظلومة، الممنوعة حقّها.
اللهم صل على أمتك وابنة نبيك، وزوجة وصي نبيك، صلاة تزلفها فوق زلفى عبادك المكرمين من أهل السماوات وأهل الأرضين.
اعداد وتدوين
علي اكبر بامشاد