وكانت مدرسة الامام الصادق (ع) منفتحة على كل الاتجاهات الإسلامية، فكان يستقبل الناس الذين يتفقون معه في رأيه والذين يختلفون معه، حتى أن مدرسته كانت تنفتح على الملاحدة والزنادقة، ومما يروى، أنه كان يستقبل في البيت الحرام المتفلسفين ممن لا يؤمنون بدين، والناس مشغولون بالطواف والصلاة، والإمام الصادق(ع) مشغولٌ بمناظرة هؤلاء ومناقشتهم ليهديهم إلى الصراط المستقيم، لأنه كان الإمام المحاور الذي يحاور كل الناس، وكان يرى أنه لا مقدّسات في الحوار، فكان يستمع إلى الذين ينكرون وجود الله والذين يسجّلون ملاحظات على العبادات كالطواف بالبيت وما إلى ذلك، وكان لا يطرد أحداً لكفره ولا يبعد أحداً لزندقته، بل كان يرى أن من واجب الإمام وكل ذي علم أن يجلس مع الناس كلهم بصدر رحب، وأسلوب طيب، ليدفع بالتي هي أحسن، وليجادل بالتي هي أحسن، حتى إن بعض هؤلاء، وهو "ابن المقفع"، كان يقول: "لا أرى أحداً يستحقُّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد الصادق"، لأنه يحمل في شخصيته كل عناصر الإنسانية في العلم والروح والأخلاق وقبول الآخر والرحابة العقلية والفكرية، وكان بعضهم، وهو "ابن أبي العوجاء"، يقول: "ما أقول في رجل يتروّح إذا شاء ويتجسّد إذا شاء مثل جعفر بن محمد"، بمعنى أنك تشعر إذا نظرت إليه أنه روح تحلّق أمامك.
وكان الفقهاء وأئمة المذاهب الأخرى يتوجهون لزيارته واللقاء به وأخذ العلم عنه.
فقد كان سفيان الثوري يقول: "حدّثني جعفر بن محمد" و سمعت جعفراً يقول. وكان يقول له: "لا أقوم حتى تحدثني" ،وورد في كتاب حلية الاولياء عن عمرو بن المقدام بن معد يكرب انه قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.
وبهذه الأخلاق الفاضلة المؤمنة بالحوار كأساس لبناء الصرح الاسلامي تمكن الامام جعفر الصادق عليه السلام، من تربية آلاف العلماء وما بقي إرثاً للمسلمين من خلفه كله من آثار ذلك الايمان بالحوار والتسامح الذي إتصف بهما وعلَّمها لتلاميذه وأصحابه، وأوصى المسلمين بالالتزام بمبدأ الحوار البناء لا الحوار الهدام لوحدة المسلمين بزرع التفرقة بينهم.
وكان الامام ابو حنيفة يقول: ((لولا السنتان لهلك النعمان))، ويرى الشيخ محمد أبو زهرة انّ هاتين السنتين كانتا عندما خرج أبو حنيفة من العراق مهاجراً للمدينة، فانه أقام ببلاد الحجاز، ولعلّه قد لازم الإمام الصادق في هذه المدّة.
وكان يشجع طلاب العلم للحضور في حلقة مالك بن أنس الدراسية وأخذ العلم منه لإزالة الحواجز والفواصل بين المسلمين عموماً وطلاب العلم خصوصاً، وهذا ما يساهم مساهمة فعالة في تعميق أواصر الإخاء والمودة، وفي تقريب وجهات النظر لاتخاذ المواقف الواحدة تجاه الاحداث والوقائع، ومن الامثلة على ذلك انّه قال لعنوان البصري ((أن يجلس إلى مالك).
ومن اجل انهاء الاضطراب الفكري والبلبلة العقائدية وقف الإمام الصادق (ع) موقفاً حازماً تجاه الغلاة فحاربهم ولعنهم.
من اشهر تلاميذه "يحيي القطان" و"يزيدبن عبدالله المدني" في علم الحديث.
فأما في الفقه فقد كان من اشهر تلاميذه الامام "ابوحنيفة النعمان بن ثابت" .
وايضا الامام "مالك بن انس" والامام "سفيان الثوري" و"شعبة بن الحجاج" و"سفيان ابن عيينة" وكبار العلماء والمحدثين بذلك كان انتشار فكره ومدرسته الفقهية انتشارا واسعا والمجامع الفقهية في هذا العصر اعتمدت القبول والعمل في كل المذاهب الفقهية الثمانية والتي منها فقة الامام جعفر الصادق (ع).
ويقول ابو حنيفة نعمان "لو لا السنتان لهلك النعمان" سئل ما معنى "لو لا السنتان" قال لولا كنت تلميذا عند الامام الصادق(ع) لما وصلت في العلم والمعرفة الى ما وصلت اليه فالامام جعفر الصادق(ع) اعطى هذا العلم الغزير لتلاميذه واتباعه فكانوا سببا في نقل هذا العلم جيلا بعد جيل حتى وصل الى عصرنا الحاضر فنسأل الله ان يجعلنا خير خلف لخير سلف.
من الاسباب الرئيسية لاستفادة العلماء والفقهاء من الامام (ع) هو هذا النور الرباني الذي ظهر في حكمته وفي فهمه للنصوص الشرعية وايضا للاجتهادات الفقهية التي تلامس واقع الحياة وتجعل الاسلام حيا في القلوب وليس جامدا في النصوص لذلك انبثق من علم وفقه الامام جعفر الصادق(ع) هذه العلوم والمعارف التي استفاد منها كل المسلمين على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم وتوجهاتهم.
لا شك ان التعريف بالعظام وبالائمة الكبار عبر قراءة منهجهم وتعريف سير حياتهم يعطي دافعا قويا للمعاصرين حيث يجدون القدوة الحسنة والاسوة الحسنة المطلوبة لأن الانسان لايمكن ان يعيش بلا قدوة ولقد ذكر لنا القرآن ان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو اسوة وقدوة كبرى ولكن هذا النبي الكريم(ص) ايضا ربّى أجيالا واوصى بالاولياء ليكونوا في كل زمان هم القدوة والاسوة الذين يقروؤن سيرتهم ويربون ابنائهم على خصال اولئك الكبار والعظام لكي تبقى سلسلة النور والخير عبر الاجيال لاتنقطع من ارادها محسوسة فيراها ومن ارادها معنوية فيتبعها ويعمل بها.
وقد استطاع الإمام الصادق(ع) أن يغني الثقافة الإسلامية في مرحلته إغناء كبيراً جداً، ونحن نعرف أن مجلسه كان يرتاده كبار فقهاء المسلمين ومنهم "أبو حنيفة"، صاحب المذهب الحنفي الذي قيل له: من أعلم الناس؟ قال: جعفر بن محمد، فسئل: لماذا؟ قال ـ ما مضمونه ـ: لأن المنصور دعاني وقال لي: إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فحضّر له مسائل معقّدة من مسائلك وألقها عليه، فلعله لا يستطيع أن يجيب عليها فينزل قدره عند الناس، فحضّرت له أربعين مسألة، وعندما التقيته عند المنصور ألقيتها عليه، فكان يقول: إنكم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، حتى أتى على الأربعين مسألة.
ثم قال: ألستم تقولون إن أفقه الناس أعرف الناس بأقوال الناس.. وهذا ما يدلنا على أن الإمام الصادق(ع) كان مطلعاً عل كل الآراء الموجودة في الواقع الإسلامي، ما يدل على رحابة علمه وسعته، لأن الإنسان الأكثر علماً وثقافة هو الأكثر إحاطة بالعلوم والآراء التي تتحرك فيها الأمة في اجتهاداتها.
وكان "مالك بن أنس" إمام المذهب المالكي يجلس إلى الإمام الصادق(ع)، وكان يقول إنه أفضل الناس، وهكذا لو قرأنا الشهادات التي صدرت عن سائر الكتّاب والمؤرخين والمفسّرين والعلماء في مدى التاريخ، لرأينا أن الإمام الصادق(ع) يتمتع بقداسة وثقة علمية عند الذين يلتزمون إمامته وعند الذين لا يلتزمونها.
الإمام الصادق (ع ) علمنا أن نكون على شاكلته، ننفتح بكل تسامح على كل ما لدى المذاهب الأخرى من غنى وتنوع، لنؤكد حسن إيماننا، وأخلاقنا وعمق ارتباطنا بالله تعالى، حيث أراد لنا أن نكون المتحضرين المتواصلين المتسامحين، لا نلجأ إلى كهوف وحشيتنا وعصبياتنا وجهلنا وذاتياتنا، ويقذف بعضنا البعض بالكفر والضلال.
وقد استقطب الامام الصادق ونهجه في المنافحة عن حوزة الدين والعقيدة في الاغلب اهتمام العلماء واعجابهم كما وساعدهم على تصحيح افكارهم، وتعديل آرائهم والعودة الى جادة الحق والصواب عن رضى وقناعة.
فكان الامام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) بحق حارسا أمينا لشريعة جدّه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، بل والمجدّد دينه، والمحيي لتعاليمه، والمبقي على آثاره وهو الأمر الذي اعترف به الكثير الكثير ولم يصل الينا الا القليل القليل.
و قد رثى سماحة السيّد محسن الأمين(قدس سره) الامام الصادق (عليه السلام):
تبكي العيون بدمعها المتورِّد ***** حزناً لثاوٍ في بقيع الغرقد
تبكي العيون دماً لفقد مبرّزٍ ***** من آل أحمد مثله لم يُـفقد
أيُّ النواظر لا تفيضُ دموعُها ***** حزنا لمأتم جعفر بن محمّد
الصادق الصدِّق بحر العلم مصـ ***** باح الهدى والعالم المتهجّد
رزءٌ له أركان دين محمّدٍ ***** هدّت وناب الحزن قلب محمّد
رزءٌ له تبكي شريعةُ أحمدٍ ***** وتنوح معولةً بقلب مكمد
رزءٌ بقلب الدين أثبت سهمه ***** ورمى حُشاشة قلب كلِّ موحِّد
ماذا جنت آل الطليق وما الذي ***** جرّت على الإسلام من صنعٍ ردي
كم أنزلت مرّ البلاء بجعفر ***** نجم الهدى مأمون شرعة أحمد
كم شرّدته عن مدينة جدِّه ***** ظلماً تـجشِّمُه السرى في فدفد
كم رأى المنصور منه عجائباً ***** ورأى الهدى لكنّه لم يهتدِ
لم يحفظوا المختار في أولاده ***** وسواهم من أحمد لم يُولَد
لم يكف ما صنعت بهم أعداؤهم ***** زمن الحياة وما اعتداه المعتدي
حتّى غدت بعد الممات خوارج ***** في الظلم بالماضين منهم تقتدي
هدّمت ضرائح فوقهم قد شيّدت ***** معقودة من فوق أشرف مرقد
اعداد و تدوين
علي اكبر بامشاد