تتميز مدينة حلب "الشهباء" بتاريخ موغل بالقدم و مكانة هامة على أهم الطرق التجارية و العسكرية بين بلاد الشام و أسيا الصغرى، أي انها بوابة الشمال السوري و بلاد الشام نحو أوروبا. لقد شهد تاريخ المدينة الواقعة على نهر قويق العديد من التبدلات و الكوارث و الغزوات، كما لعبت المدينة دورا مفتاحيا في الحياة العسكرية لقوى عظمى تنافست على السيطرة على بلاد الشام منذ ايام الأكديين و الأشوريين و الفرس الأخمينيين حتى ايام الأسكندر المقدوني و خليفته على سورية سيلوقس نيكاتور، إلى الفترة الرومانية فالبيزنطية و الإسلامية
عندما يذكر أسم حلب، يخطر في بالنا فوراَ قلعتها الشهيرة و أسواقها و خاناتها التجارية و حماماتها القديمة. ولا شك أن القلعة التي تتوسط المدينة تشكل العلامة المميزة لهذه المدينة القديمة و الحديثة بنفس الوقت.
تاريخ القلعة:
من غير المبالغ فيه أن قلنا أن تاريخ القلعة هو التاريخ العام للمدينة نفسها، حيث تقوم البعثة الأثرية السورية و الألمانية من معهد الآثار الألماني بدمشق بسبر الطبقات التاريخية للقلعة حيث وجدت آثار تعود للألف الأول قبل الميلاد وهي آثار معبد إله المطر الأرامي "حدد"، و قد وجد المنقبون كتل حجرية بازلتية و كلسية نقش عليها إله المطر حدد و هو راكباً على ثور و يحمل بيده رمحاً ذو ثلاثة رؤوس كما وجدوا أيضا مشاهد أخرى تعطي فكرة عن عبادة الخصب التي كانت منتشرة في سورية
. لعب التل الأثري الذي تتوضع عليه القلعة اليوم دورا محوريا في توسع السكن في المنطقة، فتشير المصادر التاريخية على أن هذا التل كان مركز الإستيطان الأول للمدينة فأسم المدينة (حلب = HLP ) الوارد في أرشيف إيبلا (۲۵۰۰ ق.م) ، يعني "التلة" أو "الهضبة" كما يشير إلى ذلك ألفونسو أركي قارئ نصوص إيبلا من البعثة الإيطالية العاملة هناك.
في الفترة الكلاسيكية أصبح التل هو الأكروبولس للمدينة التي أمتدت بمخططها الكلاسيكي المعروف كالذي في "أفاميا" مثلا، إلى الجنوب الغربي للمدينة، حيث توجد الآن المدينة القديمة و الجامع الكبير "الأموي". سميت المدينة آنذاك بأسم "بيرويا" و كان شارع الأعمدة يمتد من الشرق إلى الغرب "مكان السوق الرئيسي اليوم "سوق الزرب" و كانت أسواق "بيرويا" أي "الأغورا" مكان الجامع الكبير اليوم.
تبدل شكل السكن على التلة الأثرية في الفترة البيزنطية و الأموية التالية حتى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي. في هذا القرن أرسيت أولى دعائم القلعة الإسلامية الحالية في زمن حكم السلاجقة عماد الدين و إبنه نور الدين الزنكي، حيث بنيت الدور السكنية و الحمامات و الجامع الصغير و جزء من القصر و المدخل.
تلا الفترة الزنكية في تاريخ حلب و سوريا عموما، الفترة الأيوبية، حيث قام الظاهر غازي، إبن صلاح الدين، بإتمام بناء مدخل القلعة و بواباتها و القصر و الجامع الكبير و حفر الخندق حول القلعة. مع بداية القرن الثالث عشر و وفاة صلاح الدين الأيوبي في العام ۱۱۹۲ في "قلعة دمشق"، ضعفت الدولة الأيوبية و إنتقلت السيادة على مصر و بلاد الشام للماليك الذين قاموا بعملية تدعيم للقلعة و مدخلها و قصرها و بنوا قاعة العرش فوق مدخل القلعة. بذلك يصبح لمدخل القلعة ثلاثة مستويات دفاعية و على أطراف القلعة يتم في القرن الرابع عشر بناء برجين دفاعيين متقدمين لحماية السفح المائل للقلعة، الذي دعّم أيضاً بالحجارة الملساء.
تعرضت القلعة و المدينة لعدد من الزلازل و حصارات عسكرية متعددة، كان أكبرها في العام ۱۲۵۸/۱۲۵۹ حيث هاجمها المغول و دمروا المدينة و لاحقوا سكانها، الذين لجؤا للقلعة ولم يتمكنوا من السيطرة عليها إلا بحيلة خبيثة، أستطاعوا أن يسيطروا فيها على الجسر الخشبي المعلق و أن يقتحموها و يقتلوا ساكنيها.
أرسل محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، أثناء حكمه لمصر إبنه إبراهيم باشا في حملة إلى سورية فأقام في قلعة المدينة و أمر ببناء "الثكنة العسكرية" التي هي اليوم تضم إدارة القلعة و المتحف التاريخي للقلعة. في الفترة اللاحقة، أي العثمانية و الفرنسية، كانت القلعة مركزاً لحامية عسكرية و مستودعاً و سجناً. أصبحت القلعة بعد نيل الإستقلال تحت رعاية و إشراف وزارة الثقافة السورية التي باشرت بعمليات الترميم و البحث الأثري فيها.
إلى جانب ذلك قامت مؤسسة الأغاخان الإسلامية الدولية بعمليات ترميم ضخمة شملت كافة أجزاء القلعة و تم ترحيل الأتربة عن العديد من مناطق الدور السكنية و التجارية في القلعة بالإضافة إلى ترميم الحمام و غيرها. أما قاعة العرش فقد رممت على نفقة رجل الأعمال السوري عثمان العائدي، مالك شركة الشام للفنادق في سورية و أصبحت قاعة العرش مكانا مهما لعقد لقاءات و ندوات و إحتفالات ثقافية و فنية و علمية كثيرة.
وصف القلعة
يرتفع التل الأثري، الذي تقع عليه القلعة حوالي ۵۵ مترا عن المكان المجاور له و هو عبارة عن تل طبيعي في نصفه السفلي و ردمي تاريخي في نصفه الآخر. تعتبر القلعة من أهم القلاع الإسلامية التي تعود للعصور الوسطى ومن أكبرها أيضاً. يمتد التل حوالي ۲۷۵ * ۳۷۵ م و تبلغ درجة ميلان سفحه حوالي ۴۸ درجة.
يشاهد الزائر اليوم البوابة و المدخل الضخمين للقلعة و كذلك الدرج الحجري الطويل، الذي حل محل الجسر الخشبي-الحديدي القديم.
يوجد برج دفاعي أولي قبل الوصول للبوابة الرئيسية للقلعة، حيث كان مكان للحامية التي تقوم بحراسة الجسر و السفح و البوابة الرئيسية التي تقع في الجهة الجنوبية الغربية للقلعة. يشاهد الزائر البوابة الرئيسية على شكل مربع مفتوح يقع فيه الباب الرئيسي على الجانب اليميني و ليس في المنتصف وذلك لزيادة حماية البوابة. بذلك لا يمكن للمهاجمين من دك البوابة بجزع خشبي كبير لكون المكان لا يفسح لهم المجال للحركة بسرعة و دك البوابة الخشبية – الحديدية. عند النظر إلى الأعلى يشاهد الزائر فوق البوابة الرئيسية قوس مزخرف بمشهد لحيتان لهما رؤوس تنين و هما يلتفان حول بعضهما البعض، لذلك سميت البوابة بـ"باب الحيات".
المصدر: موقع "سيرياستيبس" الالکترونی السوری، عابد عيسى