تاريخ النشر2015 16 November ساعة 11:06
رقم : 211940

الفساد المستشري في المؤسسات العالمية… من يتصدى له؟

تنا
الفساد ظاهرة تزداد انتشارا، وتعبر الحدود لتكون واحدة من اخطر امراض المجتمع الحديث الذي يفترض انه قطع شوطا كبيرا في مضمار «الحضارة» و«الرقي» و«التمدن». هذه الطبقة الثرية لا تنحصر قوتها في املاكها الشاسعة بل تتمدد لتكون هي الاقدر على صياغة القوانين وانشاء المؤسسات التي تحمي نفوذها. فتستطيع الانفاق على حملات الدعاية الانتخابية لتوصل حماة مصالحها إلى مؤسسات الدولة التشريعية اولا ثم التنفيذية.
سعيد شهابي
سعيد شهابي

 د. سعيد الشهابي

ذكرت وسائل الإعلام البريطانية الاسبوع الماضي ان رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، مارغريت ثاتشر، قضت سنواتها الاخيرة التي اعقبت تركها رئاسة الوزراء بمنزل يملكه تجار لهم علاقة بشركة «بريتيش ايروسبيس». تقول هذه التقارير ان هذه الشركة دفعت رشاوى سرية (عمولات) لوسطاء ساهموا في تسهيل صفقة اسلحة مع جنوب افريقيا بلغت قيمتها اكثر من مليار ونصف جنيه استرليني، وان هذه الصفقة تمت عندما كانت رئيسة للوزراء.

وتضيف التقارير ان صفقة اليمامة مع السعودية التي بلغت قيمتها اكثر من 42 مليار جنيه استرليني تمت في عهدها ايضا. وتضمنت الصفقة تزويد المملكة بطائرات «تورنادو» وتدريب الطيارين والفنيين وخدمة الطائرات على مدى عشرين عاما انتهت في العام 2005.

التقارير تشير ايضا إلى ان تلك الصفقة تضمنت عمولات دفعتها «بريتيش ايروسبيس» بلغت قرابة مليارين ونصف دولار. ايحاءات الانباء حول المنزل الذي قضت فيه السيدة تاتشر سنواتها بعد مغادرة داوننغ ستريت انها استفادت من العمولات التي دفعت للوسطاء، وان ذلك يمثل احد اشكال «الفساد» المالي المنتشر في الأوساط الحكومية في الكثير من البلدان. وما اكثر قصص هذا الفساد في كافة انحاء العالم، وما اضعف الجهود المبذولة لمكافحته.

فقد يتبادر للذهن ان الفساد ينحصر بالرشاوى والعمولات او النهب المباشر من اموال الدولة. اما الحقيقة فان كافة الممارسات التي تؤدي للكسب غير المشروع، باية صورة، يمكن تصنيفها ضمن الفساد. فحين تتقلص دائرة الاغنياء الذين يملكون كل شيء وتتوسع دائرة الفقراء الذين لا يملكون شيئا (حتى منازلهم) فان ذلك احد اشكال الفساد. وحين توغل الشركات العملاقة المتعددة الجنسية في برامجها الدعائية لتسوق منتجاتها باغلى الاثمان، وتضطر العائلات الفقيرة، تحت ضغط الدعاية ووسائل التسويق المعقدة، لاقتناء تلك المنتجات فتتراكم ديونها للبنوك او شركات بطاقات الائتمان، أليس ذلك فسادا؟ حين تسلب ارادة الانسان فيجد نفسه مضطرا للانفاق فوق طاقته، يصل الحال إلى الوضع الحالي الذي تجد غالبية
السكان نفسها فيه مرتهنة بالديون للمصارف والشركات العملاقة التي تملك هذه العمارات الضخمة في عواصم العالم، بينما لا يجد الانسان العادي قدرة على امتلاك منزل لعائلته، بالاضافة لارتهانه للجهات الدائنة.

الفساد ظاهرة تزداد انتشارا، وتعبر الحدود لتكون واحدة من اخطر امراض المجتمع الحديث الذي يفترض انه قطع شوطا كبيرا في مضمار «الحضارة» و«الرقي» و«التمدن». هذه الطبقة الثرية لا تنحصر قوتها في املاكها الشاسعة بل تتمدد لتكون هي الاقدر على صياغة القوانين وانشاء المؤسسات التي تحمي نفوذها. فتستطيع الانفاق على حملات الدعاية الانتخابية لتوصل حماة مصالحها إلى مؤسسات الدولة التشريعية اولا ثم التنفيذية. وفي العالم الرأسمالي تستطيع هذه النخب الالتحاق باغلى الجامعات والمعاهد الدراسية فتتأهل للوصول إلى المناصب العليا، السياسية والاقتصادية. فمن الذي يدير المصارف؟ ومن الذي يحرك الشركات العملاقة؟ ومن الذي يمتلك هذه العمارات الضخمة في اغلى المناطق؟ الامر المؤكد ان الفساد المعاصر مدعوم من المؤسسات الحاكمة باساليب ملتوية، فلا تصل سلطة القانون لمن يمارسونه إلا إذا كان الفساد فاقعا. يوم الجمعة الماضية نشرت صحيفة «التايمز» البريطانية كارتونا يظهر رئيس الوزراء السابق، توني بلير، جالسا على مقعد مريح وهو يبحث عن مكان لقضاء اجازة العام المقبل، وزوجته تقول له: «لا تقلق فان لاهاي تكون ممتازة في شهر تموز/يوليو» في اشارة لامكان تعرضه لمساءلة قانونية من محكمة العدل الدولية بعد صدور تقرير مهم حول حرب العراق في الصيف المقبل.

توني بلير هذا هو الذي تدخل بقوة كرئيس للوزراء لمنع «مكتب التحقيق في الاختلاسات الكبيرة» من فتح ملف الرشاوى التي دفعت لاحد الامراء السعوديين لضمان صفقة «اليمامة». كما انه اتخذ قرار الحرب برغم وجود تحفظات قانونية قدمها لحكومته اللورد غولدسميت المختص في الشؤون القانونية.

في العراق يتعرض رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، لضغوط كبيرة بعد ان رفع شعار «مكافحة الفساد»، وقد لا يستطيع البقاء في منصبه طويلا لاسباب عديدة من بينها انه اصبح مستهدفا من قبل النخبة التي مارست الفساد في السنوات الاخيرة. والفساد المالي في ذلك البلد لا يقل إيلاما عن ظاهرة الإرهاب التي حصدت ارواح عشرات الآلاف من العراقيين. ولكن ليس العراق وحده الذي يعاني من هذه الظاهرة التي يمكن اعتبارها طاغية على كافة الانجازات البشرية في المجالات الادارية والاقتصادية في الحقب الاخيرة. فالفساد لا ينحصر بالجوانب المالية فحسب بل يتصل اساسا بمدى الصرامة والشمولية في تطبيق حكم القانون. كما يتصل بمدى استقلال القضاء وقدرته على اقامة الحكم على الصغير والكبير، وليس على المستضعفين فحسب. فحين تقطع يد من تسول له نفسه او تدفعه حاجته للسرقة، ويتم التغاضي عن مصادرة اموال الدولة وحصر حق انفاقها والتصرف فيها بالنخبة الحاكمة، فذلك من ابشع اشكال الفساد لأنه يغيب العدالة في التوزيع ويسمح للبعض بالتصرف في المال العام بدون رادع
او وازع من ضمير.

في الاسابيع الاخيرة فتحت بعض ملفات الفيدرالية الدولية لاتحادات كرة القدم (فيفا) بعد ان اجبر رئيسها، سيب بلاتر، على الاستقالة، بدعاوى الفساد المالي. وترشح العديد من رؤساء الاتحادات الاقليمية لذلك المنصب، ومن بينهم سلمان آل خليفة. وهنا فتح ملفه الشخصي كرئيس للجنة تم تعيينها بعد انطلاق ثورة 14 شباط/فبراير في العام 2011 لمعاقبة الرياضيين الذين شاركوا في الاحتجاجات. واتخذت اللجنة قرارات من بينها تجميد انشطة بعض الاندية وعدد من ألمع الرياضيين، واعتقال بعضهم وتعذيبهم. هذه الادعاءات اصبحت تلاحق هذا المرشح الذي القت قضيته بظلالها على المنظمة المذكورة التي تلاحقها، هي الاخرى، دعاوى الفساد والمحسوبية. وقد تحركت جهات بريطانية عديدة لفتح ملفات المنظمة بعد ان خسرت بريطانيا فرصة استضافة كأس العالم للدورتين المقبلتين، في العام 2018 و2022. وقد اعترفت جنوب افريقيا بانها دفعت عشرة ملايين دولار لكي تستضيف كأس العالم في 2010. وتطرح التساؤلات كثيرا عن مدى جشع ذوي المناصب العليا سواء في الحكومات ام الشركات الكبرى ام المنظمات الدولية برغم الرواتب والمخصصات الكبرى التي يتقاضونها. هذا الجشع البشري يضغط على اخلاق البشر وانماط تعاملهم مع مجتمعاتهم ويقلل من شأن ما حققه المجتمع الدولي من تطور في تلك المجالات، ولا شك ان تراكم الفساد يؤدي في النهاية لاضطرابات امنية حتى في الدول ذات الثروات الكبرى.

لقد كتب الكثير عن الفساد المالي والاداري في العالم، واثر ذلك على مدى تطور الانسانية على صعدان السياسة وحقوق الانسان واقامة حكم القانون وبث الأمن والاستقرار على هذا الكوكب. فحين تستخدم دولة نفوذها السياسي او المالي للتأثير على القرارات الدولية فان هذا فساد من نوع آخر. وحين يستخدم المال لممارسة النفوذ على الجهات الدولية كمجلس حقوق الانسان فان حقوق البشر تصبح ضحية للتآمر والمساومة وتبادل المصالح. وهل ثمة فساد اكبر من هيمنة خمس دول على قرارات الحرب والسلام في العالم من خلال عضويتها الدائمة بمجلس الأمن الدولي؟ من الذي خولها بذلك؟ وحين يستهدف زعماء العديد من الدول الافريقية من قبل المحكمة الجنائية الدولية بينما لا تستطيع هذه المنظمة مساءلة اي أمريكي لأن القوة الكبرى في العالم ترفض توقيع بروتوكولات روما التي تأسست عليها محكمة الجنايات الدولية، أليس في ذلك فساد كبير؟ في عالم يحكمه الفساد على اوسع نطاق مطلوب من شعوب العالم، خصوصا نخبها ومثقفيها وإعلامييها صحوة ضمير تروج مبادىء العدالة ومحاربة الفساد والتمييز والاستبداد كقيم لعالم جديد تتطلع شعوبه لأمن واستقرار وكرامة وحرية. وبدون ذلك فسيظل العالم محكوما بالمثل الشعبي القائل «حاميها حراميها». الفساد شر مطلق يجب محاربته بكافة اشكاله في كل مكان.

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
 
https://taghribnews.com/vdcgtq9xzak9qy4.,rra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز