د. أحمد محمد اللويمي - باحث من السعودية
الشَّخصية الإسلاميَّة في المشروع التّجديديّ للسيّد فضل الله
منذ الحملة الفرنسيَّة على مصر العام (1798م)، الَّتي أدَّت إلى إطلاق الشَّرارة الأولى للنّهضة العربيّة المعاصرة، والمشاريع التجديديّة تتوالى في رسم ملامح المجتمع العربيّ الإسلاميّ الجديد، الَّذي ينهض من ركام تخلُّفه ويغادر عثرته، من خلال تشخيص أسباب التخلّف وتحليله، انطلاقاً للنهوض، ومبادرةً للاستـشفاء من هذا الدّاء العضال الّذي أركع الأمَّة بعد شموخها، إلا أنَّ المشاريع التجديديَّة لم تفضِ إلى نتائج ثوريَّة، بل إنَّ مشروع النهضة وجد نفسه أمام مسيرةٍ أطول وصعابٍ أعقد ممّا قطع به الماضي، حيث ركام تخلّف الماضي وآثار الحاضر الّذي خلّفها الاستعمار الجديد في عالمنا، فبين مشاريع التَّغريب الّتي رأى المفكِّرون الجدد فيها الخلاص من ربقة التخلّف، وبصيص الأمل في أحضان المنتج الغربي (فكرة وتقنيَّة)، ومشاريع التّأصيل التي وجدت الخلاص في مشروعٍ إحيائيّ يعيد ربط الأمّة بسلفها الصّالح وثقافتها الإسلاميّة الأصيلة النقيّة، تقاسمت القيادة على دفّة النّهضة الحديثة. ومع ذلك، ما زال الضّياع أكثر شهوداً من الخلاص، ولا سيّما في ظلّ هذا النّشوز الذي يخدش صورة الإسلام وروح المسلم، ألا وهو التعصّب المرتسم في هذه الأصوليّة السلفيّة الجهاديّة القاسية الخشنة، التي تشرعن القتل، وتؤسِّس للدّمار والتخلّف.
ويعتبر السيّد فضل الله من الخطوط الأماميَّة في العقود الأربعة الأخيرة من هذا العصر الّتي حملت مسؤوليّة المثقَّف الفقيه، لنقل الفكر من بيت الفتوى إلى ساحة الإصلاح والتجديد، مساهماً في هذه المسيرة من النّهضة، ومشاركاً في تلمّس مكامن الخطأ وتحديد دروب الخروج، لشفاء الأمَّة من تخلّفها.
وقد انتهج السيّد فضل الله مشروعاً مبتكراً، وزاويةً قد تجعل الاقتراب من تشخيص مشكلة التخلّف للمسلم اليوم إضافةً نوعيَّةً للمشروع الفكريّ التّجديديّ الّذي يخوضه المفكِّر المسلم اليوم. وقد اختطَّ السيّد فضل الله في قراءة الشّخصيّة الإسلاميّة منهجاً إبستمولوجياً يستند إلى أدوات التّحليل النفسيّ في تشخيص الانفعالات النفسيّة التي تفرز مظاهر التخلَّف.
وقد تفضَّل الأستاذ الفاضل أحمد الخلف، طالب الدّكتوراه في علم النفس السّريري في جامعة بليموث في بريطانيا، بإيراد التعليقات ذات الصلة في موقعها. وقد تمّ توظيف المنهج الإبستمولوجي لتشخيص البنية التحتية التي يتأسَّس عليها التخلّف في كثيرٍ من المناهج التجديديّة للمفكِّرين العرب، حيث استند المفكّر البحريني محمد جابر الأنصاري على قراءة العقل العربي في مشروعه التجديدي؛ وذهب المفكّر المغربي محمد عابد الجابري إلى تأصيل التجديد، من خلال قراءة التراث الديني الإسلاميّ وأبعاده المؤثرة في البنية الفكريّة الإسلاميّة.
ويمكن توصيف ملامح المشروع النفسيّ للسيِّد فضل الله من خلال المفاهيم التالية:
1ـ المنهج النفسيّ التّحليليّ لقراءة مكامن الخلل في الشخصيّة الإسلاميّة.
2ـ الاستشفاء من التخلّف عبر إعادة التّأهيل النّفسيّ.
1ـ المنهج النفسيّ التّحليليّ لقراءة مكامن الخلل في الشّخصيّة الإسلاميّة
عبر رحلةٍ طويلةٍ من التأليف والمشاركات الفاعلة في المشاريع الثقافيَّة، ترك السيّد فضل الله تجربه ثريّة وزاخرة بمشروعه التّجديديّ المستند إلى القراءة التحليلية لنفسيّة الشخصيّة الإسلاميّة الراهنة، وقد جاءت في هيئة مقالات وحوارات مجموعة في كتب مهمّة، منها: (موسوعة من وحي القرآن)، (مع الحكمة في خطّ الإسلام)، (قضايانا على ضوء الإسلام)، (خطوات على الطريق)، (المدنّس والمقدّس)، (للإنسان والحياة)، (منطق القوّة في الإسلام). ومن محاضراته المهمّة في هذا الجانب: (بين حريّة الفكر وهيمنة التعصّب)، (حريّة التّفكير تبني ثقافةً فاعلةً في مواجهة التحدّيات)، (الشخصيّة الإسلاميّة).
وقد استندت قراءة السيّد فضل الله إلى تحديد أهمِّ سلوكيّات الشّخصيّة الإسلاميّة، المعبّرة عن حالة الإحباط، والمفرزة لثقافة التخلّف والتراجع.
ثلاثة أنماط من السّلوك المتضخِّم في الشّخصيّة الإسلاميّة
في بحثه المهمّ (الشّخصيّة الإسلاميّة)، الذي شارك به في المؤتمر الثّاني عشر لرابطة الشباب المسلم في لندن في 2/4/1978م، سلَّط السيّد فضل الله الضَّوء على ثلاثة أنماط من السّلوك المتضخّم في الشّخصيّة الإسلاميّة:
أ ـ الروح الباكية.
ب ـ الروح الانفعالية.
ج ـ الروح الخائفة المنبهرة بالواقع المنحرف.
أ ـ الرّوح الباكية
يقدِّم السيِّد فضل الله قراءةً نفسيّةً متأنّية معلَّلةً بالأسباب التي تؤدّي إلى استشراء هذه المظاهر السّلبيَّة في الشّخصيَّة الإسلاميَّة. ففي معرض وصفه للرّوح الباكية، يقول: "فإنّنا نلاحظ ونشعر بأنَّ الروح الباكية هي الّتي تسيطر على مشاعرنا، وتهيمن على أساليبنا وكلماتنا، فنحن نبكي حين نتطلَّع إلى المستقبل بعينين مغرورقتين بالدّموع، ونبكي أمام قوّة عوامل الانحراف المندفقة في الطريق، ونبكي من خلال السلبيَّات التي تواجه العاملين في جهادهم، ونبكي في محاولتنا للمقارنة بين الماضي والحاضر.... وهكذا رأينا في أدبنا، أدب الشّعر والنّثر". "وقد نلاحظ في بعض مجتمعاتنا الدينيّة، أنَّ الصورة المأساوية هي التي تتجسَّد في وعيهم ووجدانهم عندما تثار قضايا التضحيات التي يقدّمها الأنبياء والأئمة والأولياء في سبيل رسالتهم".
ويحدِّد في تحليله النَّفسيّ أنَّ الآلة الّتي تواجه بها الحياة، وتتصارع مع تحدِّياتها، هي العاطفة الجيّاشة المنفعلة، التي توظّف أداة الحزن والكآبة في مواجهة الواقع؛ الحزن الّذي يغلب العقل والإرادة والحكمة والتوكّل، ويلفّ الإنسان بستارٍ من الضّبابيّة التي تمنعه من قراءة الواقع ومراجعة التّجربة للتعرّف إلى أدوات النّجاح والفشل فيها، حيث يشير بوضوح إلى أنَّ الخلل في طغيان هذا السلوك العاطفي السَّلبيّ، هو "أنّ ما نريده هو التأكّد من أنَّ البكاء ليس شأن العاملين الّذين يفهمون الحياة ويواجهونها من موقع الواقع، فيندفعون إلى قضاياهم بهدوءٍ وجديّةٍ وتخطيط، فإذا انتهت أعمالهم بالنّتائج الطيّبة المنتظرة على أساس الخطّة الموضوعة، واجهوا النّجاح بروح واقعيّة تتلمَّس أسباب النّجاح، لتستفيد منها في تحركها نحو المستقبل، وإذا انتهت أعمالهم بالفشل لم يهزمهم الفشل، ولم تصرعهم صدمة الواقع، بل وقفوا يتقبَّلونها بهدوء، باعتباره شيئاً طبيعيّاً اقتضته سنّة الحياة، عندما يفقد العمل بعض عناصره، أو تبرز للسّاحة بعض الأوضاع غير المنتظرة، ثم يبدأون في دراسة الأسباب الطبيعيّة للفشل؛ ليتفادوها في المستقبل".
لا شكَّ في أنّ البكاء من المظاهر العاطفيّة الإنسانيّة المجدّدة للروح والمحرِّكة للعقل، إلا أنَّ مواجهة النّوائب والمصائب والبلايا والتحدّيات المختلفة بالبكاء، لا يترتّب عليه إلا روح هزيلة منهزمة تطلب العلاج بالبكاء على كلّ ما تواجهه من تحدّيات الحياة واختباراتها. إنّ الوصف الذي يؤكّده السيد فضل الله بالروح الباكية، هو إشارة إلى حالة الإفراط والخروج عن الطبيعيّ في توظيف هذه العاطفة، حتى تصبح آلةً للهروب الثقافي عن الواقع، لا وسيلةً لإعادة توازن المظاهر العاطفيّة المختلفة في الإنسان، كما يشير إلى ذلك أهل البيت.
"نحاول فهم قضيَّة العاطفة الّتي تدفع إلى البكاء، فنواجهها بروحٍ إيجابيَّةٍ تندفع مع البكاء الإيجابي، الّذي ينطلق مع الأهداف المرتبطة بالواقع اليوميّ الّذي يعايشه الإنسان في ما يحمل من همومٍ وآلام".
"أمّا عندما تكون القضيّة قضيّة الرّسالات، فإنَّ على الإنسان أن لا يتطلّع إلى العاطفة التي تحجبه عن رؤية الواقع، بل يتحوَّل إلى عيونٍ تحدّق في الواقع لتفهم الواقع".
ب ـ الرّوح الانفعاليَّة
يصف السيّد فضل الله الانفعالية الطاغية في الشخصية الإسلامية، فيقول: "إننا نملك رصيداً كبيراً من الإيمان والمعرفة بعقيدة الإسلام وشريعته، ولكنّنا نخضع للأجواء الانفعاليّة الضّاغطة التي تغرقنا في الحماسة المجنونة في أغلب الحالات".
"إنّنا نرفض أن يكون الانفعال كلَّ رصيدنا في مواجهة الواقع، فينطلق في حياتنا كأساسٍ وحيدٍ للتحرّك، من دون أيّة انطلاقةٍ عقلانيّةٍ تدرس الواقع في ظروفه الموضوعيّة المحيطة به".
إنَّ حالة الانفعال المفرطة الَّتي تصل في بعض جوانبها إلى حالة من الجنون وردّ الفعل غير المقنّن، أصبحت سمةً من سمات المجتمعات الإسلاميَّة. وأصبح الانفعال الّذي يحرك العاطفة في ثورةٍ من الغضب العارم، الأداة المهيمنة للإنسان المسلم، الَّذي يواجه بها قضاياه المصيريَّة والضّغوط التي تمارسها القوى المختلفة. إنَّ أدوات الفكر والعقلنة في معالجتنا للمواجهات الحضاريّة التي تعيشها الأمّة اليوم، أصبحت من مفردات قاموس الجبن والخوف والاستسلام، والمسلم اليوم فيما يمارس من صراخ يصكّ أسماع العالم، أنموذجٌ حيٌّ لقول الإمام عليّ: "لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه". إنَّ الانفعال المفرط تترتَّب عليه تبعات وعواقب جمّة تعطِّل الأمّة عن الإعداد لمشروعٍ طويل الأمد، محكم الإعداد في بناء قدراتها وتنمية إمكاناتها.
"إنَّ ما نريده هو أن لا نتحوَّل إلى أناسٍ يقعون صرعى عدم وضوح الرّؤية، وعدم التَّخطيط الَّذي يربط البداية بالنّهاية، لأنَّ صرعة الاسترسال لا تستقال ـ كما يقول الإمام عليّ ـ بينما يمكن للإنسان الَّذي يتعثّر في العقبات المفروضة أو التّحدّيات المحسوبة، أن يقوم من عثرته ليواصل السَّير من جديد".