التقريب بين المذاهب الإسلامية بدأت في الخمسينات من القرن المنصرم على يد كبار علماء السنة والشيعة وبالتحديد على يد المرحوم الشيخ محمد تقي القمّي المبعوث من قبل آية اللَّه العظمى البروجردي وزملائه الآخرين من شيوخ الأزهر مثل الشيخ محمد محمد المدني والشيخ سليم البشري، والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد العزيز عيسى، والدكتور عبد الحليم الجندي وكثير من العلماء السنّة والشيعة الذين ساهموا في دفع عملية دار التقريب إلى الأمام .
وكالة أنباء التقريب (تنا )
إن هناك من لا يتفاعل مع دعوات التقريب بين المذاهب الإسلامية ويقف منها موقفا سلبيا للغاية، وتتعدد مبررات هذا الموقف السلبي وتختلف من جهة لأخرى، فمنهم من يعتقد بعقم كل المشاريع التقريبية لكونها بعد لم تحقق الاستعداد الذهني والنفسي الذي يؤهلها للإنتاجية المعرفية والشراكة الغائية، وهناك شريحة واسعة كذلك تتحسس جدا من الأيدي السياسية التي تحرك مشاريع التقريب وتمولها وتعتقد لا محالة أن لهذا التمويل والاستضافة ثمنا وضريبة سياسية تصب في مصالح أنظمة وأحزاب، كما وأن هناك شريحة ثالثة تنطلق في موقفها السلبي اتجاه دعوات التقريب من حقيقة أن الدوافع التي تحرك أتباع المذاهب للقيام بالمشاريع التقريبية لا تعدو كونها خدعة مذهبية تسعى لتحقيق أغراض ومكتسبات تسجل للذات على حساب الآخر.
وخلف هذه المبررات ذات الطابع السلبي اتجاه مشاريع التقريب بين المذاهب تتموضع جملة أفكار وتصورات وقناعات يمكن أن نشهدها ونصطادها ضمن علامات الاستفهام والتساؤلات التالية، فبين من يسأل عن بديل التقارب والمتضرر فعلا من رفض مشاريعه وسعة ذلك الضرر على الأمة والأوطان ومشاريعها المدنية والاجتماعية فضلا عن مقاصدها الدينية، وبين من يسأل عن دائرة المشتركات المذهبية ومساحة التقاطع بينها على مستوى الأصول العقائدية والفروع، وما إذا كان يستحق كل هذه الرغبة والحماسة للتقريب بين المذاهب أم لا، وبين من تحيره قدرة السلف على الانجاز- ولو كان جزئيا- في طريق التقريب وعجز الخلف عن البناء في ذات الاتجاه مبديا قلقه من تزايد العقد المحبطة، وبين من يسأل عن مدى قدرة مفاهيم التقريب على إشباع الفضول الطائفي عند شباب المنتديات الالكترونية والفيس بوك، وبين من يركز في أطروحاته على لزوم تحديد السقف أولا والمستوى الذي يمكن تحقيقه للتقارب قبل القيام بمشاريعه، وبين من يتساءل عن مصير المشاريع القائمة فعلا وهل يتوقف قيام مشاريع جديدة على تقويض وإنهاء المشاريع السابقة أم لا. كل هذه التساؤلات وغيرها تعبر عن ما يدور في كواليس التباحث الإسلامي والعربي لمسألة العلاقة بين المذاهب الإسلامية.
هذا وقد وجهت مجلة الحوار المغربية في عددها الثلاثين سؤالا لرجل الدين السعودي البارز الشيخ حسن الصفار عن الإشكالات النظرية التي تواجه مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية فكان جوابه: " من أهم الإشكالات... مسألة قبول التعددية واحترام الرأي الآخر، حيث تسيطر على الذهنية المذهبية فكرة احتكار الحق والحقيقة بكاملها، وتجريد الآخر من أي نسبة منها، والنظر إليه على أنه باطل وضلال. وبالتالي فإن التعامل معه يكون باستهداف تغييره وهدايته، وإلا فمقاطعته وعداؤه ." وأنا بدوري أضم صوتي لسماحة الشيخ الصفار في عمق الإشكالية النظرية التي تواجه مشاريع التقريب إذ ما لم نخرج نحن المسلمين من جدلية امتلاك كل الحقيقة فلن نتحرك خطوة واحدة في مسار التقريب وسيصبح مصير كل المشاريع التقريبية الخفوت والانتهاء كمصير دار التقريب في مصر.
تلك الدار التي بدأت في الخمسينات من القرن المنصرم على يد كبار علماء السنة والشيعة وبالتحديد على يد المرحوم الشيخ محمد تقي القمّي المبعوث من قبل آية اللَّه العظمى البروجردي وزملائه الآخرين من شيوخ الأزهر مثل الشيخ محمد محمد المدني والشيخ سليم البشري، والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد العزيز عيسى، والدكتور عبد الحليم الجندي وكثير من العلماء السنّة والشيعة الذين ساهموا في دفع عملية دار التقريب إلى الأمام وكتبوا في المجلة المعروفة «رسالة الإسلام» إلا أن هذه الدار – كما يقول أمين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الشيخ محمد علي التسخيري- لم تستطع أن تواصل عملها وخفت صوتها خصوصاً بعد أن توفي الكثير من الرواد، نعم هناك أنباء في الأشهر الأخيرة عن إعادة إحيائها بعد ٤٠ سنة من التوقف - كما نقل موقع إسلام أون لاين - وذلك عبر فتوى تحريم التكفير بين المذاهب الاسلامية لا سيما بين السنة والشيعة.
وفي اعتقادي إن دار التقريب وإن كانت قد خرجت علينا قبل أفولها بالفتوى الشهيرة لشيخ الأزهر الشريف المرحوم الشيخ محمود شلتوت التي تجيز التعبد بمذهب الشيعة الأمامية وهي خطوة متقدمة إسلاميا لكنها ليست كل شيء بالقياس إلى أهداف التقريب وأغراضه، وبتعبير آخر إن مشاريع التقريب سواء كان منشأها مصريا أم إيرانيا أم سعوديا أم عراقيا أم غير ذلك – مع كونها مشكورة على جهودها وإنجازاتها- ما لم تخرج وتتحرر من «عطبها المنهجي» في البحث والحوار، وتتحرر من «تبعيتها» السياسية و«عبوديتها» المذهبية فستبقى تراوح مكانها ولن تسعفها المؤتمرات واللقاءات ولن تسعفها المؤسسات «الشكلية» في التقريب لأن الواقع المأزوم مذهبيا يسبقها بعشرات السنين وإذا رغبت في اللحاق به فلتكن حرة قبل كل شيء، ولست أحتاج إلى مزيد من الكلام في إثبات أن التحرر من العقلية المذهبية والطائفية والمآرب السياسية قبل أن يكون هدفا دينيا قد أضحى اليوم طموحا حضاريا ووطنيا تتحقق به أغراض مدنية تنم عن رشد حضاري عام. فهل يتحررون وتتحرر فنتحرر؟!
المصدر : صحيفة الأيام البحرينية - سيد جابر علي