حين وقعت الواقعة فى (كربلاء) لسيد الشهداء (عليه السلام) ومن معه من أهل بيته الأصفياء وأحبابه الأوفياء، توجه ركب من بقى من سيدات أهل البيت الطاهرات ومعهن سيدنا علي زين العابدين (عليه السلام) إلى دمشق ثم إلى المدينة المنورة وعليها عمرو بن سعد الأشدق واليًا من قبل يزيد بن معاوية.
وكانت السيدة زينب (عليها السلام) وهي بالمدينة تخبر الناس عن قيام الإمام الحسين (عليه السلام)، لذلك والي المدينة كتب إلى يزيد يخبره أن وجود أهل البيت(ع) يهيج الخواطر ويحرك القلوب على بني أمية، فطلب منه يزيد أن يخرجهم منها إلى أي مكان آخر، وحين عرض الوالي على السيدة زينب (عليها السلام) أن تختار مكانًا للإقامة قالت في إصرار:
قد علم الله ما صار إلينا، قُتِلَ خَيْرُنَا، وسقنا كما تساق الأنعام، وحملنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإن أهرقت دماؤنا. لكن ابنة عمها السيدة زينب بنت عقيل قالت:
يا ابنة عماه، قد صدقنا الله وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء, فطيبي نفسًا وقري عينًا وسيجزي الله الظالمين, أتريدين بعد هذا هوانًا؟ ارحلي إلى بلد آمن!
واختارت السيدة الطاهرة أن تذهب إلى مصر, ومعها السيدة فاطمة النبوية ابنة الإمام الحسين (عليه السلام) وأختها سكينة, وكان لهذا الاختيار أسباب وأسرار.
أخرج العبيدلى النسابة في أخباره, والحافظ ابن عساكر الدمشقي في تاريخه, والمؤرخ ابن طولون الدمشقي في الرسالة الزينبية, أن الأشدق والي المدينة قال للسيدة زينب: ولم مصر؟ فقالت:
لأكون وأنا في برزخي بعد سنين ستمضي في شرف استقبال رأس الإمام الحسين(ع) الذي سودتم تاريخكم بدمه الطاهر.
وهذه كرامة من كراماتها؛ لأن الرأس وصلت مصر يوم الأحد جمادي الآخرة سنة ٥٤٨ﻫ, ولم تكن المدينة ولا مكة يصلحان في ذلك الوقت لإقامة أهل البيت؛ لأن يزيد أرسل جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة حاصر المدينة من جهة الحرة, وأخاف أهلها وقتل منهم عددًا كبيرًا ولاسيما من بني هاشم, ثم توجه هذا الجيش إلى مكة وقاده الحصين بن غير, الذي نصب المنجنيق حول الكعبة ورماها بالأحجار المحماة حتى اشتد الأمر على أهل مكة وابن الزبير.
أما الشام فهو مقر الأمويين الذى أغروا أهله بالمال والوعود, وزينوا لهم كراهية الإمام عليٍّ (عليه السلام) وبنيه فلم يكن مكانًا مناسبًا لإقامتهم.
أما العراق ففيه شيعة الإمام عليٍّ (عليه السلام) لذلك وجه إليه الأمويون سخطهم وابتلوا أهله بالجبارين من أمثال زياد بن أبيه وابنه عبد الله بن زياد, والحجاج بن يوسف الثقفي الذين تتبعوا شيعة الإمام وبنيه فأذاقوهم ألوان العذاب.
ولم ينج من هذه الفتنة في ذلك الوقت إلا مصر.
جاء في كتاب (تحفة الأحباب): لما قتل الإمام الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) بأرض كربلاء, طيف برأسه وسير في البلاد إلا بأرض مصر, فإن أهلها لم يمكنوا حامليه من الدخول على تلك الحالة البشعة.
ثم يقول: إن أهل مصر تلقوا أهل البيت بأول مدنها, وحملوهم في الهودج, وأوسعوا لهم في الكرامة, وأنزلوهم خير الأماكن بمصر وآووهم, وبَنَوْا لموتاهم المشاهد, واتخذوها مزارات, وجعلوا لها أرزاقًا من أقواتهم تقوم بهم فكان أهل البيت يقولون:
يا أهل مصر نصرتمونا نصركم الله, وآويتمونا آواكم الله, وأعنتمونا أعانكم الله, وجعل لكم من كل مصيبة فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا.
وستظل هذه الدعوات المباركات حصنًا وملاذًا لكل المصريين.
وكان والي مصر في الفترة التي تشرفت فيها بقدوم السيدة زينب ومن معها هو الصحابي مسلمة بن مخلد بن صامت.
وظل واليًا لمصر لمدة خمسة عشر عامًا وأربعة أشهر, وقد قابل السيدة زينب (عليها السلام) في جمع كبير في فرقة العباسة شرق بلبيس في أول شعبان سنة ٦١ﻫ بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بستة أشهر وأيام, وقد توسل إليها مسلمة بن مخلد أن تنزل في داره فأقامت بها, ولها كرامة معه حيث طلبت منه أن يبني لها مخدعًا بداره وقرأت فيه القرآن إحدى عشر مرة, ثم جاء مسلمة ليزورها وطلب منها أن تناوله مصحفها الخطي, فقالت له: يا مسلمة إنك بعدنا.
فانصرف ولم يتكلم, وحدث ما قالت, توفيت (عليها السلام) ليلة الاثنين ١٤ رجب ٦٢ﻫ, وتوفى مسلمة يوم ٢٥ رجب من نفس