مدير مؤسسة البلاغ في الكويت : الحج موسم تجارة وموسم عبادة ومؤتمر اجتماع وتعارف
تنـا
يرى الباحث الاسلامي، رئيس مؤسسة البلاغ الثقافية في الكويت "الحاج كاظم عبد الحسين محمد"، ان "الحج هو موسم تجارة وموسم عبادة ومؤتمر اجتماع وتعارف، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدينا والاخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة".
شارک :
جاء ذلك في كلمة هذا الباحث الاسلامي الكويتي، خلال ندوة افتراضية عقدت (الثلاثاء 11 يونيو / حزيران 2024م) برعاية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية تحت عنوان "دعوة وحدة المسلمين ضد جرائم المشركين".
وفيما يلي نص هذا المقال :
بسم الله الرحمن الرحيم /
الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة والسلام على اشرف خلق الله محمد و اله الطيبن الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله و بركانه
الحج الابراهيمي و الوحدة الاسلامية
الحج مؤتمر عالمي للتعارف وتوحيد القوى والتشاور وتنسيق الخطى، فهو تنظيم للعالم الاسلامي الواحد؛ يقول الله تعالى [وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ 26 وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ 27 لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ 28 ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ] - الحج.
الحج موسم تجارة وموسم عبادة ومؤتمر اجتماع وتعارف، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدينا والاخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة؛ اصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقا رائجة، حيث تجبى الى البلد الحرام ثمرات كل شيء من اطراف الارض، فهو موسم تجارة ومعرض نتاج وسوق عالمية تقام في كل عام.
وهو موسم عبادة، تصفو فيه الارواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهي ترف حول البيت وتحوم عليه الذكريات وترف كالاطياف ومن قريب ومن بعيد.
ان في الحج فوائد اجتماعية ايضا، لا تعد ولاتحصى لو استفاد منها المسلمون؛ فالحج عظيم فضله كثير اجره جزيل ثوابه جليل جزاؤه، وكفاه ما تضمنه من وفود العبد على سيده و نزوله في بيته ومحل ضيافته وامنه و اكرام ضيفه و اجارة الملتجأ الى بيته، وما تزال تهوي اوفدة من الناس تهوي الى بيت الحرام وترف الى رؤيته والطواف به؛ الغني القادر الذي يجد وسيلة ركوب مختلفة تنقله، والفقير المعدم الذي لا يجد الا قدميه، وعشرات الاولوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الارض البعيدة، تلبية لدعوة الله تعالى الذي اذن بها ابراهيم (ع) منذ الاف الاعوام.
والحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه اصلهم العريق الضارب في اعماق الزمن منذ ابيهم ابراهيم الخليل؛ اعوذ بالله من الشيطان الرجيم [... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ.. الاية].
ويجدون محورهم الذي يشدون اليه جميعا، هذه القبلة التي يتوجهون اليها جميعا ويلتقون عليها جميعا ويجدون رايتهم التي يفدون اليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ضلها فوارق الاجناس والالوان والاوطان، ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا؛ قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين، الملايين التي لا يقف لها احد لو فاءت الى رايتها الواحدة التي لا تتعدد فهي راية العقيدة والتوحيد.
حج البيت في حقيقته مجاهدة وامتحان واختبار وبلاء، وابتلاء وتمحيص يمتلئ من يجتازه ظافرا بالتذلل لله والتواضع لعظمته والتحرر من داء الزهو والخيلاء والكبرياء امام عزة الباري جل وعلا، ويفوز بالرحمة السابغة والرضوان وهنالك يتذوق المرء الاشياء والاذكار تذوقا ويحسن على الحقيقة بالصلة الاخوية الحمية التي تربطه باخوانه المؤمنين الذين يطوفون حول الكعبة مثله، وسيدرك ادراكا عميقا معنى عبارة "المسلمون كلهم اخوة".
وهكذا، فإن الحج رحلة السلام الى بلد الامن والسلام، رحلة يستشعر فيها الحاج قيمة الامن في نفسه وفي مجتمعه ومع بارئه الذي جعل له هذه البقاق المقدسة، امنة تطمئن فيها نفسه وتامن غضب خالقه برجاء عفوه ورحمته والدخول في حمايته، فيعود الحاج وهو مهيأ للتوبة مستعد للصلاة. وما اجمل تشخيص الامام الصادق عليه السلام لهذه الحقيقة وهو يخاطب الحاج بقوله: [وادخل في امان الله وكنف ستره وكلاءته من متباعة مرادك بدخول الحرم ودخول البيت متحققا لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه.
الحج ذلك المؤتمر الاسلامي الكبير والتضاهرة الايمانية الرائعة التي تشترك فيها صنوف متعددة من الاجناس والفئات والطبقات والقوميات، على موعد واحد وفي ارض واحدة يرددون هتافا واحدا ويمارسون شعار واحدا وتجهون لغاية واحدة، وهي الاعلان عن العبودية والولاء لله وحده والتحرر من كل اثار الشرك والجاهلية بطريقة جماعية حركية تؤثر في النفس وتشبع المشاعر والاحاسيس بمستوحيات الايمان ومداليل التوحيد.
والحج كما صرح القران الكريم والاحاديث الشريفة الى جانب كونها عبادة وتقربا الى الله تعالى، فإن فيه منافع اجتماعية وفوائد ثقافية واقتصادية وسياسية وتربوية، تساهم في بناء المجتمع وتزيد في وعيه وتوجيهه، وتساهم في حل مشاكله وتنشيط مسيرته.
ففي الحج يشهد المسلمون اروع مظاهر المساواة والتواضع والاخوة الانسانية بإلغاء الفوارق والازياء وخلع اسباب الظهور الاجتماعي والظهور باللباس العبادي الموحد، لباس الاحرام؛ حيث يحس الجميع بوحدة النوع الانساني وبالاخوة والمساواة.
- وفي الحج يستشعر المسلمون وحدة الارض، و وحدة البشر ويمثلون عملية اسقاط الحدود التي صنعتها الانانيات والاطماع البشرية والاقليمية والقومية والعنصرية، فهم يقطعون الاف الاميال ويخترقون كل حواجز الحدود ويجتازون كل الموانع التي صنعها الانسان على ارض الله سبحانه؛ استجابة لنداء العقيدة و تلبية لهتاف الايمان.
وفي الحج يلتقي المسلمون بمؤتمرهم الكبير، فيتذاكرون في شؤونهم ويتشاورون في امور حياتهم وعقيدتهم ويتبادلون الخبرات والتجارب و الاراء والعادات الحسنة ويتعرف بعضهم على مشاكل البعض، ويطلع بعضهم على راي البعض، ويتعرف بعضهم على اخبار البعض الاخر، فيزداد الوعي وتنمو المعرفه وتحشد الهمم من اجل الاصلاح والتغيير والاهتمام بشؤون الامة والعقيدة؛ فتخطط المشاريع ويُفكّر في الاعمال وتُؤسّس المراكز الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويستعين بعضهم بالبعض الاخر وكانهم جسد واحد وروح واحدة.
والحج بما هو تجمع بشري ضخم يستقطب ملايين المسلمين من مختلف الاقطاروالامصار، فهو ينتج حركة بشرية هائلة يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم عن طريق النقل والاستهلاك وحمل البضائع وتبادل النقود وشراء الاضاحي والحاجيات ومستلزمات الحج والاقامة والسفر، فينتفع العديد من المسلمين ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية نشطة .
وفي الحج اعداد لسلوك الفرد ونوازعه، ففي الحج يتعود الحاج الصبر وتحمل المشاق وحسن الخلق واللطف والتواضع والين وحسن المحادثة والكرم والتعاطف والامتناع عن الكذب والغيبة والخصومة والتكبر.
وفيه يتعود الالفة والتعارف عن طريق السفر والاختلاط، فتنمو لديه الروح الاجتماعية وتتهذب ملكاته الاخلاقية عن طريق هذه الممارسة التربوية والتفاعل البشري الرائع الذي يشهده في الحج بأرقى درجات الالتزام والاستقامة السلوكية .
وقد تحدث الامام الصادق (ع) عن منافع الحج وفوائده، بإجابته البليغة على سؤال احد اصحابه "هشام بن الحكم" هذا الصحابي الجليل الذي قال للامام (ع) سائلا ما العلة التي من اجلها كلف الله العباد بالحج والطواف بالبيت؟ فقال عليه السلام : [إنّ الله خلق الخلق]، الى ان قال، [وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، وينتفع بذلك المكاري ولتعرف آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى...] الى اخر الرواية.
ويتطابق مع هذا التحليل شرح حديث الامام الرضا (ع) لمنافع الحج واثاره الاجتماعية التي يجنيها الفرد والمجتمع حين قال (عليه السلام) : [ان امروا بالحج لعلة الوفادة الى الله عز وجل طلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائبا مما مضى مستانفا لما يستقبل مع ما فيه من اخراج الاموال وتعب الابدان، والاشتغال عن الاهل والولد وحضر النفس عن اللذات شاخصا في الحر والبرد ثابتا على ذلك دائما مع الخضوع والاستكانة والتذلل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع ما في شرق الارض وغربها، ومن في الارض والبر والبحر ممن يحج وممن لا يحجّ، من تاجر وبائع ومشتر وكاسب ومسكين وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه ،مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الائمة (عليهم السلام) الى كل صقع وناحية، كما قال عز وجل : [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ].
و هكذا شاء الله ان يكون الحج محرابا للعبادة وموسما للتربية والتوجيه ومجالا للمنفعة وتحقيق المصالح الاجتماعية والاقتصادية للانسان .
والحج يعلم الناس ان يتلاقوا وينتفعوا من كل الغنى والتنوع الذي اودعه الله تعالى في الامة وان يتعالوا على كل الفروقات و الحواجز بينهم والتي تعقّد حياتهم؛ فاذا ساروا في خط الايمان فلن يكون لاي فروقات من معنى واعتبار.
وعندما يجتمع الناس في الحج يجب ان تسقط كل الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلقوا على صعيد واحد وهو الايمان با الله والسير على نهجه والالتزام بدينه والجهاد في سبيله طلبا لرضاه؛ مما يوفر لهم الخروج من الدوائر الضيقة التي يحبسون حياتهم فيها لينطلقوا الى الدائرة الكبيرة التي تحتويهم جميعا والتي تؤسس لقضاياهم الاسلامية وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الاسلام في الحياة.
فالحج الزام للمؤمنين المخلصين بما عاهدوا الله من الانقياد لطاعته والانتفاع من اجتماعهم بما يقوي وحدتهم ويؤسس لعلاقات وروابط جديدة على مستوى التعاون والتعارف والتشاور في حل مشاكلهم، فتتحول النداءات في طقوس الحج الى امتثالات والتزامات تنعكس في تجلياتها على الواقع برمته لتضخ به الحياة في عروق المجتمع لتبعده عن الرتابة، قال تعالى : [وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ...]. واعلن بذلك في نداءاتك كتشريع تقرره لا مجرد صوت تطلقه ليشعروا من خلال ذلك بان هناك الزام الهي يدفعهم الى الامتثال ويقودهم الى الطاعة ياتوك سائرين على اقدامهم من اي طريق بعيد ليحصلوا على منافع الحج الدنيوية التي يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في حل المشاكل التي يعيشونه.
ان كلمة "لبيك" تعني "اننا يارب نلتزم في موقفنا هذا بكل نداءاتك بالاسلام كله؛ في عباداته وفي اخلاقه وفي جهاده وفي سياسته واقتصاده وفي مواجه كل التحديات التي يواجهها الانسان من الشيطان الداخلي في عمق نفسه او من الشيطان الخارجي في عمقه واقعه و في ما يحيط بحياته.
انها الحركة الصارخة في النداء التي تنطلق به كل حناجر الحجاج لتؤكد موقفهم ا لذي يريد ان يلتزم بالاسلام من جديد في مسيرتهم الى مركز الدعوة الاسلامية في مكة، ليكون مسيرة الحجاج من سائر اقطار العالم، هي مسيرة الاسلام التي تقول تك الكلمات الهادرة، "يارب اذا كان الناس قد تركوا الاسلام فلم يؤمنوا به ولم يتربطوا به، واذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطه وتركوا الكثير من تعاليمه وانتموا الى الاتجاهات الاخرى التي تختلف عن خطه المستقيم.
واخيرا، إن الانسان في الحج يقف بين يدي ربه عاريا من كل شكليات الواقع الفردي والاجتماعي ليؤكد انه لن يستجيب له استجابة واحدة ولكن اجابة مما يوحي ان الاجابة تظل تتحرك في خط الحياة، فكل الاجابات تؤكد بان يكون كله في حركة حركة مع الله يتحول الانسان الى تجسيد لاستجابة الله من خلال دعوته سبحانه وتعالى للناس : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ].
و الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين، وختام كلمتنا الشكر الجزيل للاخوة في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية لاتاحة الفرصة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.