رمضان طرابلس في لبنان: تقاليد محبّبة.. وتأثُّر بتداعيات الأزمة
تنا
عادةً ما يبدأ الطرابلسيون في النصف الثاني من رمضان، بارتياد الأسواق التي تفتح استثنائياً حتى منتصف الليل، لكن الأزمة، وغياب الكهرباء، أخّر ذلك.
شارک :
دخل شهر رمضان المبارك النصف الثاني، فبدأت الحركة تزداد في مدينة طرابلس شمال لبنان ليلاً، لكن ليس كعادتها في السنوات السابقة، ورغم أن لرمضان نكهة طرابلسيّة خاصة حيث تزدهي لياليه بالاحتفاليات المحتلفة الأصناف والأشكال، ولا يفوّت الطرابلسيون الشهر إلا بعد أيام طويلة من الفرح، والحفاوة، إلا أن مظاهر رمضان هذا العام لم تنجُ من تداعيات الأزمة اللبنانية.
الشوارع معتمة حيث لا كهرباء للإنارة، والسواد يعمّ غالب الأحياء، تكسر حدّتها أضواء بسيطة تشعشع من بُعْد، غالبها بسطاتٌ من الحلوى، والكعك الطرابلسي، وقهوة المصبّات، ومختلف أصناف الأطعمة ذات المذاق الطيّب.
كما تكسر قساوة العتمة المقاهي الشعبية، ومحلات بيع الحلوى المختلفة التي تشتهر طرابلس بها، لكن التجمّعات في الشوارع افتقدت زخمها في العديد من الأحياء، واستمرت في أمكنة قليلة أخرى خصوصاً منها في باب الرمل حيث مقهى موسى يطغى باسمه على العديد من المقاهي التي تكتظ بالرواد بعد الفطور طوال رمضان.
وشهدت العديد من المقاهي الشعبية سابقاً زخماً كبيراً بروّاد ما بعد الفطور.
ويوضح مدير أحد المقاهي خالد مطرجي لـ "الميادين نت" أن المقهى كان موجوداً في مكانه الحالي على ساحة "التلّ"، وبالاسم عينه منذ أوائل القرن الماضي، والاسم يعود لمُنقِّب آثار فرنسي عمل في القاهرة، وأحبّه المصريون، فمنحوه لقب باشا.
إلا أن الإقبال في بقية المقاهي بدا متراجعاً. ويفيد "إيّاد" أحد المسؤولين في مقهى آخر أن عائلات كثيرة اعتادت على ارتياد المقهى، وقضاء سهرة جميلة في حديقته الخارجية المطلة على شارع التل العام، لكن هذا العام حمل معه تراجعاً كبيراً في أعداد الروّاد.
المقاهي الشعبية ليلاً
ومقاهي موسى الشعبية في باب الرمل حافظت على زخمها لأن معظم روادها هم من سكان الحيّ، ينزلون إليه بعد الإفطار، ويمارسون هواياتهم بألعاب الورق، والنرد، والداما، ويتناولون الطيّبات من مشروبات ساخنة، أو عصائر طازجة، أو الجلاب.
الأجواء الرمضانية الشعبية
وتتميز الأجواء الرمضانية الطرابلسيّة ببسطات الحلوى، ومشروبات معروفة كالخرنوب، والسوس، وعصائر الليمون التي تنتشر بساتينها في أطراف المدينة.
وبعض باعة الخرنوب بات موقعاً شهيراً كالبائع المقيم بصورة دائمة طوال أيام السنة عند زاوية ساحة السراي العتيقة، حيث لا تثقل الطلبات في ساعات ما قبل الإفطار، وقد طوّر صناعته، وأدخل عليها الآلة الحديثة، ووسائل تعقيم المياه.
وظهرت بادرة جديدة على بسطات الخرنوب هذا العام ، وهي صبّ الشراب عبر "مرشّة" تفنن بعض الصناعيين في تطويرها، وتعطي حركة جاذبة، تلفت النظر إليها، وتفتح شهية الصائم الذي ينقلها إلى منزله لينتعش ببعض منها خلال سهرات الليل.
أبرز بسطات الحلوى يعود لآل الحداد، ويباع فيها حلوى "الشميسة"، وهي صنف مصنّع محلياً من الحلقوم المغطى بطبقة من بودرة السكر، تُحشى قطعٌ مرقوقةٌ منه بالقشطة، وتعطي طاقة جيدة تعوّض خسارة طاقة النهار بالصوم.
ومن الحلويات البارزة والمخصصة لرمضان حلوى "الكربوج"، وتُصَنّع في العديد من محلات الحلويات التي تشتهر طرابلس بها، ويتفنن كل محل بطريقة التصنيع، وأعتق محل لتصنيع وبيع الكربوج يقع داخل الأسواق القديمة، تأكيداً على تراثيّة الأكلة، ويفيد صاحبه أبو كنعان شرف الدين الثمانيني، أنه "أعتق من يصنّع هذه الحلوى، وهو الذي نقلها للعديد من المحلات الجديدة التي تعلمت تصنيعها منه”.
ويفيد نجله كنعان أن الكربوج هو نوع من المعمول الممدود، المحشوّ إما بالفستق الحلبي، أو بالجوز، وعليه طبقة سكريّة سميكة مصنّعة بتفنّنٍ خاص من نبتة "شرش الحلاوة"، والطبقة السكريّة تضاعف الطاقة التي يحتاجها الصائم.
إلى الكربوج، يصنّع الكلاج، و ورد الشام، وأصناف البقلاوة المختلفة في محلات طرابلس الكثيرة التي بات كثير من أسمائها معروفاً في عالم الحلويات.
الحلويات الطرابلسية الشهيرة
الأسواق الشعبية
وعادةً ما يبدأ الطرابلسيون في النصف الثاني من رمضان، بارتياد الأسواق التي تفتح استثنائياً حتى منتصف الليل، لكن الأزمة، وغياب الكهرباء، أخّرت ذلك.
وسبق للطرابلسيين، وللتجار في الأسواق، أن أقاموا زينة في الشوارع احتفاء بالموسم، لكن غياب التيار الكهربائي، وارتفاع تكاليف الزينة، جعلت زهاء المدينة خجولاً هذا العام، فاقتصرت الزينة على بعض المواقع كمستديرة النور، وساحة التل.
ويقيم الشباب الطرابلسيون حلقات السَّهَر في مختلف الشوارع والأحياء، فما إن ينتهي الإفطار، حتى تبدأ حلقات السهر، والسمر تقام حيث توفّرت الإمكانية.
ومن أبرز الأنشطة الرمضانية صلاة التراويح التي تعقب الإفطار مباشرة، وتقام قبل توجه المواطنين للسهر كل على طريقته.
صلاة التراويح من التقاليد الرمضانيّة التي يلتزم بها الناس، فتزدحم بهم العديد من مساجد المدينة الكثيرة، أبرزها: جامع طينال، والمسجد المنصوري الكبير، ومسجد الرحمن، ومسجد التوبة، والبرطاسي، وسواها.
ولا يغيب عن بال الطرابلسيين قبل بداية الصوم إقامة "السِّيَران"، فيرتادون الحقول والبساتين، ويفترشون الأرض، ويُحَضِّرون مختلف اصناف الأطعمة، في رحلة بريّة في الهواء الطلق، تحضيراً لأيام الصوم التي تفترض الالتزام بالمنازل، أو العمل، خصوصاً في فترات الحرّ الشديد، أو البرد الشديد.
وتقام في المنازل سهرات الأقارب، والجيران بعد إفطارٍ تقليديّ يبدأ بثلاث حبّات تمر، وكاسة شوربة عدس ساخنة، ثم بعض السَّلْطات كالفتوّش، ومن أبرز أكلات رمضان "الفتّة"، او "التسقية"، و"ورق العنب" الذي تُحضِّره النسوة في النهار، فيتجمعن عليه، وينتجون منه ما يكفي حلقة كبيرة من الضيوف المحتفين بالشهر الفضيل.
ظاهرة "السَكبة" والمسحراتي
ولا تزال العديد من العائلات الطرابلسية تحتفظ بظاهرة "السَكْبَة"، أي تبادل وجبات الطعام فيما بين العائلات، أو إرسال طبق لعائلة فقيرة، وذلك تعبيراً عن المحبّة، والتضامن الاجتماعي.
وللمسحراتي الطرابلسي حضور لافت يبدأ دوره في الليلة الأولى من الشهر، حيث يجوب عدد مسحراتيين أحياء المدينة بعد أن اقتسموها فيما بينهم، وتبدأ جولة أحدهم بعيد منتصف الليل، وقبيل السحور، يجوب الشوارع على قرع الطبلة، وصوته ينادي على السحور، ويروي بعضهم روايات بمعانٍ دينية، روحانيّة من وحي الشهر، ومن قصص القرآن الكريم.
ويعتبر "المسحّراتي" مؤنس الليالي في كثير من الأمكنة، خصوصاً لدى وجود مريض، مثلاً، أو تلميذٍ متهيّّءٍ للامتحان، فيطلب السكان منه الدعاء للشفاء، أو التوفيق بالنجاح، أو تحقيق أمنية لطالبها.
وعلى خلفية المسحراتي، تشكلت في المدينة فرق متخصصة، منها المسحراتي نفسه، أو فرقة من أربعة أشخاص، يجوبون المنازل، ويقيمون على أبوابها طقوس الدعاء، والأناشيد، على قرع الطبول، وغالباً ما يُكافأون بعطاءات قد تكون ماليّة، أو هدايا حلويّات أو أطعمة.
شهر رمضان ثورة في الحياة الاجتماعيّة، تنقلب فيه المعايير، وأنظمة الحياة، ويعيشه الطرابلسيون بكل متطلباته الدينيّة، نهاراً، وبكل ما هو مريح ومفرحٌ، ليلاً.