التبليغ ليس مسألة فكريّة محضة أو قناةً لنقل المعلومات إلى الناس، بل هو أكثر بكثير من ذلك وأبعد، إذ هو في حقيقة أمره وفي مفهومه الديني، منهجٌ للتغيير والإصلاح الاجتماعي، فالمبلِّغ هو الذي يذهب إلى مجتمعٍ ليقومَ بعمليّة تغيير اجتماعي فيه، لا ليقومَ بعمليّة نقل الأفكار فقط .
شارک :
حيدر حبّ الله
تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا
تمهيد
ربّما ينصرف الذهن من العنوان الذي تمّ اختياره هنا إلى معالجة القضايا الفكريّة المعاصرة، لكنّ هذا ليس هو المقصود، بل سأتكلّم بعضَ الشيء عن همومٍ ميدانيّة أكثر من بحوثٍ فكريّة أو نظريّة، وسأحاول أن أجعل مدخل البحث ومساره في ضوء رواية أوردها الشيخ الكليني (328 أو 329هـ) في الكافي، دون أن أقصد الإستدلال بهذه الرواية، بل أهدف لجعلها بمثابة إضاءةٍ لمفاهيم دينيّة وعقليّة وعقلائيّة وميدانيّة ومنطقيّة.
هذه الرواية هي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله قال: «قال أمير المؤمنين: ألا أُخبركم بالفقيه حقّ الفقيه، من لم يُقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمّنهم من عذاب الله، ولم يرخّص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره، ألا لا خيرَ في علمٍ ليس فيه تفهّمٌ، ألا لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّرٌ، ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكّرٌ»، وفي رواية أخرى: «ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها، ألا لا خير في نُسك لا ورع فيه«.
تشير هذه الرواية في مطلعها إلى علاقة الفقيه بالناس ليحدِّد وظيفته تجاههم، عبر ثلاثة أمور:
۱ ـ لا يقنطهم من رحمة الله.
۲ ـ لا يؤمّنهم من عذاب الله.
۳ ـ لا يرخّص لهم في معاصي الله.
وسوف أتناول في ضوء هذه الرواية، أربعةَ موضوعات، هي:
المقدّمة: جوانب أساسيّة من هويّة التبليغ الديني.
المحور الأوّل: التبليغ ومشكلة القنوط من رحمة الله.
المحور الثاني: التبليغ الديني والأمن من مكر الله.
المحور الثالث: المرجعيّة القرآنيّة في الخطاب الدعوي الديني.
أوّلاً: جوانب أساسيّة من هويّة التبليغ الديني
تتحدّث هذه الرواية عن الفقيه من زاوية علاقته بالناس في سياق ربطهم بالقيم الدينيّة، وهذا ما يسمح لنا بأن نستفيد منها توضيحاً لوظائف مبلِّغ الدين، حيث قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ۱۲۲).
إنَّ التبليغ ليس مسألة فكريّة محضة أو قناةً لنقل المعلومات إلى الناس، بل هو أكثر بكثير من ذلك وأبعد، إذ هو في حقيقة أمره وفي مفهومه الديني، منهجٌ للتغيير والإصلاح الاجتماعي، فالمبلِّغ هو الذي يذهب إلى مجتمعٍ ليقومَ بعمليّة تغيير اجتماعي فيه، لا ليقومَ بعمليّة نقل الأفكار فقط، ولهذا عبّرت الآية الكريمة بكلمة «ليُنذروا» ولم تعبّر بمثل كلمة «ليُعَلِّموا»؛ لأنّ الإنذار يحمل خاصية التأثير النفسي لا مجرّد خاصية التعليم، ولهذا كان من وظائف الأنبياء في النصّ القرآن كلٌّ من التعليم والتزكية.
إنَّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وتبليغ دينه، ليست عمليّة معلوماتيّة بقدر ما هي عمليّة تغييريّة، تكون المعلومات فيها مجرّدَ مقدّمة لفعل التغيير في النفوس والمجتمع، فلا يكفي أن تكون عالماً لقيامة التبليغ الناجح في المجتمع، فقد تكون عالماً ولكنّك فاشلٌ من الناحيّة التبليغيّة، وقد لا تكون عالماً ولكنّك ناجحٌ من تلك الناحية، فلا يوجد تلازمٌ بين المفهومين بالضرورة. فالتبليغ يحتاج إلى قدر من العلم، لكنّ روحه وجوهره ليسا المعرفة وحدها.
يتعامل الكثير منّا مع التبليغ على أنّه مجرّد قناةٍ لنقل المعلومات، ومن ثمّ فالمهمّ أن ألقي معلوماتٍ دينيّة كثيرة للناس، وينتهي المطلوب، بينما المهمّ هو غرس وإحياء القِيم الموجودة في هذه المعلومات إحياءً حقيقيّاً، ليكون باعثاً على إيجاد حراكٍ في النفوس، وإلا فهذا التبليغ سوف يكون فاشلاً.
الدين قضيّة روحيّة تتعلّق بأرواح الناس، قبل أن تتعلّق بأبدانهم، فكلّ مشروعٍ دَعوي إلى الله سبحانه وتعالى لا يكتفي بإيصال المعلومات، بل الأهمّ من ذلك إحياء القلوب؛ ولذلك قد نجد شخصاً عالماً في أعلى مستوياته لكنَّه غير قادر على التأثير في أقرب المحيطين به، وفي المقابل نجد شخصاً أقلّ علماً، لكنَّه شديد التأثير في الآخرين؛ لأنّ التأثير وعدمه لا يقومان فقط على حجم المعلومات الموجودة في الذهن، بل أيضاً على طريقتك في إيصال هذه المعلومات لجعلها تَنبعث في القلوب لتغيّر الفرد والأسرة والمجتمع.
على خطٍّ آخر، للتبليغ أهدافٌ معيّنة، ومن ثمّ يمكن اختباره لمعرفة مدى نجاحه وفشله من خلال دراسة النتائج التي يقدّمها، فإذا استطاع أن يؤثّر في المجتمع، فهذا جيّد، وإذا أخفق من جميع النواحي أو ارتدَّ عكساً على ما هو المطلوب منه فهذا معناه أنّه فاشلٌ.
إنَّ المحاسبة (الاختبار) من المفاهيم التي أكّدت النصوص الدينيّة عليها كثيراً، لكنّها ـ للأسف الشديد ـ مفهومٌ غابَ عن حياتنا الفرديّة والعلميّة والاجتماعيّة وكذلك الدينيّة، فالإنسان عبرَ محاسبة نفسه أو فئته أو مجتمعه، يستطيع أن ينمو أكثر فأكثر؛ لأنّه سوف يتعرّف من خلال المحاسبة هذه على نقاط قوّته وضعفه معاً، فيستطيع أن يرسم خطّة أكثر نجاحاً للوصول إلى غاياته المنشودة، وهذا الشعور ـ أي شعور التقدّم والوصول إلى الأهداف ـ يدفعه بنفسه إلى الأمام، فعلينا أن نقومَ باختبار ذواتنا ومجتمعاتنا اختباراً دائميّاً.
من هنا، على المبلِّغ أن يرسم أهدافه، ثمّ يضع خططاً عمليّة للوصول إليها، والأهمّ من ذلك أنّ عليه أن يختبر عمله يوميّاً وشهريّاً وسنويّاً، ليعرف مدى نجاحه، وما هي الأغراض التي تحقّقت؟ فيستطيع ـ من ثمّ ـ أن يتقدّم أو أن يغيّر من الخطّة تِبعاً لتغيير نسبة تحقيق الأغراض التي وضعها لهذا المشروع.
بعد أن علمنا شيئاً عن هويّة العمل التبليغ، نرجع مرةً أخرى إلى الحديث الذي ذكرناه في مطلع بحثنا، لنرى ما هي وظيفة الفقيه والمبلِّغ للدين؟ حيث جاء في صدره: «ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه».
ما يُلفت نظرنا في هذا الحديث أنّه مرويٌّ عن الإمام علي، وهذا يعني أنّه لا يمكن أن نفهمه كما نفهم هذه الجمل اليوم؛ لأنّ كلمة «الفقيه» في اللغة لا تعني المتخصّص في الفقه الإسلامي ابتداءً من الطهارة ووصولاً إلى الديات؛ إذ استعمال الفقه في هذا المعنى هو استعمالٌ متأخّر، يرجع على أبعد التقادير إلى القرن الثاني الهجري بعد تطوّر المدارس الفقهيّة.
إنّ علينا ونحن نواجه رواية ترجع للقرن الأوّل الهجري، أن نراجع الجذر اللغوي لها، والفقه في اللغة يعني الفهم والوعي، يقول العرب: فَقِه فقهاً، وشخصٌ فقيهٌ، أيّ يفهم الأمور بدقّة ويعيها، وله خبرة بها، وبهذا تتحدّث الرواية عن الفقيه الذي يفهم الدين حقيقةً ويعي قضاياه، ويُدرك أغراض الدعوة الدينيّة، وليس المراد من الفقيه مجرّد تعلّم كتاب الطهارة أو الصلاة أو الطلاق أو الديات، فهذا استعمالٌ متأخّر، بينما الرواية علويّة صدرت في القرن الهجري الأوّل، فالفقيه الذي هو الفاهم والواعي الحقيقي بقضايا الدين، هو ذلك الشخص الذي يتّصف بهذه الصفات، أي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من مكره سبحانه و..
ثانياً: التبليغ الديني وإشكالية خلق الإحباط والتعسير
أوّل صفة يذكرها هذا الحديث الشريف من صفات الداعي إلى الله، هو أن لا يقنط الناس من رحمته تعالى، أي لا يوصلهم إلى مرحلةٍ يشعرون فيها بعبثيّة أعمالهم، فالذي يصاب بالقنوط من رحمة الله لا يشعر بأيّ فائدة من وراء عمله، فيترك العمل من أصله. ولا يختصّ هذا الأمر بالآخرة، أي الجنّة والنار، بل يشمل الدنيا أيضاً، كما تشير إلى ذلك آيات أخَر بل وبعض الروايات كذلك.
عندما يقنط الإنسان من رحمة الله، يدخل في مرحلة العبثية؛ لأنّه لا يرى أيّ جدوى من وراء سعيه، فالقنوط يساوي الشعور بالعبثيّة والإحباط والكسل والإحساس بعدم الجدوى من العمل. هذا هو القنوط بمفهومه النفسي والاجتماعي، إذ لا نتكلّم هنا فقط عن المعنى الفقهي للكلمة، وهذا يعني أنّه عندما يصل الإنسان إلى مرحلة القنوط فهو لا يستجيب للقيم الدينيّة؛ لأنّه مهما اُلقي عليه من قيم دينيّة فهو لا يشعر بجدوى العمل؛ لأنّه لا يرى فائدة من وراء عمله وجهده.
لكن لماذا يقوم الداعية إلى الله أو المبلّغ الديني بجعل الناس قانطين من رحمة الله؟! ما هو السبب الذي يدفعه لفعل ذلك؟ إنّ الأمر ليس عبثيّاً، فليس ثمّة داعية إلى الله يجلس ليقول مباشرةً للناس: أنتم لا خلاص لكم في الآخرة. ولايوجد أيّ داعية يصعد المنبر ليقول: مهما فعلتم فلا نجاة لكم من عذاب الله.
إذن، لماذا يذهب الداعية نحو توريط الناس في اليأس من رحمة الله تعالى وجعلهم يشعرون بالعبثيّة والفراغ وفقدان الإحساس بالجدوائيّة والنشاط؟
ثمّة أسباب جرّته لذلك، منها:
أ ـ الرغبة الجامحة في هداية الناس، والصورة المجتزءة عن الله
عندما يذهب المبلّغ إلى مجتمعٍ مّا بوصفه إنساناً مؤمناً متديّناً يحمل الهمّ الديني، تنتابه رغبة جامحة في شدّ الناس إلى الإيمان، وكما ورد في القرآن الكريم: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ..﴾ (الأنبياء: ۳۷).. إنّه يريد من الناس أن تؤمن بما آمن به في أقرب وقت ممكن. وهذه الرغبة الجامحة القويّة تشدّه بعنف ـ نتيجة ضغطها ـ لاستخدام أسلوب التخويف أكثر من الترغيب؛ لأنّ الإنسان يفترض أنّ أسلوب التخويف أفعل وأسرع في التأثير، فإذا أراد الأب أن يمنع طفله من عملٍ غير صالح مستعجلاً في منعه، فهو يستخدم عادةً أسلوب التخويف والتهديد؛ لأنّه أسرع في التأثير وتحقيق الغاية المنشودة.
عندما يشتغل الداعية إلى الله برغبة جامحة مستعجلة من هذا النوع فهو ينجرّ ـ في بعض الأحيان ـ لاستخدام أيّ وسيلة ممكنة لتحقيق غاياته، فيستعجل أسلوبَ التخويف أكثر من استخدامه أسلوب الترغيب، فيخوّف الناس منه تعالى؛ لأنّه يرى أن ذلك يؤثّر فيهم أسرع، فيُرهبهم ويسبّب لهم الصدمة والدهشة، بما يمكّنه من السيطرة على نفوسهم؛ لدفعهم في أقرب وقت للإيمان والعمل الصالح.
أظنّ أنّ هذا هو أحد الأسباب الأساسيّة النفسيّة التي تدفع الكثير من الدعاة لتفضيل تصوير الله للناس بأنّه يبطش دائماً، ويده التي تضرب أكثر حضوراً من يده التي ترحم، فينتابهم شعور دائمٌ بالوَجل والخوف، وتسيطر عليهم حالة من القنوط إذا كان الخطاب كلّه متّجهاً على هذه الوتيرة.
أضف إلى ذلك، الصورة المجتزءة عن الله سبحانه وتعالى في ثقافتنا الشعبيّة، فالله في ثقافتنا وأدبياتنا ـ وليس في القرآن والسنّة ـ هو البطّاش، القويّ، الجبّار، المدمّر، الذي يضرب بالزلازل، وينزل الصواعق على رؤوس الناس، ويدفع بالأنهار إلى الفيضانات لإغراق البشر. هذه هي صورة الله في الثقافة الشعبيّة أحياناً.
عندما يتمّ التركيز على هذه الصورة فقط، يصبح الله مصدرَ رهبة وخوف، وعندما يخاف الإنسان من شخصٍ قد يبتعد منه؛ إذ يشعر دوماً أنّه من الصعب أن يرضيه، أو أن يتودّد إليه؛ لأنّ الوجه العنفي لله سبحانه أظهرُ من الرحمة، وعادةً ما لا نُظهر الله على أنّه الذي يخرج لنا الورود من الأرض أو ينقذ المرضى، أو يساعد الفقراء، أو يمنحنا في كلّ لحظةٍ قدرةَ التنفّس، أو يدفع عنّا المصائب.. هذا الشعور بالطمأنينة مع الله يدفع الإنسان إلى الارتياح معه، ويعطيه الأمل في إمكان أن تزداد الرحمة الإلهيّة.
أمّا عندما يترجّح الشعور بالخوف من الله سبحانه وتعالى على الشعور بالأمل، فهو يخلق في الإنسان إحساساً بالخوف الدائم، ويضرب حاجزاً بينه وبين ربّه، وقد يتنامى هذا الأمر ليُحدث في الإنسان شيئاً من القنوط من رحمته سبحانه .