تاريخ النشر2014 14 November ساعة 09:37
رقم : 173877
القسم الثالث

الخطاب الفقهي الإسلامي: بين لاهوتية التجديد وضرورة التفكيك

تنا
إن خضوع الفقيه للأمر الواقع في زمن ما، وخاصة انتقال الخلافة إلى ملك أساسه القهر والغلبة، أدى إلى انهيار مؤسّسة الفقه، بل إلى "اختفاء السياسي وراء الثقافي في الفكر الإسلامي، (مما) يعكس مقدار التحول في الفكر الفقهي من مرحلة الممانعة إلى مرحلة المواءمة"؛ لذا نحتاج إلى مساءلة حقيقة انهيار مؤسّسة الفقه، ذلك لأنها ضحّت "بالدّين للإبقاء على الملك .
محمد أوالطّاهر
محمد أوالطّاهر

كتبه: محمد أوالطّاهر
٣.١. الحلول الفقهيّة: إفرازات تاريخية لأوضاع سياسية
درس المستشرقون الفقه الإسلامي بهدف معرفة حياة المسلمين في أدقّ تفاصيلها، ذلك أن الفقه في نظرهم فرصة لفهمٍ أعمق للمجتمعات الإسلامية قديما وحديثا؛ وعلى الرغم من الشّطط الذي لحق بعض الكتابات الإستشراقية، يقتضي الأمر الخروج من التصور التقليدي للإستشراق، على حدّ قول محمد أركون، إذ لا يجب إدانة ورفض إنتاجات الإستشراق، بل يجب ترجمة أهم أعمالهم لمناقشتها على أسسٍ علميةٍ وموضوعيةٍ وليس على أسس ايديولوجيةٍ وعقائدية.

من هذا المنطلق، يشي حديث المستشرق الألماني جوزيف شاخت حول الفقه الإسلامي بمعناه الإصطلاحي الذي لم يكن له وجود في عهد النبي بالكثير من الدلالات؛ حيث يرى أن القانون - أي الشريعة - كانت تقعُ خارجا عن نطاق الدين، إذ لم تكن مسألة القانون ذات شأن بالنسبة للمسلمين؛ ومن هنا تصريح شاخت على صعوبة اعتبار حديثٍ ما من الأحاديث الفقهية صحيحًا بالنسبة إلى النبيّ. 

هذا القول يجد ما يبرره إذا ما قمنا بدراسة تشكّل الفقه السّياسي وكشفنا عن السّياقات الثقافية لتشكل هذه الأنظمة الفكرية اللاهوتية وتكيفها مع المستجدات السياسية؛ حيث يتبين لنا كيف اكتفى الفقه بالخوض في موضوع الفقه السياسي بعد القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلادي، فأصبح بذلك فقها يقوم على "تبرير الماضي وتكريس سلوك الحاضر المتّسم بالتعسف والتسلّط وتغليب المصالح الأنانيّة"؛ ولعل أقسى ضربة تعرّض لها الفكر الإسلامي هي "نقل الخلافة من قضيّة فروع إلى قضيّة عقيدة؛ أي من علم أصول الفقه إلى علم أصول الدّين (علم الكلام)، فأصبحت الخلافة تعالَج كعقيدة لا كمنهج سياسي".

خير مثال نبدأ به سلسلة تسييس الدين من قبل الفقهاء هو مسألة الردّة، فما كان رأيا سياسيا لأبي بكر بخصوص ما عُرف بحروب الردة على مانعي الزكاة، سيُصبح في "كتب الفقه حدا من حدود الله المنصوص عليها"، رغم الآيات القرآنية العديدة الدالة على حريّة المعتقد، إلا أن سلطة السّياسة تتقوى بسلطة النص، أو بالأحرى سلطة السياسة ما هي إلا إمكان من إمكانات سلطة النص المتجلية تاريخيا.

إن خضوع الفقيه للأمر الواقع في زمن ما، وخاصة انتقال الخلافة إلى ملك أساسه القهر والغلبة، أدى إلى انهيار مؤسّسة الفقه، بل إلى "اختفاء السياسي وراء الثقافي في الفكر الإسلامي، (مما) يعكس مقدار التحول في الفكر الفقهي من مرحلة الممانعة إلى مرحلة المواءمة"؛ لذا نحتاج إلى مساءلة حقيقة انهيار مؤسّسة الفقه، ذلك لأنها ضحّت "بالدّين للإبقاء على الملك ولدرء الفتنة وحقن الدماء"؛ الشيء الذي يؤكّد لنا مرة أخرى على تماهي سؤال السّلطة بسؤال المعرفة خاصة إذا توسطتهما مقولة المُقدس، مما يؤدّي إلى إغفال حقيقة "أن هناك فرقاً بين (التشريع) و (السلطة)، فالتشريع من خصائص الخالق وأما السلطة فهي للأمة."

من هنا بدأت سيرورة تدنيس المقدس وتقديس المدنس، حيث "إن كلّ العلوم الدينية التي انتشرت وتطورت في السياقات السّياسية منذ عهد السلالة الأموية، زادت من أهمية التلقي الديني للخطاب القرآني عن طريق التخفيض من أهمية الغائية الإجتماعية والسياسية، وتصغيرها وسحبها في اتجاه ما هو سلبي."

تستند النظرية السّياسية الفقهية في أصلها إلى الواقع لتبرير مقولاتها، حيث تُقر "مبدأ الإختيار الطوعي من الأمة للحاكم، ثم تقبل من أبي بكر مبدأ الإستخلاف الفردي، ومن عمر الإستخلاف الجماعي، وتقبل من تجربة عثمان مبدأ تأبيد الولاية، ثم تقبل من الأمويين مبدأ توريث السلطة أو الأسرة المالكة، وتقرر من خلال الواقع العباسي مبدأ ولاية المتغلب من السلاطين والوزراء."

موازاة مع ذلك، نرصد بخصوص شروط الإمامة اختلافا صارخا بين الفقهاء أنفسهم؛ ففي القرن الخامس الهجري، نجد أن الماوردي يصنّف الأخلاق والسلوك والنّسب من قريش من شروط الإمامة؛ في المقابل، يأتي أبو يعلى الفراء الذي كان من معاصريه، ليقول بنظرية شبه ميكيافيلية في معناها الإيجابي، حيث ألغى هذه الشّروط وجعل الغلبة والسّلطة من مقومات الإمامة. 

إن هذا التّذبذب الفقهي راجع إلى التوتّر السياسي الذي عرفته الحضارة الإسلامية آنذاك، مما أدّى إلى استثمار سياسي للمعطى الديني. مع ذلك، يجب الوقوف على مسألة نظام الحكم في الإسلام، إذ على الرغم من كون الحكم في التاريخ الإسلامي حكما وراثيا استبداديا، إلا أنه لم يكن دينيا- ثيوقراطيا، فرغم " استخدام الحكام لسلطة الفقهاء وفتاويهم لتكريس سلطتهم، لا يعني "إسلامية" نظام الحكم"؛ هذا ما وقف
عنده محمد أركون في معرض حديثه عن وجود نزعة إنسانية وحضور معالم العلمنة في السياق الإسلامي الكلاسيكي.

مع ذلك، ثمة عدد كبير من الكتب السّلطانية التي غالت "في الأئمة حتى رفعوهم إلى درجة من لا يُسأل عما يفعل مما كان له أسوأ الأثر على الأئمة وعلى الأمة فاستعبَدت الأئمةُ الأمةَ وظلموا وفسقوا وتصرفوا في الإمامة دون رقيب أو حسيب كل ذلك باسم الشريعة ومن أنكر أو اعترض لقي أشد أنواع الأذى ." 

ولعل الأمثلة في هذا الباب كثيرة، "فعناوين من مثل 'الأحكام السلطانية' و'نصيحة الملوك' و'تدبير الرياسة' و'مرايا الملوك' و'سياسة الملك' و'تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المَلك وسياسة المُلك' و'الأدب الصغير' و'الأدب الكبير' و'رسالة الصحابة' و'سراج الملوك'، هي كلها مؤلفات تمجد الذات السلطانية، وتنهج سلوك النصح والوعظ للحاكم دون أن تنقُد واقع الفساد الذي ينخر الساحة السياسية من استبداد وتخلف".

على الرّغم من إن "كتب الفقه السياسي المسماة "بالأحكام السلطانية" وما شابهها كُتبت لعصورها، وقد تغير الزمان وجَدّت في الحياة أمور أثّرت على هذا الفقه، ولهذا فإنها لم تعد كافية لتنظيم هذا الجانب في العصر الحاضر."إلا أن ما يهم الباحث خاصة في مجال السوسيولوجيا والأنثربولوجيا وغيرهما من العلوم الاجتماعية، هو ضبط الطابع الواقعي والاجتماعي والثقافي للدين لفهم سيرورة تشكله التاريخي وأشكال ترجمته السياسية التي ما تزال تسيطر داخل المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وهذا في الحقيقة ما تغفل عن دراسته علوم الدين الساعية نحو العقيدة الصحيحة والباحثة عن الإيمان الحقيقي والعمل القويم، دون ضبط منهجيّ للحدود الفاصلة بين الدّيني والسّياسي.

نختم بمثال قد يُبين لنا إلى أي حد ارتبطت الفتاوي الفقهية بالمصالح الذاتية للفقهاء أنفسهم: لمّا شرعت الدولة في مصر خلال القرن التاسع عشر في تمديد الماء إلى بعض المناطق، أثار هذا الفعل ثائرة الشافعيين الذين كانوا هو المسؤولين والمستفيدين من قضية السقاية، حيث إن مسألة صنبور الماء ستُضيّع عليهم كل ما كانوا يستفيدون منه؛ إلا أن جوابهم لم يكن صريحا، إذ حرموا باسم الشرع استخدام صنابير الماء، إلى حد القول ببطلان وضوء مُستعمل صنبور الماء، غير أن الأحناف الذين لم يكن لهم أي مصلحة وراء ذلك أجازوه واعتبروه من علامات المدنية، إذ إنه يُيسر للناس أمور حياتهم، لهذا السبب يُطلِق المصريون على صنبور الماء اسم الحنفيّة.

على هذا الأساس، ما هي الأسس اللاهوتية والميتافيزيقية التي ساهمت في إبقاء الوضع على حاله دون حصول إمكانية استقلال السياسي عن الديني، أو بالأحرى تحرير الديني من السياسي؟

المبحث الثاني:
إشكالية الديني والمدني في الخطاب الفقهي الإسلامي: في ثنائية المقدس والمدنس

تتوسّل المنظومة الدّينية بجملة من المقولات الميتافيزيقية التي تُؤسّس بناءها الدّاخلي وتضفي عليها هالة من القداسة والتّعالي؛ ومن بين تلك الثنائيات اللاّهوتية التي تشكّلت لتقويم وليس لفهم الظواهر الإنسانية والإجتماعية، نجد ثنائية "الحلال والحرام"، "المؤمن والكافر"، "أصحاب الجنّة وأصحاب النّار"، "الحسنات والسيّئات"، "الثواب والعقاب"، "بلاد الإسلام وبلاد الكفر".

هكذا تُعتبر ثنائية المقدّس والمدنّس الأصل الأول الذي يقوم عليه الخطاب الديني عموما قصد تبرير أحكامه وفرض قوانينه، الشيء الذي يجعل الظّواهر الإجتماعية مواضيعَ للتقويم الدّيني وليس مجالات للبحث والفهم والتحليل، ما يؤدّي بالخطاب الديني للسقوط في مطبّ الإيديولوجيا.

على هذا الأساس، تُعلّمنا الأنثروبولوجيا المعاصرة أن مقولة المقدّس مرتبطة برؤية ثقافية واجتماعية متغيّرة، فما هو مقدّس لدى مجتمع ما قد نجده مدنسا لدى مجتمع آخر؛ وخير مثال هو الخمر الذي يعتبره المسيحيّون مقدّسا بينها هو محرّم لدى المسلمين.

في هذا الباب، نؤكّد ما قاله عالم الأديان ميرسيا إلياد في كون المقدّس عنصر أساسي في بنية الوعي، وليس مرحلة من تاريخ هذا الوعي، عكس ما ذهب إليه أبو الوضعانية السوسيولوجية أوگيست كونت؛ إلا أننا نضيف بالقول: إن هذا المقدّس قد طاله الشّطط من خلال تجلياته التاريخية، حيث كان وراءَ استثمارِه السّياسيِّ والإيديولوجي تضييقٌ على الوجود الإنسانيّ.

إن المقدّس الإسلامي بهذا المعنى، ليس معطى بقدر ما هو بناء ثقافي لا يفتأ السياسي في استثماره لتبرير قراراته، إذ إن مفهوم المقدّس في الإسلام مرتبط بالحرام، ويتدخل فيها النص من أجل "إخضاع الدّنيا والتصرّفات المتعلقة بها لتوجيهات الدّين وأوامره، وإرساء علاقة هرمية يخضع فيها الدنيوي، ومن ضمنه السياسي، إلى متطلّبات الدين".

لا يمكن أن نشهد عودة للمقدّس في تجرده وجوهره، فكل مقدّس هو كذلك في زمن ما ووفق ظروف معينة، بل إننا نشهد - خاصة في واقعنا المعاصر- عودة السياسي بلباس المقدس (الإسلام السياسي)، الشيء الذي يطرح عدة إشكالات بخصوص الحدود الفاصلة بين الدّيني والمدني، ولعل النقاش الحاد بخصوص مسألة تطبيق العلمانية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ما هو إلا إفراز
من إفرازات التصور اللاهوتي لعلاقة المقدّس بالمدنّس.

إن الإسلام كدين لا يزال "خاضعا لأوامر السلطان القائم في جميع السياقات الإسلامية المعاصرة. وهنا نلمح ظاهرة التضامن الإيديولوجي بين الدولة، والدين "المستقيم" أو الأرثوذكسي، وطبقة علماء المحتكرين لإدارة ذهنية التحريم أو التقديس على حد تعبير ماكس فيبر. وبقدر ما يسود هذا التضامن الإيديولوجي ويقوى بقدر ما تضمحل النزعة الإنسانية، ويتهمش الموقف الفلسفي، وتغيب الثقافة النقدية أو تنعدم".

هذا التصوّر الذي يُؤسّس لثقافة الطهرانية يَحول دون توسيع مساحة المشترك الإنساني، بل إنه يعتمد ثقافة الطّرد والإستئصال والمنع والنّبذ والتّجريم والتّحريم والتّكفير. لهذا السبب لم يستطع الفقه الإسلامي أن يخرج بعد من بوثقة اللاّهوت في مبحث المصادر مثلا، إذ بقي حبيسا في مصادر الشّريعة ولم يُوسّع رقعته لتشمل مصادر الواقع والطبيعة والمشترك الإنساني.

لا يمكن للنّظرة المعيارية بخصوص المعرفة الدينية التي تختزل الدين في ثنائية الحلال والحرام، أن تُسعفنا في اختراق جغرافية الفعل الديني وفهم الظاهرة الدينية في تشكّلها وتطوّرها التّاريخي؛ لهذا السبب بالذات لم تعُد دراسة الظّواهر الدينية مقتصرة على الفقهاء وعلماء الدين، بل وجد فيها الفلاسفة والأنثروبولوجيون وعلماء الإجتماع المادة الخام لتطوير مناهجهم وتحليلاتهم بخصوص الظاهرة الدينية، وذلك بعيدا عن التصور الوضعاني والتاريخاني للدين.

إن السؤال الذي سنحاول مقاربته هو كالآتي: ما هي تجليات ثنائية المقدّس والمدنّس في الإنتاج الفقهي الإسلامي؟ وإلى أي حد يمكن تجاوز الميتافيزيقا بخصوص التصورات اللاهوتية التي ارتبطت بالنّص المؤسِّس "القرآن"، والتي ما تزال تسكن كتب الفقه وعلوم القرآن، وتَحُول دون الوقوف على التشكّل التاريخي والرمزي للمسألة ؟

١.٢. الثنائيات الميتافيزيقية ولعبة اللاّهوت
تُعلّمنا مقرّرات البحوث والدّراسات في تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني ملازمة الظّاهرة الدّينية للإنسان، وكونها ذات بعد أنطولوجي فيه؛ إلا أن النّقطة التي لا يجب إغفالها هي صعوبة القبض على حقيقة الظاهرة الدينية وفهمها دون الرّجوع إلى اللّغة التي هي في عمقها نتاج الميتافيزيقا، مما يؤكد استحالة تجاوز الميتافيزيقا لكونها تَسكننا وتُحدّد أفق فهمنا عن طريق اللّغة.

من هنا ضرورة فهم مقولة "العودة إلى الدين" على أنها عودة إلى شكل من أشكال تجليه التّاريخي، كيفما كانت هذه التجليات، وليس وقوفا على جوهره الأول. إن تبني هذا الموقف قد يحول دون السقوط في تصوّر لاهوتي من خلال القول بأن الدّين قد يتخذ أشكالا تُخرجه من حالة الفطرة والسواء والرشد، إذ وجود للدين على الحقيقة إلا انطلاقا من الأنساق الفكرية والثقافية والرّمزية والإيديولوجية التي نَخلقها عنه وحوله.

أوضح محمد أركون في هذا الصّدد، أن من اهتمّ من المفكّرين المسلمين بمسألة الأديان والتّراث لم يستطيعوا التحرّر من النظرة اللاهوتية القائلة بالدين الحق، فكل طائفة تدعي أن دينها هو الحق وأنها هي الفرقة الناجية، إذ ما تزال هذه النظرة الدوغمائية تتحكم في الذهنية الفقهية. في هذا السياق، نرى أن اللقاءات الدولية التي تُقام سنويا حول حوار الأديان لن تعطي أُكلها إذا لم تتخلّص من مثل هذا الفهم اللاهوتي للدين، وإلا ستدخل تحت طائلة القول القرآني: كلّ حزب بما لديهم فرحون.

ما تزال الميتافيزيقا تسكن اللّغة ومن تم الكتابات الفقهية، وخير دليل على ذلك تعدد الثنائيات التي أخذت فيما بعد صبغة تشريعية من قبيل: ثنائية القّطع والظّن، ثنائية النّص والمآل، ثنائية الكّلي والجزئي، ثنائية الثّابت والمتغيّر، ثنائية الفهم والتّنزيل وغيرها.

لا غرابة إذن أن تنخرط نظرية مقاصد الشّريعة - رغم الطفرة النّوعية التي قامت بها في مجال تجديد الفقه عموما- في منظومة الميتافيزيقا، من خلال اعتبار حفظ الدين مقصدا من مقاصد الشّرع، ما يجعلنا نتساءل: أوليس حفظ باقي المقاصد (النفس، العقل، العرض، المال) حفظا للدين؟ فما ضرورة إدراج مقصد حفظ الدين من بين مقاصد الشريعة؟ إلا إذا أخذنا الدين بمعناه العام فكان ذلك حفظا لحرية المعتقد.

إن الوقوف عند هذه المسألة قد يسعفنا في تبيان الأبعاد اللاّهوتية التي لم يَسلم من شراكها أبو إسحاق الشاطبي في صياغته لمقاصد الشريعة.

يتّضح جليا أن بعض من يتبنون نظرية مقاصد الشريعة يتشبثون بثنائية الكلي والجزئي؛ إذ على الرغم من كونهم يؤمنون بأن التنوّع الحاصل داخل نظرية المقاصد راجع إلى صعوبة حصرها في بُعد واحد لاحتوائها على قابلية عجيبة للفهم والتعدد، إلا أنهم مع ذلك يرفضون تقديم الكلي في مراتبه الثلاثة أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، على الجزئي في أدلته الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، الشيء الذي يدل على أن عملية التّجديد في الفقه الإسلامي لا يمكن إلا تكون أن لاهوتية- ميتافيزيقية.

لم يستطع الشاطبي في نظرية المقاصد الخروج من ابستيمي عصره المُتسم بصراع الثنائيات، وكأنّ صراع الجزئي والكلي قد لا يختلف كثيرا عن النظرة الحرفية بين النص والواقع؛ لذا نجده يؤكد على هذا التصور اللاهوتي الذي لم يستطع الخروج منه لأنه جدّد انطلاقا من بداهات مسبقة لم يتم الوقوف عليها. يقول:

"(إن) الإعراض عن الجزئي جملة يؤدّي إلى الشّك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة
له، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أننا إنما نأخذه من الجزئي؛ دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛ لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك، الجزئي كذلك أيضا؛ فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة. فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي."

يمكن أن نعتبر محاولة الشاطبي هذه محاولة توفيقية بين الجزئي والكلي، إذ لم يستطع الخروج من هذه الثنائية من أجل مساءلتها والوقوف على تشكلها التاريخي قصد مجاوزتها، إلا أنه مع ذلك أعطى تصوّرا يُترجم فيه صراع الثنائيات الذي كان سمة عصره وكتابات من قبله. يقول:

" فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات في هذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمحال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص في جزئي معرضا عن كلي فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كلية فقد أخطأ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئية."

لم يستطع الشاطبي كذلك التخلص من التصور الأرسطي لثنائية الفكر والواقع، فاعتبر أن الكلي معنى نظري يقع مجردا في الذهن والجزئيات هي صورته في الواقع، ومن تمّ كان لزاما اعتبار خصوصيات الجزئيات مع اعتبار كلياتها[٥٦] ؛ ففي نظره لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر، والإعراض عن أحدهما إعراض عن الآخر، ذلك لأن "الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام، وبه قوامه".

مع ذلك، وللخروج من التصوّر التاريخاني للإسلام، نجد مثلا كيف أن نجم الدين الطوفي الذي عاش في القرن الثامن الهجريّ أكثر حداثة من غالبية الفقهاء المعاصرين، وقد تدارك على الشاطبي - باستشراف قبل أوانه- صراعه النفسي بين الجزئي والكلي، ولو أنه عاش في فترة سابقة على هذا الأخير، وقال بأن الشّريعة إنما جاءت لرعاية مصالح الخلق، فأينما وُجدت المصلحة فثمّة شرع الله. يقول في رسالته: "وإذا تعذر الجمع بينهما قُدمت المصلحة على غيرها".

إن جرأة هذا الرأي أدت بصاحبه إلى اتهامات من قبيل: الخروج عن جادة الطريق، التسفيه، ذبح للنصوص بحد المصلحة، توهين للقيم وتغيير للأحكام. هكذا يتأكد لنا مرة أخرى كيف أن للفقه كحقل معرفي، على حد تعبير بيير بورديو، ميكانيزماته الداخلية التي يجب استيعابها وعدم الخروج عليها ليتم الإنتساب إليه، وكل من حاول الخروج عن قواعد اللعبة يتم طرده من دائرة الحقل الفقهي السلطوي بامتياز.

من هذا المنطلق، يمكن القول إن ثمة حُجبا تؤثر على الخطاب الفقهي وتَحُول دون خروجه من مأزقه، ومن بين هذه الحُجب - كما ذكرها عبد الله بن رفود السفياني في كتابه حجاب الرؤية- نجد : حجاب النفس (أنماط الشخصية الوسلوك)، حجاب العادة (التقاليد والعرف)، حجاب البيئة ( الوسط والطبقة الإجتماعية)، حجاب الإستبداد؛ ومن تم كان الرهان هو كشف هذه الحجب المتخفية في الخطابات الفقهية، وذلك عن طريق عملية التفكيك.

لا تزال ثنائيات الديني والمدني، المقدّس والمدنّس، الذات والآخر عالقة في خطابات الفكر الإسلامي، عن طريق إعادة إنتاج الصراع القديم بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة حول ثنائية العقل والنقل. ومن بين إفرازات هذا التصور نجد الفتاوى الفقهية التي شهدها العالم العربي خلال القرن العشرين، عند دخول المخترعات الحديثة وخاصة التلغراف؛ فقد عرف هذا الأخير من قبل الفقهاء حربا شعواء، حيث تم تحريمه لاعتباره بدعة لم تكن في عصر النبي وأنها من صنع الكفار؛ وذلك راجع لواقع سياسي اتسم بالإستعمار وفصل الذات عن الآخر عن طريق محاربة المُستعمِر وخلط ما هو غث بما هو سمين دون أي تمييز منهجي ومنطقي قويم.

من هنا ضرورة تفكيك الخطابات الدينية، لكي لا يتم الوقوع في تناقض وعبثية الخطاب؛ إذ كيف يمكن مثلا فهم خطاب مُمثلي اتجاه الإسلام السياسي الذين "ينكرون نظريا وجود مفهوم "الكهنوت"، لكنهم في الوقت نفسه يمارسونه عمليا وواقعيا"، من خلال تنصيب أنفسهم المؤهلين لتحديد ثوابت الدين بشكل قطعي ونهائي مع تكفير كل من يخرج عنها ويُسائلها.

في هذا الباب، يؤكّد الصادق النيهوم على أن "القول بوصاية رجال الدين على التشريع، مبدأ اختلقه أحبار اليهود، ونقله عنهم رجال الكنيسة الكاثوليكية. أما الإسلام فإنه لا يعترف برجال الدين أصلا، ولا يعفي الناس عن مسؤوليتهم الشخصية"؛ وهذا يدل على إمكان من إمكانات الإسلام، ألا وهو الإمكان الديمقراطي الذي تم إجهاضه في بداياته.

بهذا المعنى نقول، إن مقولة تجديد الفقه أو حتى أصول الفقه لن تُساهم في مُساءلة مؤسّسة الفقه في بنيتها وسلطتها وتفكيك بناءها التّاريخي-الإيديولوجي، بقدر ما تسمح بتحديث التقليد وإلباسه لبوس الحداثة والدّيمقراطية.

ما هي إذن البداهات التي يتأسس عليها الخطاب الفقهي، والتي يجد لها أساسا في النص المؤسِّس "القـرآن"، الذي تعرض هو كذلك لتحديدات الأصوليين وأفهام الفقهاء؟ 

تذكير : المقال لا يعبر عن رأي الوكالة


https://taghribnews.com/vdccm1qsm2bqm48.caa2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز