تاريخ النشر2014 4 December ساعة 21:40
رقم : 175783

الخطاب الفقهي الإسلامي: بين لاهوتية التجديد وضرورة التفكيك- القسم الخامس -

تنا
لعلّ الثنائية التّي ما تزال تسكن كتابات المفكّرين العرب هي ثنائية الحداثة والتّقليد، مما أفرز خطابات ومواقف عدة يُمكن تقسيمها إلى أربع: تراث بلا حداثة، حداثة بلا تراث، أسلمة الحداثة، تحديث التراث.
محمد أوالطّاهر
محمد أوالطّاهر

كتبه: محمد أوالطّاهر

المبحث الثالث:
نحو أنسنة الخطاب الفقهي الإسلامي: انخراطا في مشروع الكونية
لعلّ الثنائية التّي ما تزال تسكن كتابات المفكّرين العرب هي ثنائية الحداثة والتّقليد، مما أفرز خطابات ومواقف عدة يُمكن تقسيمها إلى أربع: تراث بلا حداثة، حداثة بلا تراث، أسلمة الحداثة، تحديث التراث.

تجاوزاً لهذا التصور، يجب أن تكون عودتنا إلى التّراث الإسلامي عودةً ناقدة وتفكيكية أكثر منها تبجيلية ودفاعية، إنها عودة إلى التراث لكن ضدّا على هذا الأخير وليس حُبا فيه، وذلك في محاولة لانتشال التراث من التراث، وإقامة التقليد ضد التقليد هذا الأمر قد يُسعفنا في الإنخراط في مشروع الحداثة المعاصر مُتجاوزين بذلك التصوّرات الوضعانية والتاريخانية للدّين والحداثة معاً.

تَميّز محمد أركون بهذه الروح النقدية بعيدا عن التوجهات ذات النظرة التّبجيلية للثّرات، أو التي تتنكّر لهذا التراث وتدعو - عن وعي أو عن غير وعي- إلى تبنّي تراث آخر؛ إنه يرى صعوبة في " التخلص من ماضوية التراث أو رواسبه التي تشد إلى الأسفل أو إلى الوراء إلا إذا (تمّ الدخول) في معركة داخلية معه (...) يُضاف إلى ذلك أن التراث هو الحضن الدافئ والذاكرة الجماعية العميقة، ولا ينبغي الإستهتار به بأي شكل ولكن ينبغي إخضاعه للدراسة العلمية، وهذا أعظم احترام يُقدم إليه".

انخراطا في هذه الروح النقدية، ولأن الفقه الإسلامي يُشكل ركيزة أساسية من ركائز هذا التراث، لا يُمكن بأي حال من الأحوال استبعاده من دائرة الدراسة العلمية؛ ولعل نداء أركون للمسلمين في هذا الباب واضح. يقول:
"إني أود أن أقول للمسلمين ما يلي: لن تستطيعوا إلى الأبد تحاشي المُهمة العسيرة التالية، وأقصد بها تحليل النصوص التأسيسية على ضوء العلم المعاصر، بل وتفكيكها من الداخل بكل منهجية ودقة وأمانة علمية. وعندما أقول النصوص التأسيسية، فإني أقصد بها النصوص التي تؤسس القانون الديني: أي أصول الدين وأصول الفقه. فالقراءة التاريخية-النقدية لهذه النصوص أصبحت اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى. والتفكيك لا ينبغي أن يفهم بالمعنى السلبي هنا، بل هو ينطوي على عمل إيجابي كبير ومنقذ أو محرِّر. إن التفكيك يمثل المرحلة الأولى من أجل إعادة التقييم النقدي لجميع المسلمات المعرفية العميقة التي يتحصن بها العقل الإسلامي أو لا يزال يتحصن بها حتى الآن".

قد تُساهم الدعوة إلى تغيير جذري في علم أصول الفقه والإنتقال من مرحلة الإصلاح الترقيعي- التكيفي إلى مرحلة الإصلاح الجذري- التشاركي، في تحقيق عملية التجديد؛  إلا أنه - في نظرنا - لن يسمح بتحقيق دراسة تفكيكية نقدية، ذلك لأنه ما يزال قائما على البداهات اللاهوتية والثنائيات الميتافيزيقية الآنفة الذكر.

لذا نطرح في هذا الباب السؤال الآتي: لماذا قلما نجد من ينخرط من الفقهاء في مشروع تفكيك التراث الفقهي، بينما نجد أن جُلّ من يخوض غمار هذا التحدي هُم من الفلاسفة والسوسيولوجيين والأنثروبولوجيين؟ لعل الجواب عن هذا السؤال قد يسمح لنا بالوقوف على التصورات الفلسفية والبداهات الإبستمولوجية التي يعتمدها كل فريق.

إن مهمة أنسنة التراث الإسلامي عموما والتراث الفقهي على وجه الخصوص، عملية محفوفة بالمخاطر، إذ تحتاج إلى تضافر جهود الباحثين في مسائل لا تزال تحتاج إلى مزيد من الحفر الجنيالوجي، كي يتبين أصلها الأول لربما المتعدد والمتشتت، وليس المتطابق والوحيد !

من أجل تحقيق ذلك، يقتضي الأمر اتخاذ موقف فلسفي-إنساني مُنفتح ومُتعدد؛ فبعيدا عن القراءات السياسية والإيديولوجية للدّين، نحتاج إلى قراءات في "البعد المعرفي الفلسفي للدين الباني للأنساق والمُشَكل للرؤى في الوعي والفكر والتربية والثقافة والعلوم المتعلقة بالنفس والمجتمع والكون المحيط؛ فهذه قراءة لم تنجز بعد أو أنجز فيها القليل، وما تزال بحاجة إلى المزيد."

١.٣.  في لا مفكّر النص: محاولة لتجاوز ميتافيزيقا اللاّهوت
إنّ الحديث عن لا مفكّر النص هو حديث عن إمكانات تم إقبارها تاريخيا على حساب قراءات أخرى خَدمت سلطة ما، في زمن ما، ولغاية محدّدة؛ إنّه – على حد تعبير محمد عابد الجابري – 'الإمكان التاريخي'، أي "الإمكان الذي يجعلنا نتعرّف على ما يمكن أن يقوله النص وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله ولكن سكت عنه".

انطلاقا من هذا التصور الفلسفي المعاصر، يُمكن تجاوز التصورات التاريخانية والوضعانية التي تحصر إمكانات النص في لحظته التاريخية، وتعتبر النصوص الدينية نصوصا قد استنفدت إمكانياتها ولم تعد قابلة للقراءة والتأويل؛ إلا أن عملية الإنخراط في روح الفلسفة المعاصرة قد يُسعفنا في
التصالح مع تراثنا وإعادة النظر في إمكاناته وحدوده.

في هذا الإطار، نُساءل التصور الذي يرى في التاريخانية - أي إعطاء أهمية كبرى للسياق التاريخي لنصوص الوحي- ترياقا مُضادا ناجعا في التصدي للسلفية النصوصية ولإصلاح الفقه الإسلامي؛ هذا مع إمكانية تدارك هذا التصور من خلال ما أسماه محمد فاضل بـ"التاريخانية الهيرمينوطيقية"، التي يرى أنها كفيلة لخلخلة التفسيرات الأحادية لمعنى النص وتوليد تفسيرات جديدة وقراءات بديلة له.

لعل إعادة النظر في الإمكانات المسكوت عنها بخصوص المناهج الفقهية القديمة قد يسمح بقراءات منفتحة ومتعددة؛  حيث إن ربط "التاريخانية الهيرمينوطيقية" - على سبيل المثال- بالمفهوم الفقهي التقليدي "تخصيص العموم"، قد يسمح بتوسيع دلالات هذا الأخير، ومن تَمّ  قبوله من داخل الخطاب الفقهي نفسه؛ من هنا ضرورة الأخذ بعين الإعتبار الأدوات التفسيرية الموجودة في التقليد الفقهي لكن من منظور فلسفي بعيدا عن التصورات اللاهوتية والميتافيزيقية.

من المُمكن إذن تحيين باقي المفاهيم الأصولية في علاقة النص بالواقع وتوسيع دلالتها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة...إلخ.

تحدثنا فيما سبق عن الخطابات الفقهية التي احتكرت قضية المرأة، إلا أن ثمة مع ذلك خطابات فقهية مخالفة تم إجهاضها منذ بداياتها. نجد مثلا فقهاء آخرين كالطراز والباقلاني مَن يرون أن للنساء نفس الصفات التي للرجال في القيام بأعباء المناصب العامة بما في ذلك منصب الخليفة؛ إلا أن الإشكال كان قائما آنذاك على مستوى التطبيق الواقعي لتلك المسألة في بغداد خلال القرن العاشر الميلادي، على الرغم من كونها مُمكنةً نظريا لدى أولئك الفقهاء، ولا غرابة أن نجد في عصرنا الحالي خطابات تجعل هذه المسألة مستحيلة نظريا على الرغم من كون تطبيقها الواقعي أصبح ممكنا في عالم  استطاعت فيه المرأة  أن تُنافس الرجل في جميع المجالات إن لم تتفوق عليه في الكثير منها.

لعل النتيجة التي يمكن أن نَخرج بها في هذا الإطار، هي اعتبار الباقلاني مثلا كان أكثر حداثة من بعض الفقهاء المعاصرين، ذلك لأنه أعطى إمكانيةً لنظريةٍ كانت عمليا مستحيلة، بينما نجد العكس تماما لدى الفقهاء المعاصرين خاصة ذوي التوجه الحرفي- السلفي منهم (السلفية-النصوصية). ههنا وجه من أوجه المسكوت عنه في الفقه الإسلامي ذاته، الذي يُمكن من خلاله مناقشة الخطابات الفقهية التقليدية بخصوص قضية المرأة في بعض البلدان الإسلامية كالسعودية مثلا أو إيران: إنها استراتيجية التقليد ضد التقليد في أفق الحداثة التي ليست سوى توسيعا لرحبة الوجود الإنساني.

إن الوقوف عند الإمكانات الفقهية التي لم يُسمح لها بالتحقق تاريخيا، يدل على مرونة العقل الفقهيّ الإسلامي بالرغم من الإستثمار السياسي والإيديولوجي الذي لحقه، ولعل مبدأ "رعاية المصلحة" دليل على البعد الإنساني للمسكوت عنه فقهيا، حيث نجد العالم الحنبلي نجم الدين الطوفي الذي عاش في القرن الثامن الهجري من أبرز القائلين به، ويقتضي هذا المبدأ بأنّه " إذا تعارض النّص والمصلحة في غير الاعتقادات والعبادات قُدّمت المصلحة على النّص."

نذكر في هذا الباب مُجدّد أصول الفقه أبو إسحاق الشاطبي، من خلال فكرة "المقاصد الشرعية"، التي استطاع بواسطتها تجاوز التصور الفقهي السابق عليه في علاقة النص بالواقع، حيث جعل "الوحي منطقا قصديّا"، واقترح بدلا من النظرية الصورية للغة نظرية تداولية تتجذر في الغايات العامة والمقاصد الكلية.

نُشير كذلك إلى مسألة أخرى بخصوص ما سُميّ بعلوم القرآن، حيث نجد كيف أن فكرة الرازي حول "النسخ بالعقل" لم تشهد تطورا في هذا الحقل المعرفي، وذلك راجع إلى التحديد النهائي لمجال الناسخ والمنسوخ لدى الجمهور، حيث يرون أن النسخ لا يكون بالعقل، لأن موضوع النسخ قد تحددت معالمه من قبل الفقهاء ولا يمكن المس بها. كما نجد كيف أن نظرية "ذهاب المحل" – بخصوص الأحكام التي لم تعد قائمة: الرق، الخلافة، الإماء، العقوبات البدنية...إلخ.- لم تشهد تطورا داخل الخطاب الفقهي الذي ما يزال حبيس التصور اللاهوتي للمسألة، وذلك راجع في نظرنا إلى الأبعاد السياسية والإيديولوجية التي احتكرت الحقل المعرفي الفقهي.

إن اعتبار مثل هذه الآراء شذوذا واستثناءا من لدن جل الفقهاء، دليل على حضور السلطة ليس فقط في فرض تصور معين، بل كذلك في إقبار الآراء الأخرى التي يمكن أن تُزحزح التصور المُهيمن عن مكانه. من هنا نؤكد على أن ما يُسمّى بالإستثناء ليس هو الهامش في مقابل الأصل والقاعدة، بل إنه في حقيقة الأمر الأصل والقاعدة في تصدعهما وتشظيهما؛ بعبارة أخرى، هو إمكان آخر من إمكانات الأصل والنموذج المعياري المُهيمن.

هذا التمييز بين مستويين من الإستثناء هو الفارق بين عملية تجديد الخطاب الفقهي التي ترى في الإستثناء شذوذا وعملية تفكيك الخطاب الفقهي التي تراه إمكانا آخر؛ من هنا إلحاحنا الكبير على ضرورة تجاوز مقولة تجديد الخطاب الفقهي والإنخراط في عملية تفكيك
هذا الخطاب على جميع المستويات.

يُمكن الوقوف على هذه المسائل، من خلال الفقه المقارن نفسه، والذي يسمح بالتدافع بين المنتمين إلى نفس الحقل المعرفي، وكذا التعرف على "مدى ما بين المذاهب والآراء من اتفاق واختلاف، (وعلى) منشأ اختلاف الأئمة والعلماء". هذا التنوع والإختلاف قد يُصيب الفقيه بنوع من الالتباس والغموض في الفهم والإدراك، إلا أنه قد يُسعفنا في تطوير فقه التنوع والتعدد داخل التراث الفقهي الإسلامي نفسه.

كثيرا ما يستشهد بعض الدعاة والوعاظ بأقوال الغربيين حول الإسلام، إلا أن الإشكال قائم في عدم فهمهم لمُراد القائل، إذ إن أغلب أقوال الغربيين عن مزايا الإسلام هي في نظرنا قراءة للمسكوت عنه في التراث الإسلامي، وليس تمجيدا للخطاب الأحادي والإقصائي الذي يظن أغلب من يستشهد بهذه الأقوال أنه المقصد والمُراد.

نُورد هنا شهادة الكونت "ليون استروروغ" التي ضمنها إحدى محاضراته التي كان يلقيها في جامعة لندن، وهو يتحدث عن الجهود الجبارة التي قام بها العلماء المسلمين، والتي نعتقد أنها شهادة ضد التصور الأحادي واللاهوتي للإسلام ودفاع عن التصور الإنساني والكوني لهذا الأخير. يقول:

 "إنّ بعض هذه النظريّات لا تستدعي الإعجاب فحسب، ولكنّها تثير الدهشة. فقد توصّل هؤلاء العلماء الشرقيّون الذين عاشوا في القرن التّاسع بالاستناد إلى مبادئهم الكلاميّة إلى النّص على حقوق الإنسان، بما تشتمل عليه من الحقوق المتعلّقة بالحريّة الفرديّة، وحصانة الشخصيّة والملكيّة، ووصفوا السّلطة العليا أو الخلافة بأنّها مبنيّة على التعاقد... وضعوا قانونا للحرب يحوي من التعاليم الإنسانيّة النبيلة ما يمكن لمقاتلي الحرب العالمية الأولى أن يحمرّوا تجاهه خجلا، واعتمدوا مبادئ التسامح تجاه غير المسلمين لم يعتمد غربنا ما يماثلها إلاّ بعد ألف عام. "

على هذا الأساس، يَجدر بالفقهاء المعاصرين الخروج من دائرة البراديغم الفقهي القديم الذي تُوعَز فيه المقاصد إلى الشّارع، لتُسند صراحة إلى الإنسان، الذي أصبح المقصد الأسمى لمقاصد الشريعة، ليتم بذلك ولوج رحاب البراديغم الإنساني المعاصر: براديغم الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

كيف إذن يمكن الإنخراط في رحاب هذه الروح الجديدة من خلال مقاربة إشكالية الترجمة في علاقتها باللغة؟

٢.٣. التّرجمة وسؤال اللغة: نقطة بدء في عملية تفكيك الخطاب الفقهي
يكتسي الحديث عن إشكالية التّرجمة في الفكر المعاصر مكانة كبرى لما له من إفرازات سواء على المستوى الفلسفي والديني والسياسي. هذه الإفرازات تسمح بكشف الأبعاد المتخفية واللاشعورية في الفكر واللغة والسياسة؛ بعبارة أخرى، سؤال الترجمة هو سؤال المسؤولية الفكرية والسياسية، " يتوقف مستقبل الأمة عليه. "

إن انخراطنا في طرح هذا الإشكال هو انخراط فلسفي بالأساس، حيث سنحاول مقاربة التصوّر اللاّهوتي لفعل الترجمة، وكيف أن الفكر المعاصر بفلسفته التفكيكية والبنيوية والبنائية قد ساهم في تبيان جِدّة الترجمة في علاقتها بالفلسفة، حيث نُظر إليها – كما يقول عبد السلام بن عبد العالي-  كاستراتيجية لتوليد الفوارق وإقحام الآخر في الذّات: إنها تأويل بالمعنى الهايدغري (مارتن هايدغر) وتحويل بالمعنى الدريدري (جاك دريدا).

قد تُسعفنا مقاربة إشكالية ترجمة النص القرآني على سبيل المثال، في تبيان بعض أوجه التصور اللاهوتي والتيولوجي لمفردات: المقدس، اللغة، الوحي، الحقيقة، الأصل، وذلك عن طريق تحليل فلسفي قوامه: تجاوز التقابلات الميتافيزيقية، تفكيك الأصول، أنسنة المقدس، تقويض الحقيقة والوقوف على البداهات.

ليس موضوع الترجمة طرفا فكرا أو سؤالا تقنيا، بل إنه أصبح يَفرض راهنيته من خلال ارتباطه بالظهور الملحوظ للجالية المسلمة بالديار الأوربية والنقاشات الحاصلة بخصوص هذا الحضور في الثقافة الغربية والفرنسية على وجه الخصوص؛ إذ إن دخول غير المسلمين إلى الإسلام يطرح إشكالات عدة  ذات بعد ثقافي ولغوي بالأساس، حتى إن البعد السياسي والإيديولوجي حاضر بحدة في النقاشات الراهنة.

لعل السؤال المطروح على مفكرينا بهذا الخصوص، هو تبيان إلى أي حد يمكن تفعيل المنظومة الفلسفية في مجال الترجمة (الترجمة كفعل مرجأ، الترجمة كتأويل، الترجمة ككاشف عن لا مفكر النص، الترجمة كمسؤولية سياسية، الترجمة كفعل مصيري، الترجمة كغنى للنص) في دراسة الأعمال الترجمية للنص القرآني والكشف عن الأبعاد الثقافية والإيديولوجية لهذه الترجمات، وكيف أن البعد الميتافيزيقي واللاهوتي ما يزال حاضرا في مقاربة هذا الإشكال بخصوص النص القرآني سواء على مستوى الدراسات الفقهية أو الترجمات اللاهوتية ؟

إن سؤال الترجمة مرتبط ماهويا بسؤال اللغة، هذا السؤال الذي ميّز الفلسفة المعاصرة التي على رأسها الفيلسوف الألماني هايدغر، والذي يعتبر اللغة مأوى للوجود وليس فقط وسيلة للتواصل والتحاور؛ الشيء الذي يؤكد على أهمية سؤال اللغة في مقاربة الظاهرة الدينية.

تُعتبر الهرمينوطيقا في هذا الإطار "نشاط يهدف إلى فهم وتفسير وترجمة، والبحث عن المعاني المتشظية في النصوص والكشف عن أبعادها الأنطولوجية، والمعرفية، والجمالية في النصوص الدينية." إن غايتها - على حد قول شلايرماخر – هي "تجنب سوء الفهم"، إذ إن قوامها هو الفهم الذي تنصهر فيه آفاق الماضي والحاضر على حد تعبير غادامير.

لعل استنتاجات
دوسوسير من خلال دراساته الألسنية التي وقفت عند الأبعاد السلطوية والإيديولوجية للغة، قد تسعفنا في إعادة النظر في المقولات الفقهية بخصوص اللغة العربية: مقولة اللغة المقدسة، لغة الجنة، لغة حيادية؛ وخير مثال يدعو إلى اتخاذ هذا الموقف النقدي هو التراتبية الهرمية بين التأنيث والتذكير في اللغة العربية وفي أغلب اللغات الأخرى من خلال أفضلية المُذكر على المُؤنث.

لقد كان القول ببشرية اللغة مُنعطفا قويا في فهم النصوص الدينية، فقد "اكتشف العلماء بالمناهج التجريبية أن اللغات المقدسة المزعومة لم تكن ذات عراقة أزلية ولا أصول ربانية، وهكذا فإن ما يسميه 'فوكو' 'اكتشاف اللغة' كان حدثا علمانيا أزاح التصور الديني عن قيام الرب بتسليم اللغة للإنسان في جنة عدن وحل محله".

 في هذا الإطار، لا يزال الخطاب الفقهي ميتافيزيقيا من خلال حديثه عن بداهة كون اللغة العربية لغة مقدسة ولغة أهل الجنة وغيرها من البداهات التي يحتاج البحث النقدي إلى تفكيكها كما بَينّا آنفا، خاصة فيما يترتب عليها من أحكام وتشريعات. هكذا يمكن الحديث عن تاريخية اللغة، من حيث إن للمفاهيم بُعدها الإجتماعي وقوتها السيكولوجية بل وعمقها الوجودي، ولعل الترجمة هي محاولة لكشف الأبعاد المتخفية للنصوص أياًّ كان جنسها.

بهذا المعنى، تكون عملية تحويل "الحركة الدلاليّة للنص الديني من نصّ حامل للمعنى ومولّد له إلى نصّ شاهد على معنى جاهز ومقنن؛ أي من نص يُفصح للقارئ بمعناه ومقاصده المكنوزة إلى قارئ يملي على النص معناه المبرمج مسبقًا في فكره".، دالة على إرادة السلطة والهيمنة التي طالت النصوص الدينية عموما عبر التاريخ من خلال النظرة الأحادية للدين.

من الممكن - انطلاقا من التصور المعاصر- تجاوز الصراعات القائمة بين بعض المستشرقين الذين يُؤكدون تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني تأثر التبعية، وبعض الفقهاء المسلمين الذين ينفون ذلك ويؤكدون على أصالة الفقه الإسلامي وطهرانيته واستقلاليته. هذين التصورين الميتافيزيقيين في نظرنا، يَحُولان دون تحقيق غاية الفهم، إذ إن مسألة التأثر ما تزال حبيسة التصور الثنائي الذي يرسم حدودا بين الذّات والآخر، بينما الترجمة هي القول بأن الذات هي الآخر في اختلافه، وأن امتلاك لغة وحضارة الآخر هي امتلاك وتحقيق لإمكان من إمكانات الذات.

لا بد، في هذا الإطار، تجاوز التصور اللاهوتي للترجمة الذي سقط فيه طه عبد الرحمن من خلال تصورهِ استحالةَ ترجمةِ القول الديني في معرض حديثه عن ثنائية القول الثقيل والقول الخفيف، إلا أن الإستحالة في هذا الباب ذات بعد قيمي من خلال اعتبار الترجمة خيانة للمعنى؛ بينما مسألة الإستحالة في عمقها الفلسفي لا تعني الخيانة وعدم الوفاء، بل تعني التعدد والإختلاف والإبداع، أي إن القول بكون ترجمة النص القرآني مُستحيلة  Intraduisibleيعني أننا لا نفتئ نترجمه، أي نُترجمه إلى ما لا نهاية Infiniment traduisible، وأن ترجمته هي دائما فعلٌ مُرجأ.

إن ترجمة قضية المرأة مثلا تطرح عدة إشكالات فقهية بل وأحيانا سياسية، وخير مثال نطرحه في هذا الباب، هو مسألة "ضرب المرأة"، وكيف أن معظم الترجمات الفرنسية للآية ٣٤ من سورة النساء "فاضربوهن" تحيّزت إلى معنى الضّرب المادي: Frappez-les, Corriger-les، بينما تبين لنا من خلال تقصّي دلالات فعل "ضرب" في اللغة العربية، مدى التعدد الدلالي إلى حد أن ابن منظور في لسان العرب خصّص ما يقارب العشر صفحات للوقوف على سياقات استعمال هذا الفعل، ومن بين الدلالات التي وقفنا عندها: ترك، تشاور، منع، حاور، أعطى.

في هذا الإطار، نقترح إعادة قراءة الآيات والأحاديث الواردة بخصوص ضرب الزوجة، على ضوء سياقها الداخلي-اللغوي وليس على ضوء سياقها التاريخي. إن الآية "فاضربوهن" متعددة الدلالات في اللغة العربية، ليس فقط من خلال المعاجم العربية، بل داخل النسق القرآني نفسه؛ ومن بين دلالاتها المعجمية نجد الحوار والتشاور، مما يستوجب علينا استلهام هذه الإمكانية من إمكانيات اللغة في عصر سمته الكرامة والمساواة وحقوق الإنسان. أما بخصوص الأحاديث النبوية، فثمة إمكانية ربطها بنسقها الداخلي الذي أساسه التربية الروحية، حيث إن القول النبوي "خياركم لا يضربون"، دليل على أن أحاديث الضرب أحاديث مؤقتة لأن الغاية هي تربية الروح وتنقية النفس من الشهوات والهوى وحب السلطة.

إذا كان في إمكان الترجمة أن تجعل النص القرآني قابلا للحياة من جديد في سياقات ثقافية مغايرة، فكيف يتدخل البعد السياسي والايديولوجي ليُوقف هذه النشأة الجديدة باسم الهوية واللغة والأصل والثوابت؟ وذلك من خلال عملية التصنيف والمصادقة على الترجمات المدعاة "أمينة وصائبة"، أي ما يمكن تسميته بـ"الوصاية العلمية اللاهوتية"؛ والتي تقوم بها بعض الهيئات لإقصاء الترجمات الخائنة للمعنى واحتواء الترجمات التي تعتبرها حسب مقاييسها أمينة وقريبة للمعنى القرآني الحقيقي والأول !

من هنا يتضح لنا أن الترجمة ليست فقط نقلا من لغة إلى أخرى، بل إنها فعل التفلسف بامتياز، إذ ليس الأساس البحث عن مرادف كلمة ما في لغة أخرى، بل إن الهدف هو تفكيك نظام السلطة الذي يسكن اللغة ويحاول الحد من غناها وتعددها بل وإنسانيتها التي تتجاوز المحلي لتعانق الكوني.

استنادا لما سبق، ما دور سؤال الحاضر إذن في بلورة هذا البعد الكوني من خلال إعادة التصالح مع ذواتنا وتوسيع أفق هويتنا ؟
https://taghribnews.com/vdcaamn6e49n001.zkk4.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز