تاريخ النشر2016 11 December ساعة 15:16
رقم : 253166

التحصين الخُلُقي من مرجعيّة الدين في مواجهة العولمة

تنا-بيروت
تعمل العولمة/الأمركة على نسخ الهويّات الوطنيّة والقوميّة للشعوب وتدعو إلى الأممية، والردّ على كلّ ذلك يكون بالتزام الهويّة من قبل شعب كلّ أمّة، ويكون بأن تتمّ تنشئة الأجيال على المواطنة التي تشكّل الحصن الحصين لكلّ أمّة.
التحصين الخُلُقي من مرجعيّة الدين في مواجهة العولمة
أ.د. أسعد السحمراني
تمهيد: شهد العالم بعد العام (1990) انهيار المنظومة الشيوعية سياسياً، بعد تفكك الاتّحاد السوفياتي السابق، فوجدت الولايات المتحدة الأمريكية سانحة دفعتها إلى السعي للأُحاديّة القطبيّة، والانفراد بقيادة العالم، ولهذه الغاية سوّقت لما أسمته: "النظام العالمي الجديد"، وما لبثت إلاّ قليلاً حتّى طرحت "العولمة" بديلاً.

والعولمة غير العالمية، وهي مصطلح معاصر، فلا تزال بلا تحديد وبلا تعريف، وقد تركها الأمريكي ملتبسة ليلصق بها ما يريد انطلاقاً من واقع يكون حراكه فيه، وما يمكن قوله: إنّ العولمة هيمنة واختراق لمنظومات الآخرين الثقافية والقيمية، لا بل هي غزو واختراق هدفه تنميط العالم كلّه وفق ما عليه الولايات المتّحدة الأمريكية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولهذا يصحّ القول: العولمة/الأمركة.

وقد اتّكأ دعاة العولمة/الأمركة على ما حصل من تقدّم في وسائل الاتّصال وتقنيات البثّ ونقل الصورة والخطاب الكلامي، فزعموا قائلين: لقد بات العالم قرية كونيّة. وهذا كلام لا صدقية له، فالعالم هو العالم، وهو كما جعله الخالق سبحانه يتوزّع في شعوب وأمم، ولكلّ اجتماع بشري لغته وتراثه وتاريخه، وسماته الخاصّة، وهويته الثقافية، وهذه كلها لن تبدل تقنيات العصر منها، والواقع يؤكّد ذلك حيث اتّجه الإنسان مستطلعاً وباحثاً. وما مقولة (القرية الكونية) إلاّ حالة تسويق لأطماع الولايات المتّحدة الأمريكية التي تطمع في السيطرة على العالم كلّه، والانفراد بقيادته.

والتنوّع هو الأصل؛ وقد قال الله تعالى: ﴿يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير.﴾ (سورة الحجرات، الآية 13).
وقال تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين.﴾ (سورة الروم، الآية 22).

الأخلاق ضرورة إنسانية:
المجتمع البشري كي تنتظم علاقات أبنائه محتاج لمنظومة قيمية خلقية يلتزمها الجميع في تكوين مجتمع معيّن يكون على شكل أسرة، أو عائلة مركّبة، أو قرية، أو مدينة، أو وطن أمّة معيّنة، لأنّ هذه المنظومة تحدّد المعايير التي يحتكمون إليها كي يتحقّق العدل وتستقرّ العلاقات بينهم، وإلا يكون  الخراب.

لذلك كان علم الأخلاق (morale) حاجة عند كلّ الشعوب، وتليه عمليّة صقل شخصيّات أبناء المجتمع (moralization) (moralism)، وبشكلٍ خاصّ الناشئة.

وإنّ المنظومة الأخلاقيّة التي تحصّن الجيل هي تلك التي من مرجعيّة الدين؛ أي: من رسالات السماء الخالدة (الإسلام والمسيحية) لأنّ ما هو من عند الله تعالى فيه صلاح البشر وسبيل نجاتهم، وما تصوغه أقلام البشر –مهما ارتقى- ستبقى فيه نوازع من الهوى والمصلحة.

تأسيساً على ما تقدّم تكون الأمم محتاجة، كي تعصم أجيالها من مفاسد العولمة/الأمركة، إلى قيم الدين، أمّا الاستسلام للعولمة/الأمركة فإنّ نتائجه بادية للعيان من الشراكة مع الصهيونية في اغتصاب فلسطين وتهويد المقدّسات والتراث،وما هو هابط من الفنون والآداب والعادات وأنماط السلوك تحت شعار العولمة.

من مرجعيّة الدين والحفاظ على الشخصية الوطنية لكل أمة، واحتراماً للإنسان كرامة وحرية وحقوقاً، يكون الصحيح أن يقال: نعم للعالمية، لا للعولمة/الأمركة.

ما تحدّيات العولمة؟
يعتبر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما أحد أبرز المنظرين للعولمة حيث يعتبر أنّ الشعوب والأمم لا سبيل لها من أجل الارتقاء الحضاري سوى أن تعتمد المنهج العولمي الأمريكي، لأنّ مسار التاريخ رست سفنه عند الشاطئ الأمريكي، ولهذا استعمل عنواناً لكتابه هو: (نهاية التاريخ).

وهو لذلك قد وجه سهامه ضد الاسلام والمسيحية واعتبرهم غير قادرين على توفير الحرية للشعوب، وبذلك أفصح فوكوياما عن خفايا النفس العولمية التي تريد ضرب الهوية للمسلم والمسيحي، وتريد من المتديّن أن يتجرّد من قيم الدين وأخلاقياته من خلال اللائكيّة (laïque) أو ما يسمونها العلمانية، والصحيح أنّها اللادينية(irréligion).
وها هو فوكوياما يصرّح بلا خجل قائلاً: "فالواضح أنّه بات ممكناً اختراق العالم الإسلامي – على المدى الطويل- بالأفكار التحرّرية."[1]
منظّر آخر للعولمة يرى إنّ العولمة لا تبالي بما هو تطرّف وحالات من الغلوّ، بل يعادون الإسلام بما يدعون إليه بكلّ تجليّاته لأنّه يشكّل سدوداً منيعة ضدّ اختراقاتهم، وقد قال داعية العولمة الأمريكي صامويل هنتنجتون: "المشكلة المهمّة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام."[2]

أبعد هذا الكلام شكّ في حجم تحدّيات العولمة على الهويات الثقافية للشعوب والأمم؟ وبعد هذا الكلام هل يشك أحد بفئوية دعاة العولمة وتعصّبهم، ورفضهم للآخر، وسعيهم للفعل الإلغائي؟

لقد استفزت عولمتهم حتّى الأوروبيين، وها هو (فيدرين) وزير خارجيّة فرنسا الأسبق يعلن السبب في رفض العولمة قائلاً: "ما هو إذاً هدفنا الحقيقي؟ إنّه المحافظة على الهويات الثقافية في العالم أجمع، وبالتالي على تنوّع هذا العالم. يقلق الأمريكيون من قيام حالات الاحتكار عندما تفسد المنافسة في سوقهم الداخلي، كما حصل مع شركة ميكروسوفت، والحال إنّ الولايات المتّحدة في صدد التحوّل، على صعيد الصناعات الثقافية الجماهيرية، إلى ميكروسوفت على المستوى العالمي.

خطوات التحصين من العولمة:
1- يشكّل الإيمان الديني المقرون بالتديّن البعيد من العصبيات الرديئة، والمقرون بالأخلاق الأساس، لذلك يكون واجب القائمين بمهام الدعوة الدينية، أن يكون خطابهم ذاخراً بالتوجيه إلى القيم الأخلاقيّة، من هنا نرى إنّ الأمر يقتضي تشكيل جبهة إسلاميّة –مسيحية على المستوى العالمي يؤسّس لها حوار إيجابي لصياغة مشروع تربوي يعتمد القيم المشتركة.

2- استنباط المنظومة القيمية الخلقية من مرجعيّة النصّ الديني السليم،لتكون الدليل السلوكي باتّجاه تزكية النفس وتساميها.

3- إنّ دعاة العولمة/الأمركة يعتمدون حقّ القوّة ليملوا إرادتهم على الأمم والشعوب، والمقاومة من قبل المؤمنين والأحرار تكون باستخدام منهج قوّة الحقّ،  الذي له النصر النهائي والحاسم في كلّ الميادين والساحات.

4- تعمل العولمة/الأمركة على نسخ الهويّات الوطنيّة والقوميّة للشعوب وتدعو إلى الأممية، والردّ على كلّ ذلك يكون بالتزام الهويّة من قبل شعب كلّ أمّة، ويكون بأن تتمّ تنشئة الأجيال على المواطنة التي تشكّل الحصن الحصين لكلّ أمّة.

هذا التمسّك بالمواطنة مطلوب من كلّ إنسان، ولا يتعارض مع الإسلام، ولا هو متعارض مع المسيحيّة، ولا مع سواهما، فالانتماء الديني إنّما هو لعقيدة وشريعة، والانتماء الوطني هو انتماء اجتماعي لقوم الشخص، والمواطنة أساسها قبول التعدّدية والتنوّع، والعولمة/الأمركة تعمل لأُحاديّة إلغائيّة لكلّ آخر.

5- يعمل العولميون المتأمركون على نشر ثقافة اقتصاديّة عمادها فلسفة "الاستهلاك"، وفيها إغراءات تجذب غير المحصّنين إلى الإنفاق الاستهلاكي الذي يبدّد الثروات، والاقتصاد السليم هو ذلك الذي يكون التخطيط فيه على مستوى الفرد والأسرة، أو الدول والحكومات، قائماً على اعتماد الإنفاق الإنتاجي.كذلك الاستثمار في التعليم.

6- يوظّف دعاة العولمة/الأمركة أموالاً طائلة في الإعلام والإعلان، ويستخدمون نماذج من الفنون الهابطة التي تحرّك الغرائز.
ومقاومة هذا المسار العولمي تكون من خلال الإنتاج الأدبي والفنّي والإعلاني الذي يلتزم الضوابط الخلقية المستمدّة من مرجعيّة الدين، لأنّ ذلك يحفظ الكرامة الإنسانيّة، ويخاطب الذوق الفنّي الراقي والرفيع.

7- إنّ مقاومة التداعيات الناتجة من نشاط العولميين والمنبهرين بالأمركة،تتطلّب بياناً واضحاً يؤسّس لمشروع حضاري له ثوابته في الإيمان الديني، وفي الفكر، والأدب، والتربية، والفنون، والتقاليد، والأزياء، والعادات المعتمدة في المناسبات الاجتماعيّة؛ وكلّ ذلك تعين فيه قناعة هي: إنّ الخصائص الخاصّة للهويّة الثقافيّة ثوابت لا تتبدّل مع المكان والزمان.

8- تلقي العولمة/الأمركة أدرانها على الأمم كافّة، كما أنّها تطمع بالسيطرة على العالم بكلّ مكوّناته، ولهذه الغاية جنّدت قواها العسكريّة لغزو كلّ منطقة في العالم، لذلك تكون مقاومة العولمة/الأمركة مهمة وواجباً على كلّ الأحرار في العالم لأيّ وطن انتسبوا، ولأيّ دين أو معتقد تبعوا وآمنوا به.

خاتمة:
هذه هي العولمة/الأمركة التي تدّعي الحضارة، وما عندها قشرة الحضارة، والتي تدّعي الحفاظ على حقوق الإنسان، وكلّ ما تقوم به استباحة لكرامة الإنسان وحقوقه، فرداً أو مجتمعاً.
ولا سفينة نجاة إلاّ بسلاح الإيمان بلا تعصّب، والتديّن بلا تمذهب وتطيّف، وبالأخلاق الراقية حصناً لإنقاذ العالم كلّه من العولمة. والواجب أن تكون قيم الأخلاق المستمدّة من المرجعيّة الدينية منبثّة بقوّة في المناهج التربويّة، وفي مفردات الخطاب الديني، وفي توجيه الوالدين والأهل ضمن الأسرة.
 
[1]فرانسيس فوكوياما، م.س.، ص62.
[2]صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، ترجمة طلعت شايب، تقديم د. صلاح قنصوه، القاهرة، دار سطور، سنة 1998، ص245.
https://taghribnews.com/vdcce1qie2bqps8.caa2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز