أثار حضور تيريزا ماي قمة مجلس التعاون الخليجي الأسئلة حول الاهتمام البريطاني بالمنطقة، ودور المملكة المتحدة المقبل مع فتور العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية في الآونة الأخيرة. كما طُرحت أسئلة عن خلفيات هذا الاهتمام وسر تثبيت "شراكة استراتيجية" مع الخليجيين، كما أعلنت ماي من البحرين .
شارک :
خليل كوثراني – صحيفة الأخبار
أنْ نشاهد عكس الصورة في الصخير، أي أن ينتصب قيادي خليجي متوسطاً لقطة تذكارية لقادة الاتحاد الأوروبي، مثلاً، لهو ضرب من ضروب الخيال، بلا أدنى شك، لكن، من يبالي بهذه المفارقة؟ المهم في منطقتنا قراءة مشهد مماثل بأبعاد أكثر واقعية، وخاصة بعد التسليم بحقيقة أنظمة تبدو في مناسبات مماثلة على شاكلة تجمّع شركات مصرفية عملاقة، لا دول مستقلة بهموم أمن قومي وتنمية مستقبلية، كأنها شركات تؤدي غاية الودّ وهي تستدرج زبائنها إلى عروض ضخمة.
لم تعد بريطانيا رسمياً عضواً في الاتحاد المذكور؛ ولواقع الجزيرة الإنكليزية المستجد علاقة مباشرة بالحضور اللافت في قمة مجلس التعاون الخليجي هذا العام، تحديداً، وتكثيف هذا الحضور في منطقتنا بصورة أعمّ، بجانب أسباب أخرى… فلماذا البريطانيون، ولم الآن؟
لنعد إلى "البريكست". عشية الاستفتاء التاريخي، ومعه وغداته، حينما كثرت التحليلات حول خيار خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وتكثفت النقاشات بشأن كيفية تعاطي البريطانيين بعد الترجل من القطار الأوروبي مع ملفي الاقتصاد والسياسة الخارجية، الشديدي الارتباط.
قلة قليلة خرجت لتتحدث عن شبه إجماع على ترجيح انكفاء لندن إلى الداخل، والاقتصار على إبقاء الاعتماد بنسبة كبيرة على التعاون الاقتصادي مع الجار الأوروبي، وشاهدُ مرجحي الانكفاء "المشاغبة" البريطانية المعهودة على الاتحاد، ولا سيما على صعيد قضية اليورو، بمعنى أن الكثير لن يتغير في هذا الملف، لكن المخالفين لهذه التوقعات، استندوا في تنبؤهم بعودة بريطانية قوية إلى الساحة الدولية، إلى قراءة الخروج من الاتحاد على أنه عودة إلى حقبة الخمسينيات، يوم كانت المملكة لا تزال محتفظة بدورها التوسعي.
الإثنين الماضي، حسمت لندن هذا الجدل، وأعلنت بوضوح أن التوصل إلى اتفاق بشأن التجارة الحرة مع الخليجيين سيكون "أهم قرار تتخذه بريطانيا بعد قرار الانسحاب من الاتحاد البريطاني". كذلك شرح بيان رئاسة الحكومة، قبيل توجه رئيستها تيريزا ماي إلى قمة مجلس التعاون، كيف أن «منطقة الخليج (الفارسي) هي أكبر مستثمر في بريطانيا، وثاني أكبر مستورد غير أوروبي للصادرات البريطانية، ما يجعل دول الخليج في وضع يسمح للجانبين بتوسيع علاقاتهما الاقتصادية والتجارية".
كشف البيان عن أن لندن ستتخذ عدة مبادرات وزيارات إلى دول الخليج الفارسي خلال الأشهر المقبلة، من أجل تهيئة الأرضية لدفع العلاقات الاقتصادية في المستقبل إلى مستويات أعلى، وحددت للشركات البريطانية فرصاً ومشاريع استثمارية مهمة في دول الخليج (الفارسي)، تشمل 15 قطاعاً، بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني على امتداد خمسة أعوام.
والتمهيد لزيارة ماي إلى الخليج (الفارسي) لم يقتصر على البيان المذكور. فوزير الخارجية بوريس جونسون، استبق «القمة الخليجية ــ البريطانية» بتصريح استرضائي للسعوديين، قال فيه إن «الرياض لم تتجاوز الخط الأحمر في اليمن»، وإن بلاده «لا ترى في الغارات التي يشنها الطيران السعودي خطراً واضحاً يهدد بانتهاك حقوق الإنسان».
ذهب جونسون أبعد من ذلك في حديثه إلى قناة «بي بي سي»، نافياً وجود هذا التهديد في ظل بيع بريطانيا أسلحة للسعودية، بل شدد على «تمسك بريطانيا بدعم السعودية»، مع أنه ينقلب بهذه التصريحات على مواقف سلفه، فيليب هاموند، الذي اتهم السعودية ــ في غير مناسبة ــ بخرق القانون الدولي واستهداف المدنيين في اليمن.
أما رئيسة الوزراء، فور وصولها إلى البحرين، فتوجهت إلى زيارة جنودها في قاعدة ميناء خليفة بن سلمان، لتشهد أمامهم على «العمل الدؤوب الذي تقومون (جنود القاعدة البحرية) به تجاه أمن الخليج الفارسي الذي يعدّ أمننا»، واضعة مشاركتها في قمة الدول الخليجيية في إطار «التأكيد على شراكتنا معها»، ومتحدثة إلى الجنود عن «رؤية عالمية للمملكة المتحدة تساهمون جميعكم بدور فعال في تنفيذها».
ولم تنس ماي تذكير جنودها بأن «منطقة الشرق الأوسط تحتوي على ثلث النفط في العالم، و15% من صادرات الغاز»، وبأن «حماية التدفق التجاري الذي تحظى به المنطقة عبر البحر أمر غاية في الأهمية لضمان استقرار سوق الطاقة، والتأكيد على أن المملكة المتحدة تمتلك أمن الطاقة».
إلى قمة الصخير، حيث قدمت الضيفة البريطانية مواقف يرغب الخليجيون في سماعها، معلنة استعدادها للتعاون المشترك "لمواجهة إيران في سوريا واليمن والخليج (الفارسي)"، وإنفاق المليارات "لتعزيز الأمن في المنطقة"، وأن تجعل في المقابل لندن "عاصمة للاستثمار الاسلامي".
إظهار البريطانيين هذه «اللهفة» على أمن الخليج (الفارسي) يحيلها خبراء إلى قرار بريطاني بعودة أقوى إلى الدور الدولي، مع الانتباه إلى أن محاولة العودة لا بد أن تمر عبر الخليج الفارسي كممر إلزامي خبرته المملكة المتحدة في ذروة زمنها الاستعماري، يوم كان توجه تجارتها نحو أسواق الهند وآسيا الوسطى.
في هذا السياق يمكن وضع الاتفاق على إقامة قاعدة الجفير العسكرية البريطانية الدائمة في البحرين (في مثل هذه الأيام من عام 2014)، التي تعد أول قاعدة لبريطانيا في الشرق الأوسط منذ تنفيذ خطة «شرق السويس» عام 1971 (القاعدة نفسها التي زارتها ماي قبل أيام).
والمتوقع أن تكون الجفير القاعدة الأم ومركزاً للقوة البحرية بصورة رئيسية، على أن تحتضن قاعدة المنهاد في دبي القوة الجوية، وتكون سلطنة عمان من نصيب القوة البرية، وفق بعض المعلومات، علماً بأن البريطانيين بدأوا منذ العام الجاري رفع إنفاقهم العسكري.
ليس هذا فقط، فقد كشفت صحيفة «التايمز» البريطانية، قبل أيام، عن أن البحرية الملكية بدأت تتولى القيادة في الخليج (الفارسي) بدلاً من الولايات المتحدة، وأشارت الصحيفة إلى أن المدمرة البحرية البريطانية «اتش. ام. اس. اوشان» تولت للمرة الأولى عملية القيادة بدلاً عن حاملة الطائرات الأميركية «يو. اس. اي. ايزنهاور» في الخليج (التي غادرت المنطقة).
وتستضيف «اتش. ام. اس. اوشان» مركز القيادة لسبع قطع بحرية في المنطقة، منها أميركية وفرنسية، وتغطي عملياتها مساحة ما يقارب 2.5 مليون ميل بحري، مع العلم بأن الدفاع البريطانية كانت قد أعلنت إرسالها في أيلول الماضي المدمرة «دارينغ» إلى الخليج الفارسي للمساعدة في حماية حاملات طائرات أميركية تشارك في قصف تنظيم «داعش» في العراق وسوريا.
ثمة من يعيد كل هذا الحراك البريطاني في المنطقة إلى الانكفاء الأميركي النسبي من الشرق الأوسط، الذي تختلف القراءات في أسبابه، وأبرزها الحاجة إلى تركيز الجهد على التهديد الصيني شرقاً، ما يفرض استعانة واشنطن بحليفها المخضرم في إدارة ملفات الصراعات تاريخياً.
لكن كل ما تقدم يبقى في إطار التوقعات، وخاصة أن الوقائع تشير إلى أن ما يحدث يأتي في إطار رغبة بريطانية في تعزيز الدور الخارجي لحسابات اقتصادية، ومنها التركيز على منطقة الخليج الفارسي، في وقت لم تتضح فيه بعد معالم أي قرار أميركي بالخروج من المنطقة، أو التخلي عن القيادة المباشرة للوجود العسكري الغربي في الخليج الفارسي.
في الوقت نفسه، تظهر خيوط عدة تؤكد كثافة التحركات البريطانية في المنطقة. ففي الملف اليمني، أظهر البريطانيون منذ أسابيع، اهتماماً لافتاً به، وهم الآن بصدد تقديم مشروع إلى مجلس الأمن يتضمن رؤية لندن للحل السياسي في هذا البلد.
ورغم أنه في ليبيا، تتحدث المعلومات عن عمليات عسكرية ضد «داعش» في مدينة سرت، نفذتها القوات البريطانية، فإن محور الاهتمام البريطاني يبدو منصرفاً أكثر إلى منطقة الخليج الفارسي، وهو ما بشر به وزير شؤون الشرق الأوسط البريطاني، توبايس إلوود، في حديث تلفزيوني قبل أشهر.
آنذاك ركز إلوود على أهمية ضمان بريطانيا مصالح الأنظمة الملكية والأميرية في الخليج العربي، مشدداً على احتفاظ بلاده بكل القدرات اللازمة لتحقيق «التوازن الجيوسياسي مع مؤسسات الحكم في دول المنطقة»، وإشارته غاية في الأهمية لجهة تاريخ الأنظمة الخليجية مع البريطانيين الذين إليهم يعود الفضل الأول في تأسيس مشيخاتهم، وتثبيت نفوذ العائلات الحاكمة في كل منها.
قراءة الموقف السعودي، والخليجي عموماً، لـ«الإقبال» البريطاني المستجد تجلى بصورة البحث عن بدائل للأميركي الذي بدأ يفقد معه الأمان والثقة، سواء مع عهد باراك أوباما المتهم سعودياً بـ«قلة التدخل»، أو مع العهد المقبل للرئيس المنتخب دونالد ترامب الأكثر إزعاجاً للرياض، وهو جانب أولاه الإعلام الخليجي اهتماماً في معرض الاحتفاء بالزيارة البريطانية.
وزخرت التعليقات المرحبة بحليف «يمكن الوثوق به»، من باب أنه ليس عابر سبيل كالفرنسي (كان فرانسوا أولاند أول زعيم غربي يحضر القمة الخليجية في الرياض العام الماضي)، الذي باتت العلاقة معه ضبابية بعد تعزيزه علاقات بلاده التجارية بإيران وكذلك اقتراب الانتخابات الرئاسية في فرنسا، دون إغفال إمكانية وصول من هو «أسوأ» من ترامب بالنسبة إلى السعوديين، إلى قصر الإليزيه.