(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) نداء أوحى الله به لسيدنا ابراهيم عليه السلام واستجابة لهذا النداء الإلهي يتوجه المسلمون من كل أنحاء العالم لحج بيت الله الحرام، حيث تتعلق قلوبهم، وتهفوا أفئدتهم لمشاهدة هذه الأماكن المقدسة: (رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) والسؤال ألا يعد الحج فرصة من ذهب لترسيخ وحدة المسلمين والتقريب بينهم ؟ طرحنا السؤال على علماء الدين من الجانبين الشيعي والسني ورصدنا إجاباتهم في التحقيق التالي :
فرصة عظيمة
بداية يقول شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن الحج فرصة عظيمة للمسلمين ولابد من استغلالها للتقارب بين كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وقومياتهم فمقصود قول الحق سبحانه وتعالى: “فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج و هذه الآية الكريمة توضح جانباً من الآداب والأخلاقيات الكريمة التي ينبغي أن يتحلى بها الحاج خلال رحلته الإيمانية، فمن نوى وأوجب على نفسه الحج وأحرم به فعليه أن يتجنب معاشرة الزوجة وكل ما يؤدي إلى ذلك، فهذا هو معنى “الرفث”، أما “الفسوق” فالمراد به الابتعاد عن كل قول أو فعل يكون خارجاً عن آداب الإسلام . والجدال المنهي عنه هو النقاش الحاد الذي يؤدي إلى التعصب للرأي والتنازع بين الرفقاء والإخوان، لأن هذا السلوك يتنافى مع أهم مقاصد الحج وهو تلاقي المسلمين من أجل التعارف والتفاهم والاتفاق على كل ما يحقق لهم القوة والعزة والتعاون على البر والتقوى ولهذا فلابد من أن يعمل كل مسلم على تحقيق غاية الحج من التقارب مع إخوانه المسلمين ولذلك ختم الله سبحانه وتعالى النهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج بقوله سبحانه: “وما تفعلوا من خير يعلمه الله” ففي هذه العبارة الكريمة حض للمؤمنين على فعل الخير بعد نهيهم عن فعل الشر، ثم قال سبحانه: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولى الألباب”، أي وتزودوا خلال رحلة الحج بالزاد المعنوي وهو تقوى الله وخشيته، فإنها خير زاد ينفعكم في دنياكم وأخراكم، وأخلصوا العبادة لخالقكم حتى تعودوا من رحلتكم المباركة بأكبر المكاسب وأفضل الفوائد .
المناخ النموذجي
ويقول آية الله الدكتور محمد على التسخيري أمين عام المجمع العالمى للتقريب بين المذاهب بإيران : أن الحج يشكل المناخ النموذجي الذي يتم فيه تقارب الأفكار الممهد لتحقيق الوحدة فيما أسماه ـ بالمواقف العملية ـ والتوازن والوسطية والعقلانية المطلوبة إن الوحدة الإسلامية لا تعني قولبة الأفكار ووحدة الأنماط الفكرية والذوقية، ولكنها تعني الاستجابة للبرنامج الإسلامي المخطط وتكوين أمة تقيم الموقف الموحد رغم وجود الاختلاف الطبيعي بين الدول الإسلامية .
وأضاف التسخيري أنه يلزم الموقف الموحد في الأصول الإسلامية الأولى وتطبيق الشريعة والموقف السياسي الموحد من القضايا العالمية ضد من وصفهم بأعداء القضية وهم المشركون والمنافقون والمستكبرون، مشيرا إلى أن الحج كعملية تربوية رائعة يجتمع فيها ممثلو الإنسانية المسلمة ليتدربوا على أمور كثيرة جدا وليحققوا منافع كبرى لهم في حياتهم المعنوية والمادية فتغرس في نفوسهم معاني الأمة الواحدة العابدة الطائفة حول التوحيد والرافضة للنظم الوضعية
الحوار مطلوب
ويقول الدكتور أحمد عبد الرحمن أستاذ الأخلاق الإسلامية بالأزهر : من أهم مقاصد الحج ومنافعه أن يتلاقى المسلمون من كل فج عميق ليتحاوروا ويتفاهموا ويتناقلوا فيما بينهم الأفكار المفيدة والتجارب والخبرات الرائدة . والمسلم الواعي هو الذي يعرف الخطوط الفاصلة بين الحوار الذي يؤدي إلى التفاهم والتلاقي، وبين النقاش الحاد الذي ينتهي بأصحابه إلى التعصب الأعمى للرأي، فالحوار مطلوب ومرغوب والنزاع والتعصب مرفوض بكل المقاييس ولهذا فعلى ضيوف الرحمن بضرورة التحلي بخلق الرفق في الحوار والرفق في التعامل، فالرفق خلق كريم يجلب لصاحبه رضا الله عز وجل ورضا كل الناس المحيطين به والمتعاملين معه .
وينبه د .عبد الرحمن ضيوف الرحمن إلى أنهم في رحلة إيمانية مباركة قد لا تتاح لهم مرة أخرى، ولذلك عليهم أن يستثمروا كل دقيقة فيها في طاعة الله والإحسان إلى كل رفقاء الرحلة والتعامل الرحيم مع كل خلق الله حتى يعودوا من رحلتهم محققين أهداف الحج، وعلى الجميع أن يدرك أن الحج المبرور ثوابه الجنة، كما بشرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحج المبرور هو الذي يتقبله الله عز وجل، ومن علامات القبول أن يرجع الحاج إلى أسرته وأهله وعشيرته خيراً مما كان ولا يعاود المعاصي، وقد قال بعض العلماء إن الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه أو هو الذي لا تعقبه معصية، وقال البعض الآخر: إن الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم وهو مأخوذ من البر وهو الطاعة . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بر الحج عندما قال: “الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة”، فقال قولته الجامعة: “بر الحج إطعام الطعام وإفشاء السلام” ولكل هذا فلابد من استخدام جميع الإمكانيات في مناسك الحج لغرض التقريب بين أبناء الأمة نظراً الى حضور العديد من الجنسيات والأعراق في هذه المناسبة الاسلامية العظيمة متحدي الشكل والمظهر .
الأصل هو الوحدة
ويقول الشيخ محمد بديع مرشد الإخوان المسلمين : بلا شك فإن الأصل في الإسلام هو وحدة الأمة، وتواصل أبنائها وقيامهم بكافة متطلبات هذه الأمة مهما اختلفت الأوطان والأزمنة والحج مؤتمر عالمي يتكرر كل عام مرة ويعقد في الأرض المباركة حول الكعبة؛ يجمع المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويوحد غاياتهم، تحت شعار: "أمة واحدة" قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) الأنبياء: ٩٢. وقال تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) وقد أمرنا الله بالاتحاد وحذرنا من التفرق فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: ١٠٣) كما أمرنا الله بطاعة الله ورسوله، وحذرنا من التنازع وجعل عقوبته الفشل قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال: ٤٦.
ويضيف بديع : وما أعظم عوامل الوحدة بين الأمة الإسلامية، فربها واحد، وكتابها واحد، ورسولها واحد، وشريعتها واحدة، وعباداتها تجمعها وتوحد بينها، فالصلاة إلى قبلة واحدة، والصيام في شهر واحد، ويأتي الحج ليقوى هذه الوحدة، ومن أهم مظاهر ذلك : ألسنتهم تلهج بشعار واحد: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ" حيث يلتقون في مكان واحد على جبل عرفات الفسيح: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثٌ (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ».
ويطوفون حول الكعبة المشرفة.. التي جعلها الله قياماً للناس، ومحطاً لأنظارهم وقبلة لهم (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ البقرة: ١٤٤. وقال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) المائدة: ٩٧. ولباسهم واحد تذوب معه كل الفوارق.. يذكرهم بالأكفان عند لقاء الرحمن ووحدة الحركة في أعمال هذه الشعيرة حيث تراهم في صعودهم إلى عرفات، ونزولهم منه، ورجمهم للشيطان عدوهم جميعا عن يد واحدة، وطوافهم حول البيت في فلك واحد واتجاه واحد..
وينهي مرشد الإخوان حديثه قائلا : إن هذا الركن العظيم يذيب فوارق العرق والنسب واللغة والإقليم والطبقة، ويوحد بين الأمة في مخبرها ومظهرها، ويجعلها أمة واحدة. ويزيل الفرقة التي يسعى إليها أعداء الأمة بالليل والنهار، كما قاله أحدهم: "سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها محاولات التبشير، ما دام للإسلام هذه الدعائم الأربع: القرآن.. والأزهر.. واجتماع الجمعة الأسبوعي.. ومؤتمر الحج السنوي" وكما جاء في دائرة المعارف البريطانية عن الحج :" تؤدي هذه العبادة دورَ قوةٍ توحيدية في الإسلام؛ بأنها تجلب أتباعا له من مختلف الجنسيات؛ ليجتمعوا معا في احتفال ديني"لهذا فلابد من الإستفادة من موسم الحج وجعله مؤتمرًا للتعارف والتآلف والاتحاد، وتدارس الواقع المر وكيفية الخلاص منه ونيل الحقوق واسترداد المسلوب والنجاة من قبضة الأعداء.. ومن الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم، ووأن يعلم كل مسلم أن وحدتنا تحقق التكامل الاقتصادي والاكتفاء الذاتي؛ حتى لا نكون رهينة في يد الغير، وعليكم بالتكافل فيما بينكم، والتناصح والتناصر، فهذا مما أوصى به الإسلام الحنيف.