توقّـع البروفيسور نوح فيلدمان، في كتابه "سقوط وصُـعود الدولة الإسلامية" صُـعود الحركات الإسلامية المعتدِلة في الدّول، ذات الأغلبية من المسلمين، من خلال أي انتخابات حرّة، تلبِـية لرغبة الشعوب في إقامة نُـظم حُـكم ديمقراطية تُـحافظ على القِـيم الإسلامية من خلال الشريعة
شارک :
هذا ما توصَّـل إليه البروفيسور نوح فيلدمان، أستاذ القانون بجامعة هارفارد والمتخصِّـص في القانون والفِـقه الإسلامي في كِـتابه الجديد: "سقوط وصُـعود الدولة الإسلامية"، وفيما يلي المقابلة التي اجريت معه حول كتابه..
ما الذي دعاك إلى تأليف هذا الكتاب وما هي الرسالة التي أرَدت توصيلها للقارِئ في الغرب؟ لقد لاحظت أن الإسلاميين المعتدِلين يفوزون بالانتخابات في أي دولة من دول العالم العربي أو الإسلامي التي تسمح بانتخابات نزيهة نِـسبيا وأن مفتاح نجاحهم هو برنامج انتخابي لإقامة دولة تجمَـع بين الديمقراطية والشريعة، وشعرت بأن الشعوب العربية والإسلامية تتطلّـع إلى مثل ذلك النموذج الحديث من الدولة الإسلامية القادِرة على التَّـعامل مع عالم اليوم، وفي نفس الوقت الحِـفاظ على تقاليدها وقِـيَـمها المستمدّة من الشريعة الإسلامية. ورسالتي من خلال الكتاب للقرّاء في الغرب هي: لا تتخوّفوا من تطلُّـعات الشعوب العربية والإسلامية إلى مثل تلك الدولة التي تجمع بين الديمقراطية والشريعة، بل تفهَّـموا الشريعة في ضوء سِـياقها التاريخي وتوصَّـلوا إلى قناعاتكم الخاصة حول الكيفية التي يمكن بها التَّـعامل مع الواقع الجديد في العالم الإسلامي بطريقة تتَّـسم بالمسؤولية، بدلا من الهروب من كلِـمة الشريعة دون أن نفهم معناها ومدى تماشيها مع قِـيم الديمقراطية وسيادة القانون، والفصل بين السلطات وتشابُـهِـها مع نظم الحُـكم الدستوري.
خصّصت الفصل الأول من كتابك الجديد لشرح أسباب نجاح الدولة الإسلامية التقليدية في الماضي، فما هو تفسيرك باختصار؟ لقد تحلّـت الدولة في العصر الإسلامي بسِـمة أساسية من سِـمات الحُـكم الدستوري، وهي التوازُن بين السلطات، وهذا هو السّبب الرئيسي في نجاح الدولة الإسلامية التقليدية على مدى قرون من الزمن، وقد أمكن الحِـفاظ على ذلك التَّـوازن من خلال أن شرعية الحاكم كانت دائما مستمدّة من قِـيامه بتنفيذ واجِـباته وِفقا للشريعة، ولم يكن بوُسع الحاكم أو الخليفة سنّ القوانين، حيث كانت القوانين تستمِـدّ روحها ونصّـها من الشريعة الإسلامية وكان العلماء المسلمون يتولّـون مهمّـة تفسيرها، فيما تولّـى العلماء الشرعيون مهمّـة السلطة القضائية وتوضيح كيفية تطبيق التقاليد الإسلامية على الواقع السياسي المحيط بهم، مما وفّـر للعلماء سُـلطة الحدّ من صلاحيات الحاكم، وهذا أساس تستنِـد إليه النُّـظم الدستورية الحديثة، حيث لا تسمح لفرد واحد أو مجموعة منفردة في المجتمع بتولّـي مُـطلق السلطات.
أشرت في الفصل الثاني من كتابك إلى ارتباط سُـقوط الدولة الإسلامية، بل وما تعاني منه الدول الإسلامية حاليا من قُـصور في نُـظم الحُـكم بالمراحل الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، فكيف كان ذلك؟ تحت ضغوط الغرب في المراحل الأخيرة للدولة العثمانية، تمّ الأخذ بما سُـمي إصلاحات تُـقلّـص من دور العلماء الشرعيين كحراس للشريعة والتخلّـص من فكرة التوازن بين السلطات وتحويل الشريعة الإسلامية من مجموعة مبادِئ قانونية، ومثل وقِـيم عامة يسترشِـد بها الجميع في ضوء تفسير العلماء الشرعيين، إلى مجرّد نصوص جامِـدة ككُـتب القوانين الوضعية في ظِـل غياب نظام تشريعي يسنّ القوانين ويُـوازن سلطة الحُـكم التنفيذي، وسرعان ما أصبح الحاكِـم أو السلطان في المراحل الأخيرة من الدّولة العثمانية مُـنفرِدا بسلطة مُـطلقة، فهو الذي يقرِّر القانون ويفسِّـره ويطبِّـقه، وسرعان ما أصبحت ظاهِـرة الحُـكم المُـطلق سِـمة لازالت تميِّـز أنظمة الحُـكم في كثير من الدّول الإسلامية، حتى بعد استقلالها.
ذكرت في الفصل الثالث أن الحركات الإسلامية أصبحت أبرز الحركات السياسية وأكثرها تنامِـيا، وأنها تحظى بمُـساندة شعبية قوية، لأنها تطرح التحوّل نحو الديمقراطية مع الحِـفاظ على الشريعة. فهل يبرر ذلك قناعتك بعودة وصعود الدولة الإسلامية؟ نعم، ولكن ليس أي حركات إسلامية. فالحركات التي تحظى بمثل ذلك التأييد الشعبي الواسع، هي حركات معتدِلة لها فِـكر يجمَـع بين الشريعة والديمقراطية وتدعو إلى إقامة مؤسَّـسات إسلامية وديمقراطية، وإذا ما جرت انتخابات حُـرّة نسبيا في تلك الدول وطرحت الحركات الإسلامية المعتدِلة برامج تجمَـع بين إقامة نظام حُـكم ديمقراطي يستند إلى الشريعة الإسلامية، وِفق تفسيراتٍ توفِّـر المساواة بين الجميع، فستحظى هذه الحركات بمُـساندة قوية، فإذا تمكَّـن السياسيُّـون الإسلاميون من الفوز بتلك الانتخابات، فسيكون هذا مقدِّمة طبيعية لانبثاق شكلٍ جديد من أشكال الدولة الإسلامية المُـعاصرة التي تجمع بين الشريعة والديمقراطية. ولكن نجاح هذه الدول سيكون مرهُـونا بإقامة المؤسسات الديمقراطية وبقدرة حكَّـامها وسلطاتها التشريعية والقضائية على توفير التَّـوازُن الدستوري بين السلطات ومواجهة تحديَّـات انبِـثاق الدولة الإسلامية الحديثة.
لماذا تتطلَّـع الشعوب العربية والإسلامية إلى نُـظم حُـكم تجمع بين القِـيم الإسلامية والديمقراطية؟ تشعُـر تلك الشعوب بالحِـرمان من العدالة والديمقراطية، وتعاني من تفشِّـي الفساد وسوءِ توزيع الثَّـروة القومية ومن سلطة الحُـكم المطلق، التي جلبتها إلى بلادهم نُـظم الحُـكم العِـلمانية، والتي لم تحترم سيادة القانون، ممَّـا أعاد الشعوب العربية والإسلامية إلى حنين الماضي، حينما كانت الدولة الإسلامية ناجِـحة في مُـختلف مجالات الحياة، كما أن جانبا كبيرا من طموحات الشعوب العربية والإسلامية وتطلُّـعها إلى حُـكم يجمع بين الديمقراطية والشريعة، يعود إلى مشاعِـرَ دِينيّـة تُـؤمِـن بأن الالتزام بالشريعة سينقذ بلادهم من الفساد من خلال أنظمة حُـكم تحترم، سيادة القانون وشرع الله.
وهل تتماشى الشريعة مع الديمقراطية وسيادة القانون؟ وأي مستوى من الشريعة تتحدّث عنه النصوص التقليدية أم التفسيرات المعاصرة؟ أنا من المُـؤمنين تماما بأن الشريعة الإسلامية تتماشى مع حُـكم القانون، لأن نظام الشريعة يستنِـد إلى سيادة القانون وإلى فِـكرة أن الجميع مسؤول عن احترام شرع الله والتمسُّـك به، ولم تستثن الشريعة الإسلامية الحاكِـم من تلك المسؤولية ولا من احترام القانون، وفي حال انتخاب زعماء إسلاميين يؤمنون بتوفير المساواة بين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغير المسلم، كما تطرح حركات إسلامية عديدة حاليا، فسيكون بِـوُسعهم إقامة دولة إسلامية حديثة تتماشى مع نُـظم الحكم الدستورية الديمقراطية.
أما إذا دفعت الانتخابات إلى الحُـكم بزعماء إسلاميين راديكاليين يؤمِـنون بعدم المساواة بين المسلم وغير المسلم أو بين المرأة والرجل، فلن تكون دولة إسلامية تتماشى مع الديمقراطية وسيادة القانون، وأنا أعتقد أن مُـعظم الزعماء السياسيين داخل كثيرٍ من الحركات الإسلامية يؤمنون بأن الشريعة الإسلامية على مدى تاريخ الحُـكم الإسلامي، كانت دائما تتَّـسم بقَـدر من المُـرونة يسمح للمسلمين، بعد الالتزام بمبادئها الرئيسية، بالتوفيق بين أحكامها الثابتة وبين الظروف المتغيِّـرة في كل عصر.
إذا كان الأمر كذلك، فبما تفسِّـر هلَـع الغرب من كلِـمة الشريعة، خاصة عندما يتعلَّـق الأمر بالتزام دولة إسلامية بأحكامها؟ هناك جانبان لقلق الغرب من تطبيق الشريعة الإسلامية، يتعلق الجانب الأول بما يراه الغرب من تفضيل للرِّجال على النساء، بينما لا يُـدرك الغرب أن الشريعة الإسلامية أتاحت للمرأة منذ أربعة عشر قرنا حقوقا لم تكفلها القوانين الوضعية في بريطانيا وفرنسا حتى القرن الماضي. أما الجانب الأقبح في عداء الغرب للشريعة الإسلامية، فيعود إلى نظرة الغرب إلى الإسلام والشريعة على أنه يشكِّـل "الآخر" المختلف تماما عمَّـا يمثله الغرب ويسقط على الإسلام والشريعة كل الصِّـفات التي تجسِّـد قلق وخَـوف الغرب من ذلك "الآخر المختلف"، وتتبارى وسائل الإعلام والشخصيات الغربية في التركيز على أكثر التفسيرات تصلُّـبا وجُـمودا للشريعة لوصف الإسلام والشريعة ككل، بشكل ينزع عنهما كلّ الجوانب الطيِّـبة.
ومع هذا العداء، هل سيقبل الغرب بقِـيام دُول إسلامية حديثة أم سيُـواصل مسانَـدة نُـظم حُـكم دكتاتورية، برغم تطلع الشعوب العربية إلى نُـظم حكم ديمقراطية تستنِـد إلى الشريعة الإسلامية؟ سِـجالـنا مُـرعب في هذا المجال، وأحدث مثال هو أن الولايات المتحدة سانَـدت الرئيس برويز مشرف، حتى عندما أوقف العمل بالدستور وأقال رئيس المحكمة الدستورية العليا في باكستان وفرض الإقامة الجبرية على المحامين، وقد ألحق ذلك التأييد ضررا بالغا بصورة الولايات المتحدة وتأكِـيد فكرة أنها تُـساند الدكتاتوريات، بدلا من أن تقف إلى جانب سيادة واحترام القانون، ولا أعتقد أن الولايات المتحدة ستغيِّـر من أسلوبها هذا بشكل رئيسي، ولكن سيقتضي الأمر التَّـعامل الأمريكي مع أنظمة حُـكم إسلامية في المستقبل، بشرط أن تكون سِـلمية وتنتهج أسلوبا ديمقراطيا في استرشادها بالشريعة الإسلامية، وسيكون التحوّل الأمريكي تدريجيا وبطيئا، وقد تتقدّم الولايات المتحدة خُـطوة إلى الأمام وتعود خُـطوتين إلى الخلف في بعض الحالات. وأنا أعتقد بأن الولايات المتحدة ودُول الغرب ستكون مستعدّة للتعامل مع دول إسلامية، إذا أظهرت أنها ديمقراطية في نفس الوقت، وخاصة إذا ما اتَّـفقت مصالِـح تلك الدول الإسلامية مع المصالِـح الأمريكية والغربية.
لاحظت أن المدافعين عن إقامة الدولة الإسلامية الحديثة، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، مستعدّة لانتهاج الطريق الديمقراطي، ومع ذلك تتجاهلها واشنطن وفضلت مساندة نظام مبارك فكيف تفسر ذلك؟ بالنسبة لي، تشكل حالة مصر مِـثالا نموذجيا لِـما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله، لتوفير الاستقرار بشكل واقعي. فهناك حاجة عملية للتَّـفكير في من سيخلف مبارك، الذي بلغ الثمانين من عمره وأمضى في الحُـكم ستة وعشرين عاما، وبوسع الولايات المتحدة أن تُـمارس ضغوطا على نظام مبارك لتوسيع نطاق الممارسة الديمقراطية والسّماح للإخوان المسلمين، الذين تسمِّـيهم الحكومة "الجماعة المحظورة" بخوض الانتخابات دون قيود، وتوفير قدر أكبر من الحرية والشفافية، بحيث لو تمكَّـن الإخوان المسلمون من الفوز بنصيب وافر من مقاعد مجلس الشعب يمكِّـنهم المشاركة الفعلية في الحُـكم، مما سيوفِّـر قدرا أكبر من الاستقرار لمصر، لأنه لو نظرنا إلى السيناريو البديل بنقل السلطة في مصر إلى "مبارك" آخر ليحكم البلاد بلا شرعية وبدون تأييد شعبي أو مساندة من أكثر الحركات السياسية نشاطا ووجودا على الساحة السياسية في مصر، فسيكون هذا السيناريو على المدى البعيد بمثابة ضربة للمصالح الأمريكية ولطموحات واهتمامات وتطلُّـعات الشعب المصري، وبالتالي، لن يخدِم سيناريو التَّـوريث توفير الاستقرار في المنطقة.