أن الوحدة على أساس القومية والوطنية قد باءت بالفشل حقاً، ولم نرى لها مثالاً في سابق التاريخ ولا حاضره، فلم يسبق لأحد أن خاض غمارها، ولكن الوحدة على أساس الإسلامية قد شاهدنا أو قرأنا عنها أمثلة كثيرة، بدءاً من الدولة الإسلامية في المدينة المنورة ومروراً ...
شارک :
بقلم : ضياء عبد العزيز التصنيف
إن النظرة الأولى للوطن العربي والدول العربية والإسلامية ربما تسبب لنا حالة من الغثيان، بسبب ما تكشفه لنا هذه النظرة من صنوف المعاناة والفرقة بين تلك الدول، دولٌ تعاني من فقر مدقعٍ وأخرى تتهاوى من ضربات الإستعمار والإحتلال، وبعضها تعيش في رغدٍ ونعيم.
وترى تلك الدول لا يعنيها شأن جيرنها من الدول الأخرى مع وجود كثير من الراوبط التي تربطها مثل العقدية والوطنية والقومية والعرقية، ولكن تلك الدول انشقت عن بعضها واختارت كل واحدة منها طريق تناسبها وتحقق لها مصالحها.
ولقد كانت الوحدة العربية مطلب قديم لكثير من العرب، ولعل من أبرز المنادين بهذا الأمر "حركة القوميين العرب" التي تأسست في أعقاب نكبة فلسطين في العام ١٩٤٨، ولكن سرعان ما اختفت هذه الحركة وفشلت فيما ترنو إليه، وكثير قد سار على درب هذه الحركة وأهدافها ولكن نالهم ما كان لحركة القوميين من فشل أيضاً.
أنا لا أنفي أن الوحدة العربية تعتبر مصلحة عليا لكل الدول العربية، فقيامها سيشد من عضد تلك الدول سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى، وسيجعلها موحدةً قولاً وعملاً أمام أعدائها، فما استساغ الأعداء اضطهادنا إلا من بعد تفرقنا وتشرذمنا جغرافياً وفكرياً.
ولكنني أجزم أن هناك فشلاً لا يمكن اجتنابه في الطريق التي سلكها من كان قبلنا لتحقيق هذا الهدف، فالوحدة على أساس القومية والوطنية فشلت، ولا نعلم هل كان سبب الفشل من أصحاب الفكرة أم من الفكرة نفسها، إلا إنني أميل للأخيرة، فإذا كان لدينا جيشاً كبيراً يقاتل لفكرة واحدة ولكنه لم يحقق نجاحاً البته، فحينها نعلم أن الإشكال يكون في هذه الفكرة، وهكذا كانت فكرة الوحدة القومية، سار عليها كثير من المنظرين والقادة إلا إنهم لم يحققوا نجاحاً يذكر حتى الآن.
إن الوحدة بين الدول العربية والإسلامية تحتاج إلى رابط قوي يجمعها، وباعتقادي أن رابط القومية والوطنية لا يكفي لجمعِ شمل كل تلك الدول المترامية الأطراف جغرافياً وفكرياً، فالأمر يحتاج إلى رابط يحمل فكرة واحدة غير متنازع عليها، ولعلنا نرجع للوراء قليلاً وننظر إلى الدولة الإسلامية التي قامت في المدينة المنورة وصولاً إلى انتهائها أخيراً بالدولة العثمانية، فتلك الدولة قامت على أساس عقائدي وهو "الدين" فكان من الصعب الإختلاف حول هذه الفكرة، فتلك الدولة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في الوحدة الجغرافية والفكرية.
ولنفترض جدلاً أن الوحدة قامت على أساس القومية، فحينها ستتوحد الدول جغرافياً ولكنها من المستحيل أن تتوحد فكرياً، فكل قطر من الأقطار سيحمل فكراً مختلفاً عن الآخر مما يجعل الترابط بينها صورياً خاوياً من المضمون، فالوحدة يجب أن تكون مترابطة خارجياً من خلال الوصل الجغرافي والحدودي، وداخلياً من خلال الفكرة الموحدة لدى الجميع.
إنني أعتقد أن الوحدة على أساس القومية والوطنية قد باءت بالفشل حقاً، ولم نرى لها مثالاً في سابق التاريخ ولا حاضره، فلم يسبق لأحد أن خاض غمارها، ولكن الوحدة على أساس الإسلامية قد شاهدنا أو قرأنا عنها أمثلة كثيرة، بدءاً من الدولة الإسلامية في المدينة المنورة ومروراً بالدولة الأموية والعباسية ووصولاً للدولة العثمانية، وبغض النظر عما كان يعتري تلك الدول في آخر أيامها من ظلم وفساد، إلا أنها حققت نجاحاً منقطع النظير في الوحدة الجغرافية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، فمصطلح الإسلامية يعتبر أعم وأشمل من المصطلحات القومية والوطنية، فربما يلتقي القوميون والوطنيون في نقاط عدة، ولكنهم سيختلفون في نظرتهم لكثير من الأمور السياسية والإقتصادية، فالمصطلح الإسلامي يعطي تصوراً كاملاً ومتكاملاً عن الحياة الإنسانية بشتى مناحيها، السياسة والإقتصادية وما إلى ذلك من متطلبات العيش والتوافق الإنساني والبشري.
ولكن تبقى الوحدة على أساس الإسلامية محط خوف من بعض الجهات القومية والوطنية، بسبب كثير من المفاهيم الخاطئة التي وردت إلى أذهانهم ممن أساؤوا تفسير الدولة الإسلامية، فهم قد صوروا تلك الدولة بأنها دولة خاصة بالمسلمين، تهدف للقضاء على الديانات الأخرى، وغيرها من التصورات المبالغ فيها.
لقد قدمت لنا الدولة الإسلامية سابقاً نموذجاً واضحاً في التعامل مع أصحاب الديانات الأخرى ولا أذكر أن التاريخ قد نقل لنا حالة واحدة فيها ظلم او اضطهاد لأصحاب تلك الديانات في الدولة الإسلامية، بل قدمت لهم كثير من الحقوق ومنحتهم حرية العبادة والديانة.
إن وحدة الدول العربية والإسلامية بات أمراً ضرورياً في ظل تلك الأزمات التي يمر بها العالم اليوم، ولاسيما الأزمات السياسية والإقتصادية المتلاحقة والتي من شأنها أن تنهك أعتى وأقوى الدول، وإنني واثق تماماً أن تلك الوحدة من شأنها أن تمحو عنا صورة الوهن والخنوع التي باتت ملاصقة لنا منذ عهد الإنتداب البريطاني والفرنسي، فتلك الحدود التي قسمت الدول العربية والتي وضعها بالأساس ذلك الإنتداب باتت للأسف محل افتخارٍ وسيادة لتلك الدول، وهم يغفلون أن هذه الحدود هي من أكبر الأسباب التي عملت على تفتيت وشرذمة العرب جغرافياً وفكرياً.
إن فكرة الوحدة العربية فكرة يتفق عليها جميع العرب والمسلمون، ولكن يبقى الإختلاف الجوهري لهذه القصية، ما هو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه تلك الوحدة، أهي القومية أم الوطنية أم الإسلامية.