في هذا المقال يتحدث سماحة العلامة الفقيد السيد محمد حسين فضل الله(ره)، عن الشهيد السيد محمد باقر الصدر، أنه كان الإنسان الذي كتب المستقبل بدمه بعد أن كتب الفكر الإسلامي بقلمه، وقلةٌ هم الذين يمتزج حبر دمائهم بحبر أقلامهم، لينطلقا معاً لتكون حركة الحياة فكراً من جهة، وجهاداً ومستقبلاً حياً يؤذن بالنصر ولو من بعيد من جهة أخرى.
شارک :
العلامة الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
أن نتحدّث عن شخصية إسلامية في حجم السيد محمد باقر الصدر الذي استطاع أن يفتح للتفكير الإسلامي أفقاً جديداً لم يُعهد من قبل في التفسير العميق للمفاهيم الإسلامية في حركة الإنسان في الحياة، وللتأصيل المنهجي للمذهب الاقتصادي في الإسلام، وللإنفتاح على واقع الإنسان كله في عملية تزاوج حركي بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان في حركة الوجود في مسؤوليته التي يتكامل فيها تكويناً أو إرادة بين يدي الله، واستخلاص المفهوم الذي يحدّد للإنسان علاقته بالطبيعة ومنها الأرض ، وعلاقته بالإنسان الآخر ، وعلاقته بالله من خلال التفاعل بين هاتين العلاقتين.
ثم انطلق ليكتشف السنن التاريخية في القرآن، حيث يشعر الإنسان عندما ينطلق في حركة التاريخ أنه حتى وهو يمارس الفوضى لا يمكن للفوضى إلا أن تكون خاضعة لنظام، باعتبار أن هناك سنناً تاريخية تحكم حركة الإنسان وتمثل الخطوط العامة لحركته الإنسانية بطريقة شعورية أو لا شعورية، لأن القوانين الحتمية التي أودعها الله في الكون وحرّكها في الحياة ليست دائماً حالة شعورية في الكائن الحي، بل قد تنطلق لتحكمه من خلال نظام دقيق يمكن أن يكون للإرادة دوراً، بحيث يتحرك في السنّة التاريخية لتكون إرادته جزءاً من هذه السنّة.
لقد اكتشف الشهيد الصدر بعضاً من هذه القوانين، وأصّلها، وبعبارة أخرى استطاع أن يتحرك بالاكتشاف إلى قاعدة للتأصيل وأن يُطلق القاعدة المؤصلة من أجل اكتشافات جديدة، ومن هنا فقد شعرنا ونحن معه ونحن بعده، أن الفكر الإسلامي كان شيئاً قبل أن يجيء السيد محمد باقر الصدر وصار شيئاً آخر بعد أن ودّع الحياة محدثاً بذلك نقلة نوعية في عالم الفكر، ولم يكن السيد محمد باقر الصدر إنساناً يفكر في المطلق أو إنساناً يعيش في صومعة العلم ليجلس بين مفرداته ليكتشف منها ما يكتشف وليؤصل منها ما يؤصّل، ولكنه كان إنسان المسؤولية في الحياة.
كان يرى أن الإسلام ليس مجرد فكر يمكن لك أن تملأ به الكتب أو النوادي العلمية والثقافية، ولكن الإسلام انطلق منذ أن انطلق في قلب النبي محمد(ص) والصحابة معه وأهل بيته قرآناً يتحرك في الوعي ويُقرأ باللسان، كما انطلق حركة يتجسّد فيها القرآن في كل جوانب الحياة السلبية والإيجابية. ولهذا كان القرآن كتاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، كان القرآن ينزل عند كل مشكلة تواجه المسلمين ليحلّها بعد أن تتفاعل المشكلة في كيانهم، وكان القرآن يتابع كل حركة للمسلمين، سواء كانت حرباً أو سلماً لينقد جانباً من التجربة هنا وليؤكد جانباً من التجربة هناك، وليستخلص العبرة من خلال إيجابية التجربة أو سلبيتها من أجل تجربة جديدة لمستقبل جديد.
ومن هنا كنا نقول دائماً إن القرآن لا يفهمه فهماً واعياً حياً إلا الحركيون، أما الذين يفهمون القرآن في القاموس أو في النظريات الفلسفية، ولكنهم لا يعيشون تجربة الحياة في حركيتها ولا يعيشون تحديات الحياة في خط المواجهة، فإنهم قد يفهمون لغة القرآن ولكنهم لا يفهمون روحه، لأن روحه تنطلق من خلال الواقع الذي عاشه الحركيون الذين قادهم رسول الله(ص) إلى النصر وإلى أن يواجهوا التجربة بشكل حيّ.
هكذا بدأ حركياً، لم تكن حركية السيد محمد باقر الصدر في الخط الإسلامي السياسي منطلقة من حالة تقليدية ينتمي فيها إنسان لحركة إسلامية هنا أو هناك بشكل تقليدي، كانت روحه حركة، ولذلك عندما كنا معه كان يعيش قلق المعرفة لمنهجية الحركية الإسلامية في الواقع، كان يبحث عن خصائص الحركة الإسلامية كيف يمكن أن تتجمّع في الواقع الذي يعيش فيه، وكان يعيش قلق المعرفة لأساليب الحركة الإسلامية كيف تواجه الواقع الجديد بطرق جديدة تختلف عما كان عليه الحركيون الإسلاميون منذ انطلاقة الدعوة. لأننا عندما ننطلق في معطيات الواقع وفي خصوصياته لا نستطيع أن ننقل كل المفردات والأساليب التي اتبعت في عهد الدعوة لنكررها في عهدنا الآن، لأن الأسلوب ليس فكراً في المطلق حتى نأخذه ونتحرك به كما تحرك المسلمون الأوائل في الحروب أو في طريقة الدعوة أو في السلم أو في علاقاتهم، نحن نأخذ الخطوط العامة، أما التفاصيل فلهم تفاصيلهم التي انطلقت من ظروفهم ولنا تفاصيلنا التي تفرضها ظروفنا، ولهذا قد يختلف أسلوب الكلمة عندنا عن أسلوب الكلمة عندهم، لأن الذهنية الثقافية في عهدهم تختلف عن الذهنية الثقافية في عهدنا في نقاط الضعف ونقاط القوة.
وهكذا كانت أدوات التحدي هناك تختلف عن أدوات التحدي هنا، في الماضي لم نجد أناساً ينتظمون في نظام، ولم يأخذوا بالأساليب الحركية، بينما نواجه الآن أناساً يعيشون طريقة معينة في التنظيم وفي الحركة وفي أسلوب المخابرات وفي أسلوب السياسة وفي أسلوب الحرب والسلم تختلف تفاصيلها عن التفاصيل الأخرى. لذلك من يرد أن يطلق حركة إسلامية في المرحلة الحاضرة فإنه لا يستطيع أن يبحث عن مفردات الحركة الإسلامية بجزئياتها في الماضي، ولكنه يأخذ الخطوط العامة: {ادفع بالتي هي أحسن}، ولكن ماذا يختزن الأحسن والأسوأ، إن الأحسن هنا قد لا يكون مماثلاً لما هناك وكذلك في الأسوأ. الخطوط العامة هي ما نستطيع أن نستهدي به في منهج الدعوة آنذاك، أما حركة التجربة وواقعها فإن ذلك لا بد له من أن ينطلق من الواقع.
كان يعيش قلق المعرفة، وكان يحاول أن يقرأ المجتمع الذي كان يضجّ بالتحديات وبالمتغيّرات، وهو البعيد عنه ولم يعش فيه التجربة ممن عاشوا المجتمع وعرفوا مفرداته واتجاهاته واطّلعوا على مفاهيمه في الواقع، لكنه وهو الذي يملك الذهنية الحادة كان يلتقط الفكرة من بعيد حتى كأنها تعيش بين يديه، ويلتقط الملاحظة الدقيقة حتى كأنها بارزة للعيان، ومن هنا كان السيد محمد باقر الصدر لا يعيش فرقاً بين ما يقرأ وبين ما يعيش الآخرون، فهو ينطلق بالقراءة، القراءة بالكتاب أو القراءة من خلال الانطباعات التي يكونها الآخرون ليفهم المجتمع كأفضل ما يكون الفهم.
وهكذا رسم ملامح الحركة الإسلامية، وبدأ التخطيط لها فكرياً، وحرّكها عملياً، وواجه التحديات من خلالها فكانت شهادته قمة حركيته، وكانت شهادته العنوان الكبير للإنسان الذي يفكر من خلال حركة الحياة في الفكر كما يجاهد من خلال حركة الفكر في الجهاد. وهكذا كان الإنسان الذي كتب المستقبل بدمه بعد أن كتب الفكر الإسلامي بقلمه، وقلّة هم الذين يمتزج حبر دمائهم بحبر أقلامهم لينطلقا معاً لتكون حركة الحياة فكراً من جهة، وجهاداً ومستقبلاً حياً يؤذن بالنصر ولو من بعيد من جهة أخرى.
نحن عندما نلتقي بذكرى شهادته، نريد أن نعيش بعض فكره لنناقشه، لينطلق الجيل الجديد في الاتجاه الذي انطلق منه فكره، لأننا لا نريد أن نتجمّد عند الكبار من شخصياتنا، إننا نريدهم أن يكونوا المنطلق لإبداع جديد لجيل جديد، ولا نريد لهم أن يكونوا في وعينا النهاية لحركتنا في الفكر وفي الإبداع، لذلك أطلق السيد الشهيد الحركة والمسيرة في الأرض، وعلينا أن نتابعها بأساليب جديدة ومناهج جديدة، وقد أطلق الفكر الإسلامي في الوجدان الإسلامي، فعلينا أن ننطلق به في إبداع جديد وفي تجارب فكرية جديدة.
ربما نطل على الفكر السياسي للسيد محمد باقر الصدر في أحدث مفرداته في التجربة الفكرية التي أرادها عند ولادة الجمهورية الإسلامية استجابة لسؤال بعض العلماء الذين طلبوا منه أن يرسم خطوطاً لهذه الجمهورية الوليدة، وكانت له فكرته التاريخية في أن الله عندما خلق الإنسان أعطاه دورين: الدور الأول، هو دور الخلافة، فهو خليفة الله في الأرض {إني جاعل في الأرض خليفة} خليفته على الأرض وعلى كل ما فيها، خليفته على الأرض كيف ينظمها ويديرها، وخليفته على ما في الأرض كيف يركز كل معطياته وكل عناصره من أجل أن تكون الأرض جنة الله الأولى، التي يمكن للناس أن يعيشوا فيها نوعاً من السعادة يمثل لهم ما ينتظرهم من السعادة المطلقة في الآخرة، كان خليفة الله على الأرض وعلى مجتمعه، فالإنسان يعيش الخلافة حتى في موقعه من الإنسان الآخر.
والدور الثاني، هو دور الشهادة، فالإنسان هو الشهيد الذي يشهد غداً أمام الله يوم يجمع الله الناس يوم القيامة، هو الشهيد الذي يشهد على كل حركة التجربة الإنسانية في سلبياتها وفي إيجابياتها، وقد جمع الله هذه الشهادة وهذه الخلافة لأنبيائه وللأصفياء من عباده، وكانت المسألة ـ لا سيما من خلال الفكر الإسلامي الشيعي ـ لمن الولاية في غيبة الذين عيّنهم الله شهداء وخلفاء، هل تكون الولاية للأمة أم أنها للفقيه؟! ونحن نعرف أن الفكر الإسلامي انطلق ليوازن بين نظرية ولاية الفقيه التي تجعل الولاية للفقيه وبين نظرية الشورى التي تجعل الولاية للأمة بطريقة من الطرق.
وفي هذا المجال انطلق الشهيد الصدر في تفصيل جديد، فهو يرى أن هناك حالتين للأمة، هناك حالة تملك فيها الأمة حريتها الداخلية في وعيها للإسلام وحريتها الخارجية أمام الطاغوت، وهناك حالة تعيش فيها الأمة تحت تأثير الطاغوت الداخلي من حيث هو طاغوت الفكر المنحرف والطاغوت الخارجي وهو الحاكم المنحرف.
ففي الحالة التي تكون فيها الأمة تحت تأثير الطاغوت بحيث لا تملك حريتها في إدارة نفسها ولا تملك حريتها في تقرير مصيرها وتولّي أمرها، فإن المرجعية المتمثلة بالفقيه الواعي المنفتح على الإسلام في فكره وفي فقهه، والمنفتح على الواقع في وعيه وتجربته للواقع هو الذي يملك الخلافة في هذه الحال ليقود الأمة باعتبار كونه جزءاً من الأمة، ولكنه الجزء الواعي ليتحرك بالأمة إلى التحرر، فإذا تحررت الأمة أخذت الأمة ولايتها لتديرها بنفسها ويبقى الولي في دور الشهادة، لتكون للأمة الخلافة، وليكون للفقيه الشهادة الذي يراقب من خلالها حركة الأمة في مسيرتها من حيث انسجامها مع الخط الإسلامي العام في حركتها في الخطوط التفصيلية للإسلام ومدى ما تختزنه في حركة التجربة من نقاط الضعف ونقاط القوة ليكون الشهيد الذي ترجع إليه الأمة لتسأله عن شهادته في تجربتها قبل أن يؤدي شهادته إلى الله في ذلك، وليعطي الأمة الوعي الذي تستطيع أن تكون فيها شهيدة على بعضها البعض في تجربتها التي يمكن أن تتحرك من خلال توزيع الأدوار هنا وتوزيع الأدوار هناك.
وهو يستشهد في ذلك في ولاية الأمة على نفسها بالآيتين الكريمتين وهي قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} حيث يستفيد منها ـ خلافاً لكثير من الفقهاء التقليديين ـ أن مسألة الشورى هي مسألة تعيش في عنوان الحكم وفي حركته كما تعيش في حركة الواقع كله، فالشورى هي العنوان التشريعي لحركة الواقع الإسلامي كله، فلا بد منها في أي موقع لم ينص الله عليه بنص معيّن، بل وفي كل موقع ترك بدون نص خاص، فإنه لا بد للأمة أن تعيش الشورى فيما يجتهد فيه المجتهدون وفيما يجرب فيه المجربون.
وهكذا يستدل بقوله سبحانه وتعالى: {المؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، فهو لا يعطي الولاية هنا معنى التعاون والتناصر، وإنما يعطيها المعنى الفقهي الذي يجعل المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فالجماعة الإسلامية من الرجال والنساء لها ولاية على الجماعة الأخرى من الرجال والنساء، وهكذا تكون النتيجة أن الأمة برجالها ونسائها تمثل عنصر الولاية على نفسها.
وأحب أن أقرأ بعض نصّه في هذا المجال بشكل سريع حتى نستطيع أن نأخذ الفكرة على الأساس الذي تحدثنا عنه، يقول: "لا بد أن تشترك المرجعية والأمة في ممارسة الدور الاجتماعي الربّاني بتوزيع خطي الخلافة والشهادة، والمرجع ليس شهيداً على الأمة فقط، بل هو جزء منها وهو عادة من أوعى أفراد الأمة وأكثرها عطاء ونزاهة، وعلى هذا الأساس وبوصفه جزءاً من الأمة يحتل موقعاً من الخلافة العامة للإنسان على الأرض، وله رأيه في المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ما له من وجود في الأمة وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها"، ومن الطبيعي أنه لا بد للفقيه عندما يأخذ هذا الدور من أن يكون له فاعلية الوجود في واقع الأمة ليكون وجوده السياسي والاجتماعي بالإضافة إلى وجوده الفكري عنصراً مؤثراً في حركة الأمة يجعله جزءاً فاعلاً وحيوياً حيوياً في واقع الأمة.
ثم يقول في مقام تأصيل هذه الفكرة: "أما خط الخلافة ما دامت الأمة محكومة للطاغوت ومقصيّة عن حقها في الخلافة العامة فهذا الخط يمارسه المرجع ويندمج الخطان حينئذ ـ الخلافة والشهادة ـ في شخص المرجع وليس هذا الاندماج متوقف على العصمة"، لأن خط الخلافة في هذه الحال لا يتمثّل عملياً إلا في نطاق ضيّق في نطاق المرحلة الطارئة التي فرضت أن يتسلّم هذا الدور فهو كأنه ـ وإن لم تكن القضية بهذه الدقة ـ "يتسلّم هذا الدور بالوكالة عن الأمة، لا من خلال أصالة الدور في شخصيته وفي وجوده، وما دام صاحب الحق في الخلافة العام قاصراً عن ممارسة حقه نتيجة لنظام جبار فيتولى المرجع رعاية هذا الحق في الحدود الممكنة ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الأمة لاجتيازها هذا القصور وتسلّم حقها في الخلافة العامة".
فدور المرجع هو أن يقود الأمة نحو التحرر الذي يحرر إرادتها ويحرر واقعها من الخضوع لسلطة النظام الجبار. وهكذا يستدل على ذلك بما ذكرناه في مسألة {وأمرهم شورى بينهم} {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ونلاحظ أنه حتى وهو يتحدّث عن النبي(ص) يقول: "لا بدّ للنبي من استشارة الجماعة" {وشاورهم في الأمر} ، أما التأكيد على البيعة فهو تأكيد على شخصية الأمة وإشعارها بخلافتها العامة وأنها بالبيعة تحدد مصيرها، وأن الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه، وقد أصرّ الإسلام على البيعة للقائد المعصوم واتخذها أسلوباً من التعاقد بين القائد والأمة لكي يركز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة للأمة".
هكذا يلخّص السيد الشهيد الصدر هذه النظرية في عالم التزاوج بين المرجعية وبين الأمة ليرى أن دور المرجع هو دور الشهادة ودور الأمة هو دور الخلافة. وأن الأمة إذا لم تكن قادرة على القيام بدورها في الخلافة فإن المرجع يتسلّم ذلك، ليقود الأمة إلى التحرير، لتكون الولاية بعد ذلك للأمة تحت رقابة المرجعية باعتبار أنه يأخذ دور الشاهد في ذلك كله.