دور أئمة أهل البيت في حفظ وحدة كيان الأمة الإسلاميّة
إذا قدر لنا أنّ نجري استقراء اً لما تمسك به الأئمة من أجل حفظ كيان الأمة ووحدة المسلمين، وما تواصوا بالتزامه في هذا الطريق خلفاً عن سلفٍ من خلال الوثائق والأرقام لألفينا حالةً من حالات الإيثار وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين لا نجد لها نظيراً في دنيا الناس على الإطلاق،
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : يعتقد الشيعة أنّ علياً والأئمة من أهل البيت عليهم السلام قد أبعدوا من منصب الخلافة بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ، ولكن الروايات المتوفرة في كتب الشيعة تذكر بالتفصيل موقف أهل البيت من هذا الإبعاد.. وهو موقف مترفع يحرص كل الحرص على وحدة المسلمين واستمرار مسيرة الأمة الإسلاميّة نحو أهدافها المنشودة. وإذا قدر لنا أنّ نجري استقراء اً لما تمسك به الأئمة من أجل حفظ كيان الأمة ووحدة المسلمين، وما تواصوا بالتزامه في هذا الطريق خلفاً عن سلفٍ من خلال الوثائق والأرقام لألفينا حالةً من حالات الإيثار وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين لا نجد لها نظيراً في دنيا الناس على الإطلاق، بينما نجد في تاريخ المسلمين نماذج لا يثير اهتمامها إلاّ تحقيق مصالحهم الشخصية، حتى وإن تحمل الإسلام أعباء الخسران والنكوص، وتحملت الأمة ضروب الآلام والمحن والكوارث. وإذا شئنا ، نجري حساباً دقيقاً لمواقف الأئمة من آل البيت ـ عليهم السلام ـ المليئة اهتماماً وحرصاً على كيان الأمة ووحدتها وسلامة شوكة المسلمين لتعذر علينا حساب تلك المواقف وتعدادها كثرة ومساحة. ومن أجل ذلك فإننا في هذه المقالة المتواضعة سنذكر بعض الأرقام التي تشكل بذاتها منعطفاتٍ رئيسيّةً في مسيرة الأمّة والإسلام، ولولاها لكان للأمّة شأن آخر، ربّما يضعها في عداد الأمم البائدة الّتي تقرأ الأمم عنها في صفحات التاريخ.
أوّلاً: عليّ بن أبي طالبٍ ـ عليه السلام ـ الحامي الأوّل لكيان الأمّة: تعرضت الأمة بعد رحيل مؤسسها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى أزمة حادة كادت أنّ تعصف بها وتنهي وجودها لولا الموقف الحكيم الذي وقفه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ، فإن هذا العبد الصالح مع شدة إيمانه بحقه بضرورة النهوض بأعباء المرجعية الفكرية والاجتماعية والسياسية بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كما صرح بذلك مراراً: "أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً، والأشدون برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ نوطاً، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم الله، والمعود إليه القيامة". "فو الله مازلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً علي منذ قبض الله نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ حتى يوم الناس هذا". "إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أنّ تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت ! وما على المسلم من غضاضة في أنّ يكون مظلوماً مالم يكن شاكا في دينه، ولا مرتاباً بيقينه ! وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها" . أقول: إلاّ أنّ علياً ـ عليه السلام ـ مع ذلك حين رأى المخاطر تهدد كيان الأمة من الداخل والخارج تحامل على جراحاته النازفة، وأعلن للتأريخ والأجيال موقفه الصريح من أجل حماية مستقبل المسلمين ووحدة صفوفهم. وقد عبر عن مواقفه المبدئية الصارمة تلك عبر مناسبات عديدة، نذكر طرفاً منها: ١ ـ بعد مبايعة اجتماع السقيفة لأبي بكر رضى الله عنه خليفة للمسلمين تخلف أبو سفيان ـ صخر بن حرب ـ عن بيعة الخليفة، وطفق يجول في أزقة المدينة يحرض الناس على الخليفة، وهو يقول: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ ثم جاء إلى علي ـ عليه السلام ـ وقال له: ابسط يديك أبايعك، فو الله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً ! فأبى علي بن أبي طالب عليه السلام عليه وزجره قائلاً: "والله إنك ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً". وقد ذكر المؤرخون تفصيلات أخرى حول تحركات أبي سفيان، وإصرار الإمام ـ عليه السلام ـ على زجره ورده. ٢ ـ واستمر أبو سفيان في تحركه السياسي المذكور، فدعا العباس بن عبد المطلب للضغط على الإمام علي ـ عليه السلام ـ والعباس ـ كبقية بني هاشم ـ كان موتوراً مما جرى بعد السقيفة كما نعلم، فلما حدثا علياً ـ عليه السلام ـ بإصرارهما على بيعته والدعوة لخلع أبي بكر ـ طالما أنّ الأمر في بدايته، والحكم لم يستتب بعد ـ تحدث الإمام ـ عليه السلام ـ حديثا سيبقى غرة على جبين الزمان، وقد جاء فيه: "أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناج، أو استسلم فأراح، هذا ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه". ٣ ـ ومن الأمور الثابتة تاريخياً أنّ الفترة التي توفي فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وما بعدها بقليل كانت من أخطر الفترات التي مرت بها هذه الأمة الوليدة، فقد تحرك المنافقون وأرجفوا من داخل الإطار، وظهرت بوادر الردة عن الإسلام في اليمامة واليمن وغيرها، وظهر المدعون للنبوة من أمثال: مسيلمة وسجاح والأسود العنسي . وانتشرت دعوة الأول سريعاً فاستقطبت قبائل عربية عديدة، كما تحركت جيوش النصارى في شمال الجزيرة العربية، وأحدق الخطر بالأمة من كل جانب. وفي هذه الظروف القاسية ذاتها كانت البيعة قد عقدت لأبي بكر في السقيفة، فماذا يكون موقف علي ـ عليه السلام ـ إزاء رسالة هذا وضعها، وأمة ودولة فتية هذه ظروفها ؟ بيد أنّ علياً ـ عليه السلام ـ وبنفس مترفع حريص على الإسلام ووحدة كيان الأمة وموقعها في العالم لم يستعمل هذه الأوراق عندما حزب الأمر وأنذرت الأحداث بالخطر على الإسلام والأمة؛ وإنما ثبت موقفه وحقه في بداية الأمر، ثم تخلى عن المواجهة الصريحة التي رأى أنها تربك مسيرة الأمة وتضعف كيانها. يقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ متحدثاً عن موقفه السامي المترفع ذلك: "فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده ـ صلى الله عليه وآله ـ عن أهل بيته، ولا أنهم منحوّه عني من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ، فخشيت إنّ لم أنصر الإسلام وأهله أنّ أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه" . ٤ ـ لم يقف الإمام ـ عليه السلام ـ عند هذا الحد، وإنما باشر بنشاطاتٍ إيجابيةٍ في إطار الفكر والتربية والتشريع كلما سنحت له الفرصة. صحيح أنه لم يشارك في أي عملٍ عسكري، لا في مستوى قياديٍّ ولا في مستوى مقاتل طوال حكم الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، ولم يشارك في عمل إداري بالمرة، إذ لم يعمل قاضياً ولا والياً، ولا عاملاً على الصدقات، ولم يتول أي أمر إداري بهذا المعنى أو غيره؛ حرصاً منه ـ عليه السلام ـ على التمسك بشرعية موقفه الذي اتخذه في بداية الأمر، إلاّ أنه بالرغم من ذلك صار محوراً للتوجيه، والتقويم لكثير من أمور المسيرة كلما سنحت الفرصة واتيحت له ظروف التصحيح. وهذه مصاديق حية هي مما حباه الإمام ـ عليه السلام ـ لمسيرة الأمة في تلك المرحلة من طرق الفريقين: أـ جاء في الرياض النضرة: بسنده عن ابن عمر: (أنّ اليهود جاؤا إلى أبي بكر فقالوا: صف لنا صاحبك، فقال: يا معشر اليهود كنت معه في الغار كإصبعي هاتين، ولقد صعدت معه جبل حراء، وأن خنصري لفي خنصره، ولكن الحديث عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ شديد، وهذا علي ابن أبي طالب فأتوا علياً. فقالوا: يا أبا الحسن، صف لنا ابن عمك، فقال: لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالطويل الذاهب طولاً، ولا بالقصير المتردد، كان فوق الربعة، أبيض اللون، مشرباً حمرة، جعد الشعر ليس بالقطط، يضرب شعره إلى أرنبته، صلت الجبين، أدعج العينين، دقيق المسربة، براق الثنايا، أقنى الأنف، كان عنقه إبريق فضة، له شعرات من لبته إلى سرته كأنهن قضيب مسك أسود، ليس في جسده ولا في صدره شعرات غيرهن، وكان شن الكف والقدم، واذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت الفت بمجامع بدنه، واذا قال غمر الناس، وإذا قعد علا الناس، وإذا تكلم أنصت الناس، وإذا خطب أبكى الناس، وكان أرحم الناس بالناس، للليتيم كالأب الرحيم، وللأرملة كالريم الكريم. أشجع الناس، وأبذلهم كفاً، وأصبحهم وجهاً، لباسه العباء، وطعامه خبز الشعير، وأدامه اللبن ووساده الأدم محشو بليف النخل، سريره أم غيلان مرمل بالشريط، كان له عمامتان: إحداهما تدعى السحاب، والأخرى العقاب، وكان سيفه ذا الفقار، ورايته الغراء، وناقته العضباء، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، وفر سه مرتجز، وشاته بركة، وقضيبه الممشوق، لواؤه الحمد، وكان يعقل البعير، ويعلف الناضح، ويرقع الثوب، ويخصف النعل). ب ـ وقد أورد اليعقوبي في تاريخه قال: (أراد أبو بكر أنّ يغزو الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فأشار أنّ يفعل، فقال: إنّ فعلت ظفرت، فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيباً وأمرهم أنّ يتجهزوا إلى الروم، فسكت الناس، فقام عمر فقال: لو كان عرضا قريباً وسفراً قاصداً لانتدبتموه، فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المنافقين يابن الخطاب ؟ فما يمنعك أنت ما عبت علينا ؟ فتكلم خالد بن سعيد وأسكت أخاه فقال: ما عندنا إلاّ الطاعة فجزاه أبو بكر خيراً ثم نادى في الناس: بالخروج وأميرهم خالد بن سعيد) . ج ـ وفي مناقب ابن شهر آشوب: (وسأل رسول ملك الروم أبا بكر عن رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار، ولا يخاف الله، ولا يركع، ولا يسجد ويأكل الميتة والدم، ويشهد بما لم ير، ويحب الفتنة، ويبغض الحق فلم يجبه. فقال عمر: ازددت كفراً إلى كفرك، فأخبر بذلك علي ـ عليه السلام ـ فقال: هذا رجل من أولياء الله لا يرجو الجنة ولا يخاف النار، ولكن يخاف الله ولا يخاف من ظلمه، وإنما يخاف من عدله، ولا يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة، ويأكل الجراد والسمك، ويأكل الكبد، ويحب المال والولد (إنما أموالكم وأولادكم فتنه(، ويشهد بالجنة والنار وهو لم يرهما، ويكره الموت وهو حق). د ـ وفي كنز العمال (٤ / ٣٩) عن أبي البختري، عن علي قال: قال عمر بن الخطاب للناس: فضل عندنا من هذا المال، قال الناس يا أمير المؤمنين قد شغلناك عن أهلك وضيعتك وتجارتك فهو لك. (قال علي): فقال لي ك ما تقول أنت ؟ قلت: قد أشاروا عليك، قال: قل، قلت: لا تجعل يقينك ظناً، فقال: لنخرجن مما قلت، فقلت: أجل والله لأخرجن منه. أتذكر حين بعثك نبي الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ساعياً ؟ فقلت لي: انطلق معي إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فنخبره بالذي صنع العباس، فانطلقنا إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فوجدناه خاثراً، فرجعنا، ثم غدونا عليه الغد، فوجدناه طيب النفس، فأخبرته بالذي صنع العباس فقال لك: أما علمت أنّ عم الرجل صنوا أبيه ؟ وذكرنا له الذي رأيناه من خثوره في اليوم الأول، والذي رأيناه من طيب نفسه في اليوم الثاني. فقال: إنكما أتيتما في اليوم الأول، وقد بقي عندي من الصدقة ديناران، فكان الذي رأيتما من خثوري لذلك، وأتيتما في اليوم الثاني وقد وجهتهما، فذلك الذي رأيتما من طيب نفسي، فقال عمر: صدقت والله لأشكرن لك الأولى والآخرة. هـ ـ وأخرج علي المتقي الحنفي الحديث المتقدم من خمسة كتب: مسند أحمد بن حنبل، ومسند أبي يعلى، وكتاب الدورقي، وسنن البيهقي، وسنن أبي داود. هذا وقد أخرج هذه القضية جماعة من علماء السنة والإمامية غير من تقدم ذكرهم. منهم: المحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى بسنده عن موسى بن طلحة (أنّ عمر اجتمع عنده مال فقسمه ففضل منه فضلة فاستشار أصحابه في ذلك الفضل، فقالوا: نرى أنّ تمسكه، فإذا احتجت إلى شيء كان عندك، وعلي في القوم لا يتكلم، فقال عمر: مالك لا تتكلم يا علي ؟ قال: قد أشار عليك القوم، قال: وأنت فأشر، قال: فإني أرى أنك تقسمه، ففعل)، أخرجه السمان. و ـ وجاء في كتاب "ثمرات الأوراق في المحاضرات" تأليف الإمام تقي الدين أبي بكر بن علي، المعروف بابن الحجة الحموي الحنفي ـ المتوفى سنة ٨٣٧ هـ ما هذا نصه: (إنّ المسلمين تكامل لهم فتوح الشام فأقاموا على دمشق شهراً، فجمع أبو عبيدة أمراء المسلمين واستشارهم في المسير إلى قيسارية، أو إلى بيت المقدس، فقال له معاذ بن جبل: أيها الأمير، اكتب إلى أمير المؤمنين عمر فحيث أمرك امتثله، قال له: أصبت الرأي يا معاذ، ثم كتب إلى أمير المؤمنين عمر يعلمه بذلك، وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي فسار حتى وصل المدينة، فسلم الكتاب إلى عمر، فقرأه على المسلمين واستشارهم، فقال علي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين، مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس، فإذا فتح الله بيت المقدس صرف وجهه إلى قيسارية، فإنها تفتح بعدها إنّ شاء الله تعالى، كذا أخبرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، قال عمر: صدق المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ، وصدقت أنت يا أبا الحسن ثم دعا بدواة وبياض وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر إلى عامله بالشام أبي عبيدة: أما بعد، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو، وأصلي على نبيه، وقد وصلني كتابك تستشيرني إلى أي ناحية تتوجه، وقد أشار ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالمسير إلى بيت المقدس، فإن الله يفتحها على يديك، والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة قرأه على المسلمين، ففرحوا بالمسير إلى بيت المقدس، وتقدم الجيش إلى بيت المقدس، وأقام المسلمون في القتال عشرة أيام، وأهل بيت المقدس يظهرون الفرح لعدم الخوف... ـ إلى أنّ قال ـ: فانصرف أبو عبيدة وأمر الناس بالكف عن القتال. وكتب أبو عبيدة إلى عمر: يعلمه بالخبر على يد (ميسرة بن مسروق) فلما وصل الكتاب إلى عمر فرح، وقراه على المسلمين، وقال: ما ترون ؟ فكان أول من تكلم عثمان ابن عفان، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد أذل الروم، فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف، فلا يثبتون إلاّ يسيراً، قال: فلما سمع عمر ذلك من عثمان جزاه خيراً، وقال: هل عند أحد منكم رأي غير هذا، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: نعم، عندي غير هذا الرأي وأنا أبديه إليك، فقال له عمر: وما هو يا أبا الحسن، قال: إنّ القوم قد سألوك وفي سؤالهم ذل، وهو على المسلمين فتح، وقد أصابهم جهد عظيم: البرد، والقتال، وطول المقام، وإن سرت إليهم فتح الله على يديك هذه المدينة، وكان لك في مسيرك الأجر العظيم، ولست آمن منهم أنهم إذا أيسوا منك أنّ يأتيهم المدد من طاغيتهم، فيحصل للمسلمين بذلك الضرر، والصواب أنّ تسير إليهم. ففرح عمر بمشورة علي، وقال: لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو، وعلي أحسن النظر للمسلمين، جزاهما الله خيراً، ولست آخذ إلاّ بمشورة علي، فما عرفناه إلاّ محمود المشورة، ميمون الطلعة. ثم إنّ عمر أمر الناس أنّ يأخذوا الاهبة للمسير معه) .
ثانيا: الإمام الحسن بن علي ـ عليه السلام ـ يواصل عملية الحفاظ على وحدة المسلمين: بدأ الإمام السبط الحسن بن علي ـ عليه السلام ـ حياته السياسية زعيماً للمسلمين بعد أنّ بايعته جماهير عاصمة الدولة الإسلاميّة ـ الكوفة ـ بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ. إلاّ أنّ زعامة الإمام السبط ـ عليه السلام ـ لم تشمل مساحة الأمة الإسلامية كلها بسبب الشقاق الذي أحدثه معاوية ابن أبي سفيان في الجناح الغربي للدولة منذ الأيام الأولى لخلافة أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ. وهكذا تصاعد هذا الانشقاق ليتحول إلى استعدادات عالية لمواجهة عسكرية بين شطري الأمة: الشطر الذي يقوده سبط رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الحسن بن علي ـ عليه السلام ـ والشطر الذي يقوده معاوية. وقد زحفت جيوش معاوية من الشام باتجاه العراق، فكان هذا اختباراً عسيراً جداً لحرص الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ على رسالة جده ـ صلى الله عليه وآله ـ والأمة التي صنعها على عينه وموقفه من المصلحة الإسلاميّة العليا. وقد يتجلى نجاح الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ في هذا الاختبار العسير إذا علمنا: أنّ الإمام ـ عليه السلام ـ كان يملك مقومات كثيرة للصمود والمواجهة،
كما تؤكد ذلك المصادر التاريخية الموثقة. فمصادر جبهة الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ تشير إلى ذلك وتؤكده بقدر ما تؤكد ذلك مصادر جبهة معاوية. ومصادر العدو عادة تساعد كثيراً على إبراز هذه المسألة وتكون أكثر تأثيراً في تكوين الرؤية عن الطرف المقابل في مقام التقويم: فقد ورد في كتاب الاستيعاب لابن عبد البر: أنّ حواراً دار بين معاوية ومهندس سياسته عمرو بن العاص حول القوة الفعلية التي يملكها الحسن بن علي عليهما السلام وكان ابن العاص يعطي انطباعاً عن جبهة الإمام الحسن بأنها جبهة واهنة جداً، قد انفل حدها وانكسرت شوكتها، إلاّ أنّ معاوية قد لفت نظر ابن العاص ـ في ضوء المعلومات الموثقة التي يملكها ـ إلى أنّ علياً قد بايعه أربعون ألفاً على الموت. "فوالله لا يقتلون حتى يقتل أعدادهم من أهل الشام.." . وهكذا كان معاوية يخشى المواجهة مع تلك القوة الحقيقية التي يقودها الحسن السبط ـ عليه السلام ـ هذا وذكر أبو مخنف ـ لوط بن يحيى ـ بإسناده ما يلي: (لما بايع الحسن ـ عليه السلام ـ معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال.. فقال الحسن ـ عليه السلام ـ: أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها اركض وأنصب ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلاّ حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله، وسلموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا) . روى جبير بن نفير، عن أبيه قال: قدمت المدينة فقال الحسن بن علي عليهما السلام "كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء المسلمين". فمن هذه الوثائق التاريخية يستفيد المؤرخ: أنّ الحسن بن علي عليهما السلام كان ذا قدرة فعلية على المواجهة لفترة طويلة، ربما ترهق العدو إلى درجة كبيرة، وتحقق مكاسب سياسية منظورة لجبهة الإمام السبط عليه السلام، إلاّ أنّ بصيرة الإمام الحسن كانت تعني: أنّ وحدة كيان الأمة لا تتوفر مع ديمومة هذا الصراع الذي سيأتي على البر والفاجر، وأن مستقبل المواجهة لا يضمن حفظ العناصر الخيرة في هذه الأمة إذا استمرت هذه المواجهة مع الجبهة الأموية. ومن أجل ذلك فإن حكمة الإمام السبط ـ عليه السلام ـ وحرصه على وحدة كيان الأمة وإصراره على حفظ دماء المخلصين الخيرين من هذه الأمة جعله يستجيب لمشروع الصلح، ويغض الطرف عن حقه مدة حياة معاوية فحسب، على أنّ يلتزم معاوية ابن أبي سفيان بالكتاب والسنة، ويرفع الأذى عن الناس، ويشيع العدل بين المسلمين وأمثال ذلك من الشروط. إنّ هذا الموقف الحسني ينبئ عن الإيثار والحرص على الإسلام والأمة وقواها الخيرة، ويعطي انطباعاً عن إنسان يقل نظيره في تاريخ البشر، خصوصاً إذا كان موقفه قد صدر وهو يمسك بمصادر قوة لا يستهان بها، فهو لم يصالح معاوية وهو في وضع عسكري منهار، وهكذا يبقى آل محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ رمزاً لحفظ كيان الأمة، وسلامة وجودها وإن كلفهم ذلك وجودهم المقدس، الأمر الذي لم نجد شبيهاً له لدى أحدٍ من أمة محمدٍ ـ صلى الله عليه وآله ـ أو في جماعة منها. فلقد تخلى الإمام السبط ـ عليه السلام ـ عن أمر طالما غامر من أجله الطامحون والباحثون عن الزعامة رغبة منه ـ عليه السلام ـ لما عند الله تعالى، وحرصاً منه على وحدة المسلمين ومكانتهم بين الأمم ثالثا: الإمام علي بن الحسين السجاد ـ عليه السلام ـ ووحدة كيان الأمة:
لم يتعرض رجل من آل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ما تعرض له الإمام زين العابدين علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام من مآسي. فقد شهد هذا الإمام العلوي ـ وهو في مطلع شبابه ـ أبشع صور المآسي التي حلت بالبيت النبوي المكرم، حيث شهد في كربلاء مجزرة مروعة شملت رجال أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأصحابهم، وفي مقدمتهم ريحانة رسول الله وسبطه الحسين بن علي عليهما السلام وقطعت رؤوسهم، وأبرد بها إلى الطاغية في الشام يزيد بن معاوية. كما نهب جيش بني أمية بقيادة عمر بن سعد ابن أبي وقاص مضارب آل النبي ـ عليه السلام ـ ومتاعهم، حتى ملاحف النساء، كما شملت المجزرة أطفالاً للحسين السبط عليه السلام، وقد استتبع تلك المأساة الدموية حمل عقائل أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أسارى إلى الشام، وما رافق ذلك من إهانات واحتقار لم يعامل به حتى أسرى البلاد المفتوحة. أقول: هذه المأساة بكل تفاصيلها شهدها بقية السلف من آل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد رأى صور القتل الجماعي لذرية النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعينه. وقد عاش اسيراً مع عماته وأخواته وعقائل أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لعدة أسابيع تنقل من كربلاء إلى الكوفة والى الشام، ثم إلى كربلاء، ثم إلى مدينة جده رسول الله، حيث لازم الأسى والمحنة طوال حياته، فكانت مشاهد المأساة لا تفارق خواطره أبداً. فماذا يتوقع الإنسان من رجل ينطوي قلبه على مثل هذا الثأر وهو أي ثار ؟ ! إننا نذكر موقفاً واحداً للإمام السجاد ـ عليه السلام ـ لنرى أي نفوس كبيرة هذه التي يحملها أئمة هذا البيت العظيم: رغم كل ما جرى على آل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أيام الحكم الأموي فإننا نرى الإمام السجاد ـ عليه السلام ـ يدعو دعاء خاشعاً لجيش المسلمين الذي يقوده سلاطين بني أمية، ويصدرون له أوامر التحرك في مختلف الأقاليم إنّ هذا الجيش الذي يدعو له الإمام السجاد ـ عليه السلام ـ بالنصر والعزة والغلبة على الكفار كانت بعض قطعاته في يوم ما قد انتهكت حرمة النبي وأهل بيته عليهم السلام في كربلاء، إلاّ أنّ الإمام يدعو لهذا الجيش طالما يحقق عزاً للمسلمين تجاه أعدائهم في بعض المواقف، رغم الأخطاء والأفعال الشنيعة التي تصدر من الجيش بين حين وآخر. فمصلحة الإسلام والأمة هي التي توجه عواطف الإمام ـ عليه السلام ـ وتحدد مسار آماله وآلامه. ولا يزال هذا الدعاء الخاشع غرة على جبين الزمان، ويدعى في صحيفة الإمام السجاد بدعاء"الثغور" وهذه بعض فقرات منه: "اللهم صل على محمّد وآله، وحصن ثغور المسلمين بعزتك، وأيد حماتها بقوتك، واسبغ عطاياهم من جدتك، اللهم صل على محمّد وآله، وكثر عدتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألف جمعهم، ودبر أمرهم، وواتربين ميرهم، وتوحد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر، اللهم صل على محمّد وآله، وعرفهم ما يجهلون، وعلمهم مالا يعلمون، وبصرهم مالا يبصرون، اللهم صل على محمّد وآله، وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنة نصب أعينهم... الخ" فهل حدث التاريخ أنّ إنساناً يحمل قلبه ثاراً دون ثار الإمام زين العابدين ـ عليه السلام ـ، يدعو بالنصر خاشعاً لجيش يساهم في تسلط أعدائه، ويطيل عمر وجودهم السياسي والسلطوي ؟ كل ذلك من أجل الإسلام وكيان الأمة، وارتفاع راية المسلمين. الخط العام لسياسة الأئمة مع مخالفي خطهم: ومع اقتناع أئمة أهل البيت عليهم السلام بخطهم الفكري والفقهي، وكونه الحق، وحرصهم عليه وعلى نشره بين الناس إلاّ أنهم لا يفرضون قناعاتهم على أحد وإنما يخاطبون العقول، ويتعاملون مع الضمائر والوجدان في برنامجٍ حكيمٍ يلتمس الحجة، ويعتمد البرهان، ويتعامل بالحكمة والموعظة الحسنة. ولذا فإنهم يضعون تعريفاً للإسلام والمسلم لا يلغي الآخرين، ولا يصادر حرية الأفكار والعقول. يقول الإمام أبو جعفر، محمّد بن علي الباقر ـ عليه السلام ـ موضحاً معنى الإسلام: "والإسلام: ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك عن الكفر، وأضيفوا إلى الإيمان". ويقول الإمام أبو عبدالله الصادق ـ عليه السلام ـ: "الإسلام: هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان" . وقال ـ عليه السلام ـ: "الإسلام: شهادة أنّ لا إله إلاّ الله، والتصديق برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعليه جماعة الناس ". وبهذه الأحاديث والمصاديق والمواقف نكون قد أعطينا صورة واضحة عن الموقف الحريص لأئمة أهل البيت ـ عليه السلام ـ على وحدة المسلمين، واجتماع كلمتهم. الأستاذ عز الدين سليم رسالة التقريب / العدد ٤