المنبر الحسيني تطور من مجلس للعزاء والنعي الى مجالس للتثقيف السياسي والتنوير الثقافي . وهي بحاجة الى تطوير وتهذيب لتتناسب مع العصر والرسالة .
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : مع حلول شهر محرم الحرام أقامت مؤسسة الأبرار الإسلامية بلندن ندوة تحت عنوان: "تطور المنبر الحسيني عبر التاريخ" تحدث فيها الباحث المشارك في دائرة المعارف الحسينية الدكتور نضير الخزرجي. كان ذلك يوم الخميس ٢ ديسمبر ٢٠١٠ م وأدار الندوة وقدم لها فضيلة الشيخ حسن التريكي قال فيها: يحل علينا بعد أيام شهر محرم الحرام وهو شهر الحسين، شهر التضحية والفداء. وما أن يحل هذا الشهر حتى تبدأ مجالس العزاء التي أمر بإقامتها أئمة أهل البيت (ع)، كما ورد عن الإمام الصادق (ع): (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا)، ويقول أحد أصحابه: دخلت عليه يوماً وهو يصلي ثم سجد وبدأ يدعو لزوار الحسين فقال: (اللهم ارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس وارحم تلك الدموع التي جرت رحمة لنا أهل البيت).
لقد انطلقت هذه المجالس وتطورت عبر التاريخ حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن وتحولت إلى مدارس بل إلى جامعات وأصبح أتباع أهل البيت يُحسدون عليها. بعض الغربيين الذين اطلعوا على مجالس أبي عبد الله كانوا يتساءلون ويقولون: إننا إذا أردنا أن نعد مؤتمراً فإننا نستغرق وقتاً طويلاً للإعداد وتوزيع الدعوات فكيف يتسنى لكم جمع هذا الحشد الكبير في زمان واحد وأمكنة معينة، ويزدادون استغراباً عندما يعرفون أن أحداً لا يقدم دعوة لأحد، بل إن صاحب المأتم يفتحه فيبدأ الناس بالحضور تلقائيا. وهذه المجالس تطورت عبر التاريخ، وما يزال هناك مجال لتطويرها وتهذيبها لتتناسب مع العصر والرسالة.
وبعد التقدمة تناول الإعلامي والأكاديمي العراقي والباحث في دائرة المعارف الحسينية الدكتور نضير الخزرجي، أطراف الحديث مستعرضا التطور الذي حصل في المنبر الحسيني عبر التاريخ قائلا: المجلس الحسيني: أو المنبر الحسيني مادته هي الخطابة، وفي التاريخ فإن الخطابة سبقت الشعر. وهناك أدب نثري وشعر. الأدب المنظوم أخذ دوره في الأدب، وللخطابة دورها كذلك. كل واحد منا يستطيع أن يتكلم ولكن قد لا نستطيع أن نكتب بيت شعر واحد، فالخطابة قديمة، ويقال عن شعيب انه كان شيخ الخطباء وكذلك إبراهيم ومحمد (ص).
وقد جعل الله الخطابة جزءاً من العبادة فنحن نصلي العيدين والجمعة، والصلاة تحتوي على الخطابة، بينما هناك آيات تذم بعض أشكال الشعر، أما الخطابة فمحبوبة. اليونانيون كانوا شديدي الاهتمام بالخطابة، والمرافعة جزء مهم في القضاء والمحاكم، والمحامي القادر على التأثير على القضاة يعتبر محامياً جيداً، ويقول أرسطو: (الخطابة هي القوة القادرة على الإقناع). وتعد الخطبة جزءاً من عقد الزواج.
المنبر الحسيني: لماذا قيل المنبر: لأن المنبر هو أحد معالم المجلس. الرسول عندما كان يخطب في بداية الإسلام كان يخطب واقفاً، فأحس الصحابة انه يتعبه فوضعوا له جذع نخلة يتكأ عليها، وفي السنة السابعة صنعوا له منبراً، وكان عليه الصلاة والسلام يستعمل عصى ويتوكأ عليها وقت الخطبة، واشتهر قوله (ص): إن أتخذ منبراً فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن أتخذ عصا فقد اتخذها أبي إبراهيم.
فالمجلس الحسيني يرادفه المنبر الحسيني الذي يرتقيه الخطيب. وبالنسبة لإقامة مجلس الإمام الحسين (ع) فنعلم أن الرسول بكى الإمام الحسين وكذلك الإمام علي. فالمجلس الحسيني كان موجودا في بداية القرن الأول الهجري. ويعتقد أن أربعة أشخاص كانوا أول من أسس المجلس الحسيني هم: الإمام علي السجاد وزينب الكبرى وأم كلثوم وفاطمة بنت الحسين (ع).
لقد كانت الدولة الأموية هي المسيطرة، ولم تكن هناك مجالس كما نعرفها في القرن الأول الهجري بل كانت سرية، واشتهر من الراثين في هذه الفترة سليمان بن قتة العدوي المتوفى سنة ١٢٦ هـ، وبعد سقوط الأمويين وقيام العباسيين بدأت الصحوة للمجلس الحسيني على يدي الإمام جعفر الصادق فكان يشجع الشعراء الذين كانوا يمثلون دور الخطباء، وبقي الشعر هو الأساس في الأدب العربي، وظهر إلى جانب الشعراء القصاصون والمنشدون (الرواديد).
قبل المذياع كانت المجالس والمقاهي والدواوين تستقبل القصاصين، هذه المهنة قديمة، وكان القصاصون يروون ما حدث في كربلاء، وكذلك المنشدون، خصوصاً في القرن الثاني الهجري، أولئك كانوا يمثلون المجلس الحسيني في تلك الفترة.
في القرنين الهجريين الثالث والرابع تطور المنبر بعد فترة الكبت، فبرزت المجالس بشكل كبير نظراً لقيام دول مثل الأدارسة في شمال أفريقيا والفاطميين في مصر والبويهيين في إيران والعراق والحمدانيين في حلب. وهنا أخذ المنشدون والشعراء والمداحون دورهم في فترة الدول الإسلامية الشيعية مثل دولة الحمدانيين التي نبغ فيها المتنبي.
في تلك الفترة ظهر أسلوب جديد في الأدب الحسيني، فظهرت القصائد الطوال التي تتجاوز مائة بيت. فالشاعر يسرد فيها قصة ما حدث في كربلاء فهو يقرأ المقتل منظوماً. تلك الدول شجعت الشعراء على النظم، فنرى الشعراء الموالين لأهل البيت ينظمون القصائد الطوال في أهل البيت ويضمنون فيها مفردات عقائدية كالتوحيد والنبوة والإمامة، كل ذلك يطرح من خلال القصائد الحسينية. وكان هناك المنشدون والمداحون الذين يحفظون الشعر ويلقونه. استفاد هؤلاء من هذا الجو بتطوير المجلس بشكل كبير.
إذن لدينا مرحلة التأسيس في عهد الإمام السجاد (ع) ثم مرحلة التأصيل في عهد الإمام الصادق (ع)، ثم مرحلة الإنتشار، وعنها وقال المقريزي في خططه: كان الفاطميون، في يوم عاشوراء، ينحرون الإبل والبقر لإطعام الناس ويكثرون النوح والبكاء، ويتظاهرون بكل مظاهر الحزن والأسف، واستمروا على ذلك حتى انقرضت دولتهم وجاء عهد الأيوبيين الذين مثّلوا أدوار الأمويين والعباسيين مع الشيعة، وأضاف المقريزي إلى ذلك: وفي يوم عاشوراء من سنة ٣٩٦ هـ جرى الأمر فيه على ما يجري في كل سنة من تعطيل الأسواق، وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد.
ونص آخر حول بغداد أيام الدولة البويهية حيث كانت الأسواق تعطل، ومن يزور القاهرة يجد بعض هذه المعالم فهناك المداحون والخيام والسرادقات تنصب في مولد الحسين (ع) عند مسجد رأس الحسين، في السابق كان هناك نوع من الرثاء والمديح، والآن هناك المديح، وقد سألنا احد الباعة خلال زيارتنا للقاهرة عما إذا كان لديه شريط رثاء بالطور المصري، فقال، هذا مكان رأس الحسين يا فندم، هذا مكان فرح.
ويعتبر قيام الدول الإسلامية فترة انتشار المجلس الحسيني. حتى في الدول الإسلامية الشيعية غير الإمامية الإثني عشرية حيث كانت هناك مجالس عزاء.
ثم ظهرت مرحلة جديدة: فانتشار المجالس الحسينية مع قلة الخطباء اضطر البعض لوضع مجالس حسينية مكتوبة يقرأها الخطباء وغير الخطباء، فيلقي الشخص المجلس لأهله أو حارته، واشتهرت هذه الظاهرة في القرنين الهجريين التاسع والعاشر، وعرفت تلك المرحلة بالروضة نسبة إلى كتاب (روضة الشهداء) للواعظ الكاشفي المتوفى سنة ٩١٠ هـ. ومن كتاب الروضة جاءت كلمة "روزه خون" أي قارئ كتاب روضة الشهداء.
وظهر كتاب المنتخب للطريحي الذي انتشر أيضا بين المسلمين الشيعة، أحدهم لفخر الدين الطريحي المتوفى سنة ١٠٨٥ هـ والآخر بالإسم نفسه لشقيقه عبد الوهاب الطريحي المتوفى أواخر القرن الحادي عشر الهجري. واشتهرت كتب المقاتل التي ظهرت خلال مراحل زمنية متباينة وبلغ عددها ١٢٠ مقتلاً، والمقتل سرد لما جرى من حوادث يوم العاشوراء، وهناك كتب أخرى فيها مقاتل وغير مقاتل، ومجموع المقاتل وما يوازيها بلغ عددها نحو ٢٤٠ كتاباً، وتعتبر مادة خصبة للخطيب وشجعت على تطوير المجلس الحسيني.
ثم نجد مرحلة العودة إلى الخطابة الارتجالية. المدارس الإسلامية بدأت تنشر الخطباء في كل مكان، وبدأ الخطيب يخطب بدون كتاب. في القرن الثالث عشر بدأ الخطيب السيد حسين آل طعمة الحائري المتوفى سنة ١٢٧٠ هـ الخطابة الارتجالية. ومن الطرائف في هذا المجال يقول احد العلماء: ذهبت إلى إحدى الدول الأفريقية، وفي الصلاة قام الخطيب وبدأ يعظم الملك فؤاد في مصر في وقت كان النظام الجمهوري هو القائم في مصر، فالخطبة كانت جاهزة قرأها الشيخ الأفريقي وربما لم يكن يعرف معناها وإلا لفطن للأمر، فالخطبة الجاهزة تفقد فائدتها مع مرور الوقت بخاصة وأن المجلس الحسيني يهدف توعية الأمة، والقراءة من الكتاب لا يؤدي ذلك الهدف خصوصاً عندما تكون هناك تحولات في المجتمع. لقد وشهد القرن الثالث عشر الهجري عودة جديدة للخطابة الارتجالية.
في مرحلة الاستعمار (البريطاني والفرنسي والبرتغالي وغيرهم) كان المجلس الحسيني يمثل صوت الأمة، كما حدث في ثورة العشرين في العراق، وفي شمال أفريقيا كانت الخطابة بشكل عام، عامل دفع للأمة ونهضتها لاسيما أثناء الصلاة، فخبطة صلاة الجمعة نسميها (الخطبة السياسية) وألصق شيء لدى الأمة هي الخطبة، وما يوفره المجلس الحسيني ينقل الأمة إلى وضع أفضل.
وفي مرحلة الاستعمار احتاجت الأمة فيها إلى أشياء جديدة، فبدأ بإنشاء المعاهد الخطابية في المؤسسات الدينية هدفها تخريج الخطباء، وهي مرحلة بدأت في الهند ثم انتقلت إلى باكستان ثم العراق.
وقد أجرى الشيخ الدكتور محمد صادق الكرباسي صاحب دائرة المعارف الحسينية مسحاً للمعاهد الخطابية في الجزء الأول من كتاب "معجم خطباء المنبر الحسيني" فوجد أنها بدأت في الهند، فلماذا؟ وذلك لأن الاستعمار البريطاني غزا الهند قبل العالم العربي وبقي فيها قرناً ونصفا، كما أن بعد المسافات بين الهند والعالم العربي شجع على إنشاء المعاهد، وهناك حسين بارا، وإمام بارا في الهند، وكانوا يشيدون مراقد شكلية لمراقد الأئمة للتبرك. وأقاموا معاهد للخطابة أيضا وذلك في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، كما كانت معاهد للخطابة في كربلاء والنجف. وفي مرحلة ما بعد الاستعمار: كان للخطيب دور مشهود في مواجهة الاستعمار، وقد احتاجت الأمة بعد الاستعمار لمنابر أخرى، ولذلك نجد خطباء مثل السيد صالح الحلي في العراق والمتوفى سنة ١٣٥٩ هـ، والشيخ احمد الكافي في إيران والمتوفى سنة ١٣٩٨ هـ، لهم دور كبير في التوعية والتغيير فطرح الشيخ الكافي مفهوم الإنتظار تمهيداً لظهور الحجة مستفيداً من المجلس الحسيني وحركة الإمام الحسين ومصيبته، واستفاد الحلي من المنبر الحسيني في التثقيف السياسي والتنوير الثقافي.
ولا يخفى أن الحركة الإسلامية في العراق والهند وإيران وغيرها استفادت من المجلس الحسيني كثيرا، خصوصاً شعار (يا لثارات الحسين)، باعتبار أن "الحسين" اكبر مفردة ثورية تستطيع أن تنهض بالأمة. وهذا ما حصل في إيران على سبيل المثال وقد اشتهر عن الإمام الخميني كلمته المشهورة: (كل ما لدينا من كربلاء)، وقد بلغت الثورة ذروتها في شهري محرم وصفر.
وفي العراق كان للمجلس الحسيني دور في تثبيت أركان الثورة بالضد من الإستعمار البريطاني، فهناك مواكب الطلبة التي يخافها النظام، وقد كان للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أثناء فترة المعارضة السياسية معاهد حسينية للمبلغين والمبلغات وجهها لاستنهاض الأمة، ونحن نعلم أن نشاط الحركة الإسلامية في محرم يبلغ أوجه وتستطيع أن تتحدى النظام الحاكم.
لقد ساهم التطور في الاتصالات بتوصيل المعلومة إلى أوسع نطاق ممكن، واستطاع التلفاز والفضائيات والشبكة البينية توسيع دائرة وصول الكلمة الحسينية، الأمر الذي ينبغي قوله أننا بحاجة لتطوير المجلس الحسيني، ومن وسائل ذلك الاستفادة من النقد الأدبي الذي يخدم الأديب والأمة، نحتاج لنقد المجلس الحسيني، فمعظم الخطباء لا يقبلون بذلك. باعتقادي أن النقد البناء للمجلس الحسيني يقوّم الخطيب وينفع الأمة، وبالمناسبة جاء احد الخطباء وهو على المنبر برواية غريبة فسألته: من أين أتيت بها؟ فقال من الكتاب الفلاني، فلما بحثت لم أجدها وعندما كررت السؤال عليه في اليوم التالي قال: من صدور الحافظين. هناك روايات تحتاج إلى تدقيق.
نعم لدينا خطباء على مستوى راق، الشيخ الوائلي قدم من خلال المنبر الحسيني ما لم يقدمه بعض الفقهاء، وحتى الآن فإن محاضراته راقية برغم وفاته عام ١٤٢٤ هـ، وقد بلغ مبلغاً من العلم استطاع أن يترك أثراً كبيراً، ومع تطور عصر الاتصالات ينبغي أن يتطور المجلس الحسيني ويصبح مسؤولاً وقادراً على التأثير.