الالتزام بالثوابت والعقيدة ( الايديولوجيا) في الحكم والعمل السياسي والتغييري هو الذي يحقق السيادة الحقيقية ونظام الحكم المثالي , ام رعاية المصالح السياسية التي يفرضها الواقع الموجود بحيث يؤدي الى التخلي عن الثوابت ؟ هذا ما يجيب عليه كاتب المقال .
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : سعيد شهابي في الاساس ينطلق دعاة التغيير ورموز المعارضة في البلدان غير المستقرة، في عملهم المناويء للحكم، على اساس امتلاك "ايديولوجيا" مخالفة لما لدى المتربعين على كراسي الحكم. هذه الايديولوجيا تعتبر من اهم وسائل تعبئة الانصار الذين يسعون لاقناع الجماهير بها وحشد دعمهم على طريق التغيير. هذه ملاحظة يمكن مشاهدتها في المجتمعات التي تبحث عن انظمة حكم اكثر استقرارا وتعبيرا عن تطلعات الجماهير. ولكن هل حقا هناك ايديولوجيا مخالفة لايديولوجية الحكم؟ بمعنى اليس الحكم نفسه أيديولوجية قائمة بذاتها؟ ربما يختلف الكثيرون مع هذا الطرح ويصرون على التمييز بين الحكم والعقيدة السياسية لدى الفئات والاحزاب، المتنافسة في المجتمعات الديمقراطية، او المتنازعة في البلدان غير المستقرة، كما هو حال اغلب دول العالم العربي.
ولكن فحص اداء الفئات والاحزاب المختلفة عندما تصل الى الحكم يكشف ان اداء تلك الحكومات متماثل الى حد كبير، حتى ليبدو ان الحكم نفسه، أيا كان القائم به، منظومة من القيم والمباديء، تمارسها الاحزاب الثورية على غرار ممارسة الاحزاب التقليدية بدون وجود اختلافات جوهرية كبرى. تنطبق هذه الفرضية على الاتجاهات ذات النزعة الاسلامية كما تنطبق على النظم العلمانية. فكأن للحكم منظومته النفسية والاخلاقية الخاصة. وربما تفسر هذه الحقيقة ما يتضح من مفارقات بين الطرح والاداء من قبل الاحزاب الدينية او اليسارية او الليبرالية، اذ تبدو ان ممارساتهم جميعا لا تختلف كثيرا في مفاصلها عما يمارسه المتحللون من الانتماء العقيدي. فالوزير "الاسلامي" لا يختلف عن الوزير "العلماني" الا ضمن اطر الممارسة الشخصية البعيدة عن الحكم. والمسؤول الشيوعي يمارس دوره كسياسي ضمن المنظومة الدبلوماسية المعمول بها في اروقة الحكم. والانتماء العقيدي لا يؤثر كثيرا في نمط اداء المسؤولين او الوزراء، الامر الذي يؤدي الى شعور بالاحباط في نفوس الجماهير التي كانت تعيش احلام الوصول الى "جمهورية افلاطون" التي يقودها الملك الفيلسوف.
فما ان يصل "المجاهد" او "المناضل" الى المنصب حتى تبدأ التغيرات ليس على سلوكه الشخصي فحسب، من "الشعور بالاهمية" او الاحساس بالانتماء الى طبقة الحكم والنبلاء، بل على تصوراته والتشبث بمقولات "الواقعية" و "العقلانية" و "خذ وطالب". ولا شك ان هذه الاطروحات للوهلة الاولى تبدو مقنعة، ولكنها في اغلب الاحيان تستعمل لاخفاء التغيرات النفسية التي تطرأ على الاشخاص عندما يقعون اسرى للمنصب والجاه والسلطان.
الجانب المهم في هذا التغير ما يطرأ على "الايديولوجيا" من تغييرات قد تؤدي الى تشوهها تماما، حتى تصبح السلطة والحكم هما الاولوية في المشروع السياسي لدى الفئة او الحزب او الاشخاص المنتمين لاي منهما. وهنا تتعرض "الايديولوجيا" لمحاولات ترويض متواصلة. وفي خضم السجال المحتدم حول ما هو مسموح بالتنازل عنه وما هو ضروري التشبث به، تكون الغلبة عادة للطرف الاقوى ماديا، اي المرتبط بالسلطة والحكم، فلديه من الوسائل والحماية القانونية والقضائية والمعلومات التي تحصل عليها بسبب منصبه، ما يجعل طرحه يبدو اكثر واقعيا واقرب لتحقيق "المصلحة". ويمكن القول ان المصلحة والايديولوجيا غالبا ما تكونان امرين متضادين تماما. فالمصلحة تضحي بالعقيدة السياسية والمباديء الثورية، وتضع السلطة والتشبث بها اولوية لا يضاهيها شيء آخر. وتدريجيا تتحول الايديولوجيا الى "دوغما" مرفوضة من قبل النخب التي اصبحت مصالحها مرتبطة بمصالح الحكم، أيا كان المهيمنون عليه.
هذه القابلية لتطبيع القيم والمباديء للواقع السياسي كثيرا ما ادت الى تلاشي الطرح الايديولوجي عند اول معول سياسي بعد الانخراط في العمل السلطوي. وفي العقود الثلاثة الماضية تبلور الصراع بين الايديولوجيا والحكم بشكل واضح بعد ان قررت المجموعات الاسلامية في دول عربية واسلامية عديدة الانخراط في العمل السياسي ضمن المنظومات السياسية القائمة. وطرحت لذلك مبررات غير قليلة، واعتبرها بعض النشطاء ليس ضرورة فحسب بل مهمة استراتيجية لا يجوز تجاوزها او القفز عليها. وكان واضحا ان بعض هذه الوجودات حقق شيئا من الصعود، كما حدث في السودان في الثمانينات، وكما يحدث الآن في تركيا.
الفارق ان الوضع التركي متميز جدا، ويمثل حالة اخرى لا تتكرر كثيرا في عالمنا العربي والاسلامي خصوصا مع ارتباط ذلك البلد الاسلامي الكبير والعريق باوروبا وما يعنيه ذلك من وجود رقابة دائمة على قضايا الحريات العامة والمشاركة السياسية وحقوق الانسان. هذا مع وجود قناعة لدى قطاع غير قليل بان التجربة التركية مهددة باستمرار نظرا لمواقف الدول الصديقة لتركيا وخشيتها من ابتعاد ذلك البلد عن القبضة الغربية لغير صالح النظام السياسي الغربي القائم.
ومع ان تيار المشاركة ضمن الانظمة السياسية ما يزال قويا، فان الصراع بين الايديولوجيا والحكم سيظل محتدما في السنوات المقبلة. وقد لاحت مؤشرات لوجود حالة تمرد داخلية في بعض التجمعات الاسلامية بعد ان ادركت قواعدها استحالة احداث تغيير حقيقي من داخل انظمة حكم موجهة لغير صالح تلك القوى التغييرية، وتتم ادارتها وتوجيهها من جهات اجنبية كبرى. وقد جاء قرار جبهة العمل الاسلامي الاردنية بمقاطعة الانتخابات البرلمانية تعبيرا عما اسماه البعض "صحوة ضمير" لدى قادتها وشعورهم بان الاستمرار في المشاركة ضمن النظام السياسي القائم انما يقوي الحكم ولا يساعد الجبهة على التقدم. فانظمة الحكم هذه محمية بقوانين لا تسمح لاحد بتجاوز اطرها التي تهدف للحفاظ على النظام السياسي القائم بأي ثمن. وقالت الجبهة في بيانها حول قرار المقاطعة انها لجأت اليه بعد ان تعرض اعضاؤها للاعتقال والاستفزاز واصبح مستحيلا عليها احداث تقدم في منظومة الحكم.
الامر الواضح هنا ان "الايديولوجيا" التي تحملها الجبهة اما تم تهميشها او اصبحت غير ذات شأن على صعيد احداث تغيير سياسي يذكر. فبرغم مشاركة الجبهة اكثر من عشرين عاما، فانها فشلت في تجميد العلاقات بين الحكومة الاردنية و"اسرائيل"، ولم تستطع منع استهداف اعضائها من قبل اجهزة الامن. وشيئا فشيئا وجدت الجبهة نفسها تتجه نحو المزيد من التهميش واللاجدوى. واتضح بعد تجربة طويلة ان مقولة التغيير من الداخل امر لا يمكن تحقيقه. ومما ساعد الجبهة على اتخاذ قرارها كونها، الى حد كبير، منتظمة ضمن اطر حزبية واضحة منعها من التفكك برغم وجود توترات داخلية بين القيادات والرموز والكوادر الحزبية. جبهة العمل الاسلامي لم تغير ايديولوجيتها القائمة على اساس ما يطرحه الاخوان المسلمون من ضرورة تحكيم الشريعة، الامر الذي اتاح لها اعادة تقييم موقفها على اساس ذلك. المشكلة تكمن عندما تتغير ايديولوجية التغيير وتستبدل بمهمات هي في الغالب مهمات الاتحادات والنقابات العمالية، اي تحسين الاوضاع المعيشية للمواطنين، والسيطرة على اسعار السلع الاستهلاكية واحتواء البطالة. هذه القضايا تستبدل الجانب الايديولوجي للحركة، فيهبط سقف المطالب بشكل كبير، فيشعر الحاكم انه نجح في تحييد الجهات المناوئة في مقابل "تنازلات" طفيفة.
الاحزاب العاملة في الدول الديمقراطية لا تحمل ايديولوجيا للحكم مختلفة عما لدى من هم في السلطة. والسبب ان هذه الانظمة راسخة في منظومتها السياسية. وحتى الاتجاهات المتطرفة في هذه البلدان محكومة بتلك الاطر، مع اختلاف في اساليب التعامل مع قضايا الهجرة والبطالة والهوية، فهي بالتالي لا تحمل ايديولوجيا اخرى غير التي تطرحها الاحزاب الحاكمة. اما في بلداننا فالوضع ليس كذلك، لان النظام السياسي الحاكم ليس متوافقا عليه من قبل الاطياف المجتمعية خصوصا ذات الايديولوجيا منها. ومع ان هناك من يأخذ على "المؤدلجين" مواقفهم، ويصر على ابقاء السياسة وادارة شؤون الناس خارج المماحكات الفكرية، فان من حق المنتمين لمشروع فكري او ديني ان يسعى لتحقيق مصالح الناس على اساس ما لديه من قناعات فكرية ودينية. وليس الخطأ ان ينطلق الاسلاميون مثلا على اساس انتمائهم العقيدي، بل المرفوض ان يطرح ذلك بمنطق استئصالي او تعسفي، وبمصادرة حق الآخرين في طرح ما لديهم. ومن خلال تجارب الاسلاميين العديدة في العقود الثلاثة الماضية، يجب الاعتراف بان الاسلاميين لم يكونوا في وضع يحسدون عليه، خصوصا مع وجود قوى تسعى لمصادرة وجودهم كقوى سياسية ترغب في تقديم البديل على اساس ديني. ان الفكر الاستئصالي، ايا كانت هويته، هو الذي يمثل مصدر الخطر على امن الشعوب والانسانية. هذا الفكر ليس محصورا بالمجموعات الاسلامية المتطرفة، بل ان انظمة الحكم في العالم العربي هي الاخرى استئصالية بطبيعتها. ولذلك ما برحت السجون تستقبل زرافات المعارضين، حتى في حقب الانفتاح النسبي. وما تزال التقارير الدولية تصدر تباعا لتسليط الاضواء على معاناة اصحاب الفكر والسياسة الباحثين عن الخلاص لشعوبهم وامتهم. وما يزال التعذيب ممارسة روتينية حتى في سجون الدول التي تدعي امتلاكها مشروعا انتخابيا ومجالس نيابية. من هنا يجد من يخضع للضغوط الخارجية او الداخلية ويوافق على مسايرة انظمة الحكم في مشاريعها السياسية يجد نفسه عاجزا عن الوفاء لناخبيه بوعوده، ومضطرا لمجاملة الحاكم ولو كان ذلك على حساب قيمه ومبادئه.
في عالم الصراع بين الايديولوجيا و "المصلحة" يدفع المؤدلجون ثمنا باهضا للاصرار على مواقفهم وسياساتهم. ويمكن القول ان الموقف ازاء "اسرائيل" يعتبر واحدا من اخطر القضايا التي تتحدى ذوي الايديولوجية السياسية الملتزمة. ففي الاجواء المفروضة على عالم العرب والمسلمين، التي تدفع الحكام للهرولة نحو التطبيع، تطرح المسألة الايديولوجية نفسها على التيارات والاحزاب الاسلامية واليسارية بشكل ملح. فالانظمة التي تطرح مشاريع "الاصلاح السياسي" او "الانفتاح" تؤازر تلك الاطروحات بخطوات للتطبيع مع "اسرائيل". وهنا يجد اصحاب الايديولوجيات السياسية خصوصا من الاسلاميين انفسهم في مواجهة مع قناعاتهم ومنطلقاتهم الفكرية التي تقوم اساس على رفض الاحتلال وعدم الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. ولذلك وجد الذين حاولوا التعايش مع الانظمة العربية القائمة انفسهم في صراع بين واقع لا يقرونه، واهداف لا يقرها الحاكمون. فاذا كان الاخوان المسلمون في مصر، مثلا، يبررون مشاركتهم بالسعي الحثيث للاستفادة من التسهيلات والفرص التي توفرها المشاركة البرلمانية، فلا بد انهم اكتشفوا الآن ان اكثر من عشرين عاما من المشاركة مع النظام لم تحقق لهم الكثير، وان هناك قطاعات واسعة من قواعدهم اصبحت تشعر بالاحباط والحرج.
ليست القضية في الايديولوجيا الداعية للتحرر والتحرير، فهذه الايديولوجيا هي التي تأسست عليها حركات التغيير في العالم على مدى التاريخ. انما تتفاقم المشكلة عندما تتم "شخصنة" المصلحة. فالشخص او الزعيم او القائد الذي يسعى لاقناع الآخرين بالسير وراءه على اساس قدرته على تحقيق "المصلحة" ولو بالمساومة على ما كان من عداد "الثوابت" يبدأ العد التنازلي الى الوراء. هذا لا يعني التخلي الكامل عن منطق المصلحة ومراعاتها، ولكن يعني ضرورة ابقاء المبدأ والايديولوجيا والثوابت العقيدية والانسانية فوق الاعتبارات وعدم اخضاعها للمساومة بذريعة "درء المفسدة" و "تحقيق المصلحة". والتجارب القديمة والمعاصرة تثبت ان الذين تمسكوا بالثوابت هم الذين حققوا المصلحة لشعوبهم واممهم. فمثلا في حساب الربح والخسارة لا يمكن، تأسيسا على مقولة "الواقعية السياسية" تبرير ما قام به حزب الله في ٢٠٠٦ عندما اعتقل جنديين اسرائيليين بهدف مبادلتهما بالاسرى اللبنانيين والعرب، فذلك، وفق منطق المصلحة، لا يحقق الهدف بل يؤدي الى ضرر اكبر. وبالمقاييس المادية لا يمكن مقارنة القوة التي يملكها حزب صغير بما لدى كيان مدعوم من قبل الولايات المتحدة الامريكية. مع ذلك جاءت النتيجة على غير ما توقعه "المصلحيون" او "الانتهازيون". وكذلك الامر بالنسبة لمنظمة "حماس" التي خاضت حربا دفاعية شرسة عندما تعرضت لعدوان اسرائيلي كاسح العام الماضي.
وأثبتت النتائج ان ايديولوجيا المقاومة فرضت حقائق جديدة اكدت ان الثبات على المباديء والثوابت والقيم يعبد طريق النصر وتحقيق الاهداف. وفي حسابات الربح والخسارة، والصراع بين الايديولوجيا والمصلحة، والتمسك بمبدأ اداء الواجب في مقابل منطق الذرائعية، يصعب حسم اي موقف، لان لكل من الطرحين وزنهما الذي لا يمكن تجاوزه. من هنا اصبح لزاما على القيادات والكوادر اعادة النظر في تاريخ الحركة الاسلامية المعاصرة بهدف استكشاف مدى قدرتها على الالتزام بثوابتها امام محن الاغراء والاستدراج من قبل انظمة الحكم في بلدانها، ومدى قدرتها على الحفاظ بالايديولوجيا في زمن اصبحت قيم الاستهلاك والمادية بدائل لقيم المباديء والقيم والايديولوجيا، وأصبحت مقولة "توفير الخدمات" بديلا لاطروحة الاصلاح السياسي، و "التعايش مع الواقع" أكثر قبولا من "السعي لاحداث التغيير".