الثروة السياسية التي تعيشها تونس تبرز أن الأسباب نفسها التي أسقطت بن علي بعد ٢٣ سنة من الحكم الاستبدادي وعسكرة البلاد موجودة وبقوة في باقي دول شمال إفريقيا: المغرب والجزائر وليبيا ومصر.
شارک :
وكالة أنباء التقریب (تنا) : تحقيق التغيير السياسي ليس رهنا بصعود الحركات الإسلامية كما تبرز عدد من الدراسات الغربية والعربية بل بانفجار الشعوب التي تحس أن مستوى الضغط والاحتقار السياسي ونهب ثرواتها قد بلغ مستوى لم يعد محتملا. يعيش المغرب العربي على إيقاع تطورات تونس التي تحمل معها الكثير من الأسئلة حول مستقبل الأنظمة الحاكمة في هذه المنطقة بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي نتيجة الظلم السياسي والاجتماعي الذي مارسه لأكثر من عقدين. ظلم مماثل يوجد في باقي دول المنطقة، مما يجعل احتمال انتقال عدوى الاحتجاجات المشروعة أمرا ورادا للغاية. لكن في الوقت نفسه تحمل هذه التطورات تساؤلات عن المواقف المشينة للغرب المؤيد لهذه الأنظمة، حيث أصبح هذا الغرب عائقا أمام التطور الديمقراطي. والثروة السياسية التي تعيشها تونس تبرز أن الأسباب نفسها التي أسقطت بن علي بعد ٢٣ سنة من الحكم الاستبدادي وعسكرة البلاد موجودة وبقوة في باقي دول شمال إفريقيا: المغرب والجزائر وليبيا ومصر. فالجزائر تعيش فسادا ويعاني الشعب من التفقير رغم المداخيل المالية الهائلة من النفط والبترول، وبدأت عائلة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وبالأخص أشقاءه ينسجون علاقات أخطبوطية لمشاركة الجنرالات في الاستحواذ على خيرات البلاد. وفي المغرب، يغتني محيط العاهل المغربي الملك محمد السادس بشكل مستفز وفضائحي في حين يعاني الشعب من غلاء المعيشة ويهان المعطلون يوميا بهراوات قوات الأمن أمام البرلمان. وأصبح النظام في ليبيا يتحكم في المصير المالي والسياسي لهذا البلد، وتحاول عائلة الرئيس حسني مبارك الانضمام الى نوادي العائلات الملكية الحاكمة بعدما سيطرت على قطاعات اقتصادية استراتيجية، في حين تراجع الفساد في موريتانيا بفضل الانقلابات العسكرية الأخيرة شهدتها البلاد. ورغم هذا الفساد المتحكم في دواليب الحكم في شمال إفريقيا، ينبري الغرب وخاصة الاتحاد الأوروبي للدفاع عن أنظمة هذه الدول. فزين العابدين بن علي كان يعد وحتى سقوطه المدوي 'الابن المدلل للغرب' بسبب سياسته المتشددة ضد الإسلاميين، إذ لا يهم هذا الغرب ارتفاع الفساد وخروقات حقوق الإنسان المتواصلة ونهب أموال الشعب من طرف بطانة الحاكم والتي تذهب في معظمها لأبناك أوروبية بقدر ما يهمه وجود حاكم يجنب هذا الغرب بعبع 'الإسلاميين'. وفي حالة تونس، تبقى تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين وخاصة الفرنسيين مستفزة بكل المقاييس السياسية والدبلوماسية وأساسا الإنسانية باستثناء التنديد الأمريكي بما يجري. فوزيرة الخارجية ميشيل إليوت ماري اعتبرت في بداية الأسبوع أن فرنسا لا يمكنها إعطاء الدروس للآخرين في جوابها على أسئلة الصحافيين الذين طالبوها بموقف باريس من أحداث تونس. تصريح مستفز سياسيا، لأنه يبرز انتقائية التعامل مع الدول، فبينما باريس تضغط على الرئيس لوارن غبابو في ساحل العاج تلتزم الصمت أمام ما يجري في تونس والجزائر، وبينما تدين سقوط ضحايا في دول مثل زيمبابوي ترفض التضامن الإنساني مع قتلى تونس. وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أكثر استفزازا منذ ثلاث سنوات عندما أشاد بنظام زين العابدين بن علي واعتبره ديمقراطيا رغم أنه أكثر من ٣٥٠ ألف تونسي حلوا ضيوفا على سجون هذا النظام خلال عقدين بسبب أفكارهم أو احتجاجهم. وهناك تفسير آخر للصمت الفرنسي، ومرده أن تنديد باريس بما يحدث في المغرب العربي قد يدفع أنظمة هذه الدول الى تقليص نفوذ باريس وفتح الباب أمام النفوذ الأمريكي.
واعتاد الغرب دعم الشعوب التي تنتفض ضد حكامها منذ نهاية الثمانينات إبان سقوط جدار برلين وحتى الثورات في جورجيا وأوكرانيا وتشجيع المعارضة في دول مثل فنزويلا وبوليفيا والإكوادور ، لكن عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي، يغيب هذا التأييد.
هذه الانتقائية الخطيرة تجعل هذا الغرب لا يتناقض فقط مع ما يحمله من مبادئ ديمقراطية بل تجعله يمارس الإجرام. ومن ضمن الأمثلة، فأنظمة المغرب العربي بل العالم العربي تسرق وتنهب خيرات شعوبها، وهو عمل يعتبر من الناحية القانونية خرقا يستوجب المحاكمة والقصاص، وقيام الدول الأوروبية بالإشادة بأغلب هذه الأنظمة يجعلها شريكا في الجريمة. ويؤكد الغرب أنه يكافح ضد التطرف الديني والإرهاب الذي تمثله الحركات الإسلامية العنيفة، ورغم أن الدراسات الأكاديمية سواء الغربية أو في العالم الإسلامي تؤكد أن التطرف هو نتاج غياب العدالة الاجتماعية الناتجة عن سوء الحكم في الدول العربية وخاصة المغرب العربي، إلا أن هذا الغرب يتجاهل هذه الحقائق بشكل سافر ويقف إلى جانب أنظمة متعفنة سياسيا وإداريا.
ومن جهة أخرى، يقدم الغرب وخاصة فرنسا مشاريع مشتركة مع شمال إفريقيا ضمن التعاون بين الاتحاد الأوروبي والضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ويتضح أن المشاريع تهم فقط ما هو اقتصادي مثل الترخيص بتصدير بعض المواد الأولوية والزراعية والطاقة مقابل ضرورة تطبيق حكام شمال إفريقيا سياسة أمنية ضد الهجرة والإرهاب نيابة عن أوروبا. ومن ضمن الهدايا التي قدمها الغرب لحكام شمال إفريقيا نجد القوانين المتشددة في منح اللجوء السياسي. فخلال السبعينات وحتى منتصف التسعينات، كانت الدول الأوروبية ترحب بالفارين بآرائهم ومواقفهم السياسية من سجون الحكام العرب وتمنحهم اللجوء السياسي، وكانت عواصم أوروبا تعج بالحركات المعارضة بل كان الاتحاد الأوروبي يشترط إبان التسعينات توقيع الاتفاقيات مع بعض الدول مثل تونس والمغرب بضرورة تحقيق بعض الانفراج السياسي والإفراج عن معتقلي الرأي. لكنه في الوقت الراهن أصبح الحصول على اللجوء السياسي في أوروبا من المعجزات، ويجد المناضل العربي نفسه أمام خيارين، إما الصمت وقبول الواقع المهين في بلاده أو الاستمرار في التشبث بمواقفه وهذا يعني قضاء جزء من حياته في السجن.
وتأتي الأحداث الجارية في تونس لتكشف الكثير من المعطيات التي كانت مغيبة عن صناع القرار سواء في العالم العربي أو في الغرب، ونجملها في: أولا، تحقيق التغيرات السياسية المستقبلية ليس رهينا بصعود الحركات الإسلامية كما تبرز عدد من الدراسات الغربية والعربية بل بانفجار الشعوب التي تحس أن مستوى الضغط والاحتقار السياسي ونهب ثرواتها قد بلغ مستوى لم يعد محتملا، وهو ما غاب عن هؤلاء الباحثين بل حتى عن الاستخبارات الغربية التي اعتقدت في الصلابة الأمنية لنظام بن علي ونصحت دولها بعدم التنديد بما يجري. فالتظاهرات في تونس كانت لأناس عاديين ليس ملتحين ولا متحجبات.
في المقام الثاني، التعبئة النضالية الإعلامية المتواصلة بفضل وسائل الاتصال الحديثة التي توفرها إنترنت مثل يوتيوب وفيسبوك وكذلك قنوات التلفزيون الفضائية بدأت تعطي ثمار التغيير. فهذه الوسائل مكنت نشطاء المجتمع المدني والسياسي في تونس من التواصل سواء من خلال تنسيق التظاهرات أو إخبار العالم بما يجري رغم الستار الحديدي الذي فرضه نظام بن علي.
في المقام الثالث، تكشف أحداث تونس أن المؤسسة العسكرية ليست مستعدة للدفاع عن أنظمة فاسدة لأنها تدرك أن العدالة الدولية قد تلاحق قادة الجيش. فالمنعطف في الانتفاضة التونسية جاء عندما رفض الجنرال رشيد عمار قائد القوات البرية فتح النار على المتظاهرين وقدم استقالته، وقتها أصبح بن علي كما يقول المثل المغربي 'يطلب السلة بلا عنب' كما تبين في خطابه الخميس. هذه المؤسسة العسكرية هي التي أصبحت الآن سدا في وجه التوريث في مصر، وقد تصبح بلاد النيل الدولة الثانية التي قد تشهد سيناريو شبيها بالتونسي.
في المقام الرابع، تأتي هذه التطورات لتبرز أن احتمال انتقال العدوى لباقي دول شمال إفريقيا واردة جدا، وأن هذه الأنظمة الاستبدادية تجد نفسها إما تنهج الانفتاح الحقيقي أو تنتظر انتفاضة اجتماعية أصبحت أكثر من مرتقبة، ويكفي أن حكومات هذه الدول أعلنت تخفيض الأسعار تجنبا للأسوأ.
في المقام الخامس، الرهان على تأييد الغرب في تحقيق الديمقراطية على شاكلة تأييده لدول أوروبا الشرقية سابقا أو كما يفعل في تأييد المعارضة الليبرالية في أمريكا اللاتينية , أصبح من الخيال السياسي لأن أجندة هذا الغرب جعلت من الحكام العرب حارسا ضد الهجرة والتطرف ومصدرا للطاقة الرخيصة وأصبح الغرب شريكا في الجرائم السياسية وعائقا أمام تطور الدول العربية نحو الديمقراطية. ويبقى الحل، الانتفاضات المباركة للشعوب. د. حسين مجدوبي ' كاتب من المغرب