قواعد تفسير النصوص وأثرها في التقريب بين المذاهب والفرق
تحويل الخلافات الحادة التي ربما صاحبت التخطئ والتجريح وجرت إلى بعض الاتهامات الجارحة، إلى اختلافات تعاونية يعذر كل فريق فيها الفرقاء الآخرين
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) :
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ـ سوريا
بسم الله الرحمن الرحيم من الأمور التي غدت اليوم من بدهيات تاريخ التشريع الإسلامي، الدور الذي لعبه علم أصول الفقه، الذي يسمى اليوم بقواعد تفسير النصوص، في تضييق رقعة الخلاف بين المجتهدين في مسائل الفقه عموما، وبين مدرستي الرأي في العراق والحديث في الحجاز خصوصا.
غير أن الذي ينبغي أن نعلمه، هو أن التعبير بتضييق رقعة الخلاف، وإن أصبح مضمونه من المعلومات البدهية لدارسي تاريخ التشريع الإسلامي، إلاّ أنه لا يعبر بدقة عن الدور الحقيقي الذي لعبه علم أصول الفقه في امر الخلافات المذهبية في صدر التاريخ الإسلامي. إن الدور الذي كان ولا يزال يقوم به هذا العلم يتمثل في تحقيق نتيجتين اثنتين:
أولاهما: إنهاء الخلاف في الفروع الفقهية وكثير من الأمور الاعتقادية، بعد أن تبين دستورها واصلها في قواعد هذا العلم، وبعد أن تبين أن ذلك الدستور أو الأصل محل اتفاق من المختلفين في تلك الفروع إلاّ أن اتفاقهم على ذلك الأصل لم يزل خلافهم في الفروع المنبثقة عنه.
النتيجة الثانية: تحويل الخلافات الحادة التي ربما صاحبت التخطئ والتجريح وجرت إلى بعض الاتهامات الجارحة، إلى اختلافات تعاونية يعذر كل فريق فيها الفرقاء الآخرين. وذلك لدى تحكيم قواعد هذا العلم، علم أصول الفقه، واكتشاف المختلفين ان القاعدة الأصولية ذاتها محل نظر وخلاف إذ كان في ذلك ما أكد لهم أن المسألة، انطلاقا من جذورها ومصدر فهمها محل نظر واجتهاد، ومن ثم فالخلاف بشأنها وارد ومعقول، ولا شك أن في هذا ما يبرز معذرة كل ذي رأي أمام صاحب الرأي الآخر.
ولعل من أبرز الأمثلة على هذا النوع من القواعد الأصولية دلالة اللفظ العام على العموم لدى الاستعمال، أتبقى قطعية كما هي في وضعها اللغوي، أم تتحول إلى ظنّية نظرا لاحتمالات التخصيص الكثيرة والممكنة. ومن المعلوم أن هذه القاعدة محل خلاف بين علماء أصول الفقه فالحنفية يرون أن دلالة اللفظ العام لدى الاستعمال تظل قطعية كما هي في وضعها اللغوي حتى يظهر دليل على التخصيص، وجمهور الأصوليين يرون أن الاستعمال ينزل بمستوى دلالتها إلى درجة الظن.
لقد كان من آثار هذا الخلاف في هذه المسألة الأساسية، خلاف الحنفية مع الجمهور في كثير من نتائجها الفقهية غير أن كلا منها اعذر الآخر في موقفه، إذ هو نتيجة منطقية لابد منها للخلاف الذي لم يمكن إنهاءه في مصدر هذه النتائج الفقهية وأساسها.
هكذا فإن الرجوع إلى علم أصول الفقه (علم قواعد تفسير النصوص) إما، أن يقضي على الخلافات المذهبية، أو أن يحيل الآراء المختلفة إلى مظهر اختلافات تعاونية تكتسب الاحترام والتقدير من ذوي الآراء المخالفة، وهذا ما قد أنجزه هذا العلم في أمر الاجتهاد والخلافات المذهبية في صدر الإسلام.
ومما لا شك فيه أن هذا العلم هو المرشح الأول اليوم للتقريب بين الآراء والمذاهب الاجتهادية، أو لتحويلها من خلافات تقاطعية حادة إلى اختلافات تعاونية متفاهمة.
لعل ما هو مطلوب منا بعد هذا، أن نوضح مصدر فاعلية هذا العلم، في ظفر الجهود وجمع شتات الآراء على نسق واحد، ثم الوصول بها إلى غاية واحدة.
وبكلمة موجزة نقول: إن هذا العلم ليس في حقيقته أكثر من منهج يضبط حركة الاجتهاد في فهم كلام الله سبحانه وتعالى.
لك أن تسأل: من الذي وضع هذا المنهج، ومن الذي ألزم العلماء والمجتهدين به؟
والجواب أن المنهج لا يوضع، بل يكتشف اكتشافا. أي إن الفكر الإنساني حياله ليس له إلاّ دور الرصد، فالاكتشاف ثم الصياغة والتقعيد والشأن أن يتم اكتشافه في أغوار النفس وعمق الإدراك ومعين الفطرة الإنسانية الأصيلة أو دلائل اللغة ومعانيها التي تلقاها جميع أهلها والناطقين بها بالدراية والقبول... أي فالشأن فيه الأصول البدهية والفطرية من المعارف الأساسية الأولى التي تكون مغروسة في فكر الإنسان بيد الإله المنعم المتفضل منذ نشأته الأولى لتكون بذورا أساسية أولى في وعي لعملية التعلم والإدراك.
أما الإبداع والاختراع، فانه أبعد ما يكون عن أن يسمى منهجا علميا معتمدا كيف ولو أمكن أن يوجد منهج المعرفة عن طريق الاختراع والإبداع لاحتاجت عملية الاختراع هذه بدورها إلى منهج يضبطها ويؤكد سلامتها عن الخطأ والوهم، وإذا اتجه الفكر إلى إبداع منهج لضبط هذا المنهج، لسوف يضطره الأمر إلى إبداع منهج ثالث... وهكذا تتسلسل الحاجة إلى ما لا نهاية.
إن في الناس اليوم من يظنون أن أولئك الذين احتكموا في خلافاتهم وآرائهم المذهبية إلى علم أصول الفقه الذي هو في حقيقته منهج لتفسير النصوص وفهمها، إنما وضعوا ذلك المنهج كما شاءته أهواؤهم، ثم استخرجوا منها النتائج والأحكام التي تعلقت بها أحلامهم فحق لمن يعدهم كذلك أن يستقلوا هم الآخرون بوضع المنهج الذي يريدون، ليتوصلوا به إلى الرغائب التي يشتهون.
ولا ريب أن هؤلاء الناس متورطون، من هذا التصور، في جهالة خطيرة وأزمة ثقافية قبل أن يكونوا متلبسين بزيغ اعتقادي أو انحراف ديني. نعم، في حالة واحدة يمكن أن يوضع المنهج وذلك عندما يكون من قبل طائفة من الناس اصطلحوا واتفقوا فيما بينهم عليه ابتغاء الوصول عن طريقه إلى شرعة أو نظام هم الواصفون له والمتفقون عليه.
أما المنهج الذي ينبغي أن يحتكم إلى الانضباط عن طريق شريعة الله وحكمه، فلابد أن يكون مجموعة من المبادئ والأسس الحيادية التي تكون موجودة وجودا استقلاليا بحد ذاتها.
والآن، ينبغي أن نبرز دور هذا العلم الذي هو في حقيقته لم يكن أكثر من ميزان تم اكتشافه ثم تدوينه، فكان المنهج الأمثل لمعرفة الدين الحق ومعرفة أحكامه الاعتقادية والسلوكية وإنما يبرز دوره هذا بعد معرفته وتمثل هيكله العلمي بشكل متكامل.
لنقل كلمة وجيزه جامعة في التبصير بجملة مسائل هذا العلم. يتكون هذا العلم من مدخل ولباب وتتمة، ولنشرح كلا منها بكلمة وجيزة:
أما المدخل فيتضمن بيان المصدر الذي تؤخذ منه مباديء الإسلام وأحكامه أجمع، سواء الاعتقادية والسلوكية. ومما لا ريب فيه أن جملة مباديء الإسلام وأحكامه لا تخرج عن كونها إنباء وإعلاما أو أمرا ونهيا. أي إنها لا تعدو أن تكون خبرا أو إنشاء.
ومما لا شك فيه أن الاطلاع على خبر ما أو التنبه إلى أمر أو نهي ما، يعتمد على سبيل واحد لا ثاني له هو النص، وهو إما أن يتضمن إخبارا على أحداث ماضية أو حاضرة أو مستقبلية، وإما أن يتضمن توجيها إلى سلوك معين عن طريق أمر أو نهي. وعقائد الإسلام كلها إنما وصلت إلينا عن طريق القسم الأول وهو الإنباء والإعلام، أما عزائمه وأحكامه فإنما وصلت إلينا عن طريق القسم الثاني وهو الأمر والنهي.
إذن فلا يمكن أن تتحقق معرفة شيء من أمور الإسلام الاعتقادية أو السلوكية إلاّ استنادا إلى نص منبئ أو منشئ، أو إلى ما هو في قوته وحكمه كالاستدلال بمفاهيمه وكالقياس عليه. والقول في الإسلام اعتمادا على مجرد الرأي والنظر أبعد ما يكون عن الانتماء إلى حقيقة الإسلام. وهذا هو معنى قول الامام الشافعي (الاجتهاد لا يكون إلاّ على مطلوب، والمطلوب لا يكون أبدا إلاّ على عين قائمة تطلب بدلالة يقصد بها إليها أو تشبيه على عين قائمة) إلى أن قال (... وإذا كان هذا هكذا، كان على العالم أن لا يقول إلاّ من جهة العلم، وجهة العلم الخبر اللازم والقياس بالدلائل).
فإذا ثبت هذا، فقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مصدر الخبر المنبئ أو الكلام المنشئ إنما هو القرآن الذي هو كلام الله، ثم هو السنة النبوية التي أمر بالاعتماد عليها والأخذ بها كلام الله.
غير أن النص قد يكون قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، وقد لا يكون كذلك.
فأما ما كان منه قطعيا، بأن يكون سبيل وصوله إلينا التواتر، وأن تكون دلالته على معناه من الوضوح بحيث لا يتحمل أي تأويل له أو أي خطأ في فهمه، فإن من أحكامه أن الناس كلهم مكلفون، والاجتهاد قد لا يرقى بصاحبه في كثير من الأحيان فوق درجة الظن، وقد يقع فيه الخطأ، وهذا القسم من العلم مبرأ من ذلك كله.
وأما ما كان منه ظنيا، بأن يكون مما وصل إلينا عن طريق الآحاد، وكانت دلالته خاضعة للاحتمالات، فإن من أحكام هذا النوع أن ثبوت كثير من المعنى الذي يفهم منه يبقى عند كثير من الناس عند درجة الظن، وربما تجاوزه الباحث إلى اليقين في حق نفسه، بعد طول تحقيق ومراس. ومن أحكامه أيضاً أن الحجة لا تقوم به وحده على العباد لحملهم واجبارهم على الاعتقاد بموجبه بحيث يكفرون لو لم يعلموه... بل يسعهم أن يجهلوه أو يكونوا في شك منه... ومن أحكامه أيضاً مشروعية التعبد به لا سيما خبر الآحاد.
وبيان ذلك أن الله إذا لطف بعباده ولم يحرجهم بتكليفهم الاعتقاد بمضمونات هذه الأخبار، نظرا إلى ان الاعتقاد لا يتحقق بالرغبة والاختيار، فليس من مقتضى ذلك أن لا يتعبدهم بها وأن لا يلزمهم بالانقياد السلوكي لما تقتضيه هذه الأخبار وإن كانت ظنية. بل الذي دل على الخبر اليقيني المتواتر هو أن المسلم متعبد، نطاق الأحكام السلوكية بخبر الآحاد وسائر ما هو في حكمه من الدلائل الاجتهادية.
ومن أوضح الأدلة القطعية على أن الدلائل الشرعية الظنية يجب العمل بها في العبادات وسائر الأحكام السلوكية، أن الله أمرنا بالدليل القطعي في كتابه أن نقضي اعتمادا على شهادة، مع العلم بأن صحة الأمر المشهود به مظنونة وليس مقطوعا بها... وأنه عز وجل أمرنا، عندما نكون بعيدين عن الكعبة أن نتجه إلى شطرها، ولاشك أن التوجه الحقيقي إليها في هذه الحالة يغدو أمرا ظنيا لاحتمال الانحراف عن سمتها... وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرسل آحاد الناس إلى الأقطار والبلاد ليعلموا الناس أحكام دينهم. ومعلوم أن أخبار هؤلاء الآحاد للناس ظنية وليست قطعية... إذن فقد ثبت بهذه الأدلة القطعية المتواترة أن الله عز وجل يقول لعباده من خلالها: حيثما ظننتم أني قد أمرتكم بأمر أو نهيتكم عن شيء اعتمادا على دليل اجتهادي سليم، فقد أوجبت عليكم تطبيق ذلك الظن والسير بمقتضاه.
فإذا استقامت للمسلم معرفة هذا المدخل، وأيقن أن كتاب الله تعالى هو مصدر هذه الشريعة وينبوعها، فإن المنطق العلمي يحمله عندئذ على أن يضع كل همه في تدبر ألفاظ هذا الكتاب، ليصل إلى المعاني المرادة منها، مستضيئا في ذلك بتدبر نصوص السنة والتأمل في موقف رسول الله وأعماله. وإنما يصل الباحث إلى المراد من كلام الله وبيان رسوله باتباع المنهج الآتي الذي ينقلنا من المدخل إلى اللباب، واللباب الذي نعنيه هنا إنما يتمثل في تلك القواعد العربية المتبعة في تفسير النصوص وفهمها، والتي لا يمكن للرجل العربي أن يسير في فهم شيء من معاني الألفاظ العربية وتراكيبها إلاّ على هديها. وتنقسم جملة هذه القواعد إلى قسمين: الدلالات، والبيان.
أما الدلالات فيقصد بها أصول دلالات الألفاظ على المعاني، وهذه بدورها تتفرع إلى اربعة فروع.
أولها: الأصول التي تتعلق بكيفية دلالة اللفظ على المعنى، وهي تنقسم إلى حقيقة ومجاز ومشترك ومفهوم، مع الشروط التي لابد من مراعاتها للتعامل معها على الوجه اللغوي السليم.
ثانيها: الأصول التي تصنف على أساسها دلالات الألفاظ إلى درجات متفاوتة من حيث قوة الدلالة على المعنى وضعفها، كالمحكم والمفسر والنص والظاهر والخفي والمشكل والمجمل... والقواعد التي يجب أن تتبع عند تعارض جملتين تتوزعها درجتان من هذه الدرجات.
ثالثها: الأصول التي تنقسم الجملة بموجبها إلى خبر وإنشاء، مع بيان أن الخبر إنما يستدل به على أمور العقائد، أو الأحكام الوضعية التي تعد أساسا وتوطئة لأحكام التكليف، وبيان أن الإنشاء هو الذي يتم التعبير به للدلالة على الأحكام التكليفية، وهي تنبثق عن صيغتي الأمر والنهي.
رابعها: الأصول التي تكشف عن مدى شمول الدلالة واتساعها، والتي بموجبها ينقسم اللفظ إلى خاص ضيق الدلالة وعام واسع الدلالة، والى مطلق يدل على فرد واحد غير معين، ومقيد يدل على فرد أو عدد متصف بصفة معينة.
وأما البيان فيقصد به التنبيه إلى الأصول والقواعد التي يتضح بها المعنى المراد من الكلام وذلك في الحالات التالية:
أ ـ عند قيام تعارض جزئي بين لفظ خاص يحمل دلالة ضيقة على معنى محدود، ولفظ عام يحمل، في نطاق الحكم ذاته دلالة غير محدودة.
ب ـ عند قيام تعارض جزئي بين لفظ يرد مطلقا، ويرد مقيدا، في نطاق الحكم ذاته.
ج ـ عند ظهور موجبات تستدعي تأويل كلمة ما، وإخراجها عن معناها الحقيقي الظاهر إلى معنى آخر مجازي.
د ـ عند الوقوف أمام كلمة مجملة، أي غامضة الدلالة، لا يتبين المعنى المراد منها إلاّ بالرجوع إلى قرائن وأدلة أخرى.
فان ثمة قواعد واصولا متبعة ومقررة في فقه اللغة العربية من شأنها إزالة الإشكال أو الغموض في كل هذه الأحوال وبيان المعنى المراد من المتكلم.
وأما التتمة فهي تتعلق بمن يريد أن يستخرج الأحكام الشرعية من مصادرها ويتبين دلالات النصوص ويوفق بين المختلف والمتعارض منها، إذ ليس كل مسلم قادرا على فهم المعنى المراد واستخراجه.
وتتضمن هذه التتمة شروط الاجتهاد، وبيان أحكام الفتوى والاستناد، وتتضمن أيضاً ترتيب الأدلة لدى النظر في الأحكام وأصول الترجيح عند تعارض الأدلة بعضها مع بعض.
فهذا المنهج عبارة ـ كما ترى ــ عن مجموعة قواعد حيادية تنبثق من أصول الدلالات اللغوية وفقهها أو المنطق العام وأصول الدراية والنظر.. ومن ثم فهو الميزان الوحيد الذي يكشف عن التزام المسلم واستقامته على سنن الهداية والرشد، كما يكشف عن زيغ أصحاب الأهواء وانحرافهم عن سنن الصراط المستقيم وضوابطه.
ويتجلى دور هذا المنهج في تحقيق النقاط التالية:
١ ـ تذويب الخلافات في اجتهادات موحدة، بالنسبة لسائر المسائل المتصلة بقواعد أصولية متفق عليها. فقد كان لتلك القواعد أثر كبير في جمع الآراء المتناثرة والقضاء على الخلافات. ومن دقق النظر يفهم أن ذوبان كثير من الفرق الإسلاميّة الشاردة في إطار أهل السنة والجماعة، كالمعتزلة، والمعطلة، والمرجئة، والجهمية، والمجسدة، إنما يعود الفضل فيه إلى هذا الميزان، لا سيما قواعده المتفق عليها... فلقد كان اتفاقهم عليها ـ ولم يكن لهم في ذلك من خيار ـ موجبا لاتفاقهم فيما تفرع عنها من مسائل وجزئيات.ومن ثم ضمرت ثم اختفت المسائل الخلافية التي أبرزت الهويات المتناقضة لتلك الفرحة وجسدتها مدة قرنين تقريبا من الزمن. ولكن ها هو التاريخ يشهد كيف انطوت واختفت تلك الهويات في منهج السواد الأعظم لهذه الأمة الإسلاميّة الواحدة. ولولا هذا المنهج الجامع متوجا بمشاعر الإخلاص لوجه الله، لاستمرت تلك الفرق في رسوخ وتباعد، ولعادت عقائد الإسلام أمشاجا من الآراء والمذاهب المتناقضة.
٢ ـ تحويل الخلافات المتقاطعة الحادة إلى اختلافات تعاونية، يعذر فيها صاحب كل رأي واجتهاد إخوانه من ذوي الآراء المخالفة، وذلك بالنسبة للمسائل المتصلة بقواعد أصولية بقيت هي نفسها محل نظر وخلاف.
من ذلك اختلافهم في كيفية فهم وتطبيق القاعدة العربية القائلة (إذا كثر المجاز لحق الحقيقة) فلقد فسر بعض منهم كثرة المجاز وشيوعه بأن تصبح الحقيقة مهجورة، كقول الرجل (أكلت من هذه الشجرة) وفسر ذلك آخرون بتعارف الناس على فهم المعنى المجازي للكلمة ومبادرته إلى الذهن، وإن لم تكن الحقيقة مهجورة. وذلك كقول الرجل (شربت من النهر) أو (ما وضعت قدمي في دار فلان).
ومن ذلك خلافهم في الاعتداد بمفهوم المخالفة، وهل الدلالة اصل في اللغة العربية؟ ومن ذلك خلافهم ـ كما ذكرنا ـ في دلالة اللفظ العام عند الاستعمال: أتبقى قطعية كما هي في أصل وضعها اللغوي، أم تصبح ظنية نظرا إلى أن أكثر العمومات عند الاستعمال يلحقها التخصيص.
فلقد كان بقاء الاحتمال في هذه القواعد وأمثالها، موجبا لإعذار كل فريق صاحبه، في مجال الاختلاف الذي لابد منه في الفروع التطبيقية لهذه القواعد. وهذا يعد من أهم مظاهر التقارب.
٣ ـ الكشف عن المواقف الناجمة عن اتباع الأهواء، والتعصب للانتماء... فقد بقيت رواسب من المسائل الخلافية التي كانت ولا تزال تغذي التباعد المذهبي، دون أن تكون لها جذور من القواعد الخلافية في علم الأصول، ويبقى المبرر الوحيد للخلاف فيها والشرود بها عن القواعد الأصولية عليها، إنما هو التعصب للذات والإمعان في اتباع الأهواء.
من ذلك الإمعان في منع تأويل آيات الصفات، وتضليل الذين يؤولونها، دون الاتقان إلى القاعدة العربية الأصولية التي هي محل اتفاق من علماء العربية أجمع، وهي قولهم: (إذا كثر المجاز لحق الحقيقة) والتي من شأنها أن تفتح باب التأويل لمن يرى ذلك. هذا بقطع النظر عن واقع كثير من رجال السلف وعلمائه الذين أولوا الكثير من آيات الصفات، إعمالا منهم لهذه القاعدة مثل الامام احمد والامام البخاري، وحماد بن زيد، وجعفر الصادق، والضحاك، وغيرهم.
ومن ذلك الإمعان في تأويل قوله تعالى: (طيرا أبابيل) بداء الجدري، دون النظر إلى أن قاعدة النظر في تأويل الحقيقة بالمجاز، تمنع ذلك باتفاق، إذ من شروط التأويل ظهور علاقة بين المعنى الحقيقي المتروك للكلمة، والمعنى المجازي الذي يصار إليه. ومن المعلوم أنه لا توجد أي علاقة بين المعنى الحقيقي لطير الأبابيل ومرض الجدري. فهو كمن يؤول الجدار بالطعام، والكتاب بالأسد والتفاح بالحذاء.
ومن ذلك الإمعان في تضليل من يرفع صوته بالصلاة على رسول الله عقب فراغه من الأذان. دن النظر إلى القاعدة الأصولية القائلة (الفظ المطلق يجري على إطلاقه )، والتي هي محل اتفاق ومن المعلوم أن حديث الأمر بالصلاة على رسول الله بعد الأذان جاء مطلقا، أي غير مقيد... والقاعدة الأصولية تقتضي فتح المجال لتنفيذ الأمر النبوي على أي هذه الأشكال شاء المؤذن أو السامع.
بقي أن نتساءل: فما هو دور علم أصول الفقه هذا في التقريب بين مذهبي الشيعة وأهل السنة والجماعة؟
والجواب أن مذهب الشيعة له جانبان اثنان: جانب يتعلق بالفروع السلوكية المتمثلة في أحكام الشريعة الإسلاميّة من عبادات ومعاملات وغيرها. وجانب يتعلق بالأصول الاعتقادية.
أما أثر قواعد أصول الفقه في الجانب الأول من مذهب الشيعة فواضح جلي، بل إن أثره في ربط الصلات بينه وبين مذهب أهل السنة والجماعة في أحكام الفروع لا يتخلف عن أثر هذه القواعد في إيجاد الصلات الوثقى بين المذاهب الفقهية المتعددة عند أهل السنة والجماعة. إذ أن المذهبين يستندان إلى علم أصول الفقه وقواعد تفسير النصوص، ويحفلان بها على مستوى واحد.
وأما أثر هذه القواعد في الجانب الاعتقادي من مذهب الشيعة، فضعيف بل لا يكاد يتبين منه شيء.
ومرد ذلك إلى الأصل الهام الذي يتمسك به الشيعة، وهو قصر رواية الحديث على آل البيت، ورد كل أوجل الروايات التي يتلقونها عن غيرهم من سائر الصحابة أو التابعين. هذا إلى جانب أن لهم قواعدهم الخاصة في التحمل والرواية وشروط كل منها. فلصحة الحديث وضعفه ضوابطها الخاصة بهم والمعتمدة عندهم.
فهذا النهج الذي انفردوا به في قبول الحديث وروايته ضيق كثيرا من سبل التقارب، بل كاد أن يشل دور قواعد أصول الفقه ويقضى على فاعليتها التي أصبحت محصورة في الفروع الفقهية.
ولعل مساعي التقريب والتقارب كلها تقف عاجزة عند هذا الحاجز.. إذ ليس ثمة ميزان معتمد من الطرفين يمكن أن يتم الاحتكام إليه للقضاء على الاختلاف في هذه المسألة ألا وهي مسألة الرواية عن الصحابة بمن فيهم آل البيت: هل العبرة بقبول الرواية عدالة الراوي، أم العبرة بقبولها عصمة الراوي؟ وهل الصحابة الذين ثبتت لهم صفة الصحبة عدول كلهم. أم إنهم أو جلهم ليسوا بعدول؟
هذه المسألة الخلافية، لا يوجد ميزان جامع لعرضها من قبل الطرفين معا.
غير أنه يبقى سبيل آخر للتقارب في هذه المسألة، و أن يعذر كل فريق صاحبه فيما هداه إليه اجتهاده، وبذلك يتحول الخلاف بكل نتائجه وآثاره إلى اختلاف تعاوني مقبول، بدلا من أن يكون خلافا تقاطعيا مثيرا للجدل.
وبعد فكما أن قواعد أصول الفقه لعبت دورا كبيرا فيما مضى في التقريب بين المذاهب الاجتهادية المختلفة، بل في القضاء على كثير من الاختلافات، فإنها تعتبر المرشح الأول اليوم لأن تلعب الدور ذاته. ولكن نجاحها في ذلك رهن بشرط لابد منه، هو أن يتخلى أصحاب الآراء والمذاهب المختلفة عن عصبياتهم وأهوائهم، ورغبة الانتصار لانتماءاتهم أيا كانت وكيفما كانت، وأن تتجرد عقولهم ومشاعرهم لرغبة واحدة، هي تحقيق مرضاة الله والوصول إلى الحق الذي شرعه وأمر به.
لقد وجد هذا الشرط فيما مضى، أو في أكثر الظروف والحالات، فنجحت قواعد هذا العلم في جمع الشمل والقضاء على الخلافات الحادة المتقاطعة.
فهل سيتحقق هذا الشرط في عصرنا هذا أيضاً، لتتمكن قواعد الأصول من النهوض بالدور الكبير الذي نهضت به من قبل. وهذا هو رجاؤنا والحمد لله رب العالمين. مجلة التقريب نت - العدد الاول